أماكن العبور في قصيدة «الخيط المشدود في شجرة السرو» لنازك الملائكة: دراسة رمزيةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-10-02 00:46:27

د. سليم قسطي

أستاذ مبرز في الأدب العربي القديم جامعة السربون باريس 4

الملخص

إننا نتساءل ما هي الأماكن التي اختارتها نازك الملائكة لتعرض قصتها؟ إلام ترمز الفضاءات المختارة؟ كلها أسئلة تتبلور حول مفهوم المكان أو الحيّز أو الفضاء، لكن الإشكالية الهامة في الرواية هي أماكن العبور: ما هي صور هذه الأماكن؟ كيف يتمّ العبور من مكان إلى آخر؟ وهل هذا العبور حقيقيّ أو مجازيّ؟

إن قراءة أي أثر أدبي هو مسالة شخصية... حينما قرأت ديوان شظايا ورماد وجدت فيه كبرياء وغربة. لمحت صراعًا وجنازات ويوتوبيا، عثرت على وجوه ومرايا وذكريات وجبال وخرافات. قرأت تواريخ وألغاز وتهمًا. أبحرت مع القطار الذي مرّ مع الجرح الغاضب، مع الباحثة عن الغد ومع الأفعوان. كانت مغامرة شيقة كنت آمل فيها العثور على الأسرار التي اختلجت نازك الملائكة. كانت الكلمات سهلة لكن الرموز اختفت وصعبت رحلتي. كيف أجمع الشظايا وكيف أستطيع أن أبعث الرماد من جديد؟ لهذا كان مصطلح الفضاء أو المكان الزاوية التي اخترتها للدخول إلى دهاليز الديوان وكانت آخر قصيدة في الديوان، "الخيط المشدود في شجرة السرو"، محطة تحليلي.

إنها القصيدة الوحيدة في الديوان الذي نظم في سنة 1949 التي تحتوي على مقاطع مرقمة وكان العدد سبعة. في دواوينها الأربعة الأولى، "عاشقة الليل" 1947، "شظايا ورماد" 1949، "قرارة الموجة" 1957 و"شجرة القمر" 1968، نجد قصيدتين مرقمتين بالمقاطع والعدد واحد هو سبعة: إنهما "الخيط المشدود في شجرة السرو"، و"شجرة القمر"٠ إلا أن الفرق واضح في شكلهما وإيقاعهما. ففي "شجرة القمر"، كانت الأبيات مكونة من سطرين بروي واحد فهي تقول:

على قمّة من جبال الشمال كساها الصنوبرْ

وغلّفها أفُقٌ مُخْمليّ وجو مُعَنْبَر ْ

وترسو الفراشاتُ عند ذُراها لتقضي المساءْ

وعند ينابيعها تستحمّ نجومُ السمَاءْ

أما في "الخيط المشدود في شجرة السرو"، فنظام السطرين المنتظمين يختل. وهي إحدى القصائد العشر التي خرجت عن المألوف الإيقاعي "شظايا ورماد" الصادر سنة 1949 هو الذي دعوت في مقدمته إلى الشعر الحر دعوة متحمسة فلم تكن فيه إلا عشر قصائد حرة بينما كانت القصائد الأخرى جميعا تنتمي إلى الأوزان الشطرية". فهي تقول مثلاً:

في سواد الشارع المظلم والصمت الأصمّ

حيث لا لون سوى لون الدياجي المدلهمّ

حيث يرخي شجر الدفل ى أساه

فوق وجه الأرض ظلاّ،

قصة حدّثني صوت بها ثم اضمحلا

لكن ما يهمنا في هذا المقال، هو المكان أو الفضاء1، وخاصة، إن علمنا أن القصيدة تسرد قصة رجل فقد حبيبته، وإن قلنا "قصة" ذكرنا أسسها الثلاثة: زمان ومكان وشخصيات. يعتبر المكان لبنة أساسية في بناء الخطاب السردي. فيه يتبلور الزمان وتتحرك الشخصيات وتنشأ الأحداث. إن إشكالية المكان كمفهوم رومنتيكي لهامة لأنها تحمل في طياتها مسألة الوصف عامة ومسألة التمثيلات والرموز بالخصوص.

إننا نتساءل ما هي الأماكن التي اختارتها نازك الملائكة لتعرض قصتها؟ إلام ترمز الفضاءات المختارة؟ كلها أسئلة تتبلور حول مفهوم المكان أو الحيّز أو الفضاء، لكن الإشكالية الهامة في الرواية هي أماكن العبور: ما هي صور هذه الأماكن؟ كيف يتمّ العبور من مكان إلى آخر؟ وهل هذا العبور حقيقيّ أو مجازيّ؟

إن الفضاء لبنة هامة في هذه القصيدة، لكن السؤال الهام هو: ما هي الرموز التي يترجمها؟ وللإجابة عن هذه الإشكالية، ارتأينا أن نخصص جزء من المقال للحديث عن أماكن العبور ورمزيتها، ثم في الجزء الثاني نركز على الأشياء التي يعج بها الفضاء. وستكون دراستنا رمزية لأنّ نازك الملائكة تؤمن بعبقريّة القارئ العربيٌ: "والواقع أن القارئ العربي يتهرب من الشعر الرمزي، لأن اللغة تجابه التعبير عن مثل هذه الأحاسيس المبهمة أول مرة. فليس غريبًا أن تتلكأ قليلا وتتوتر. أما تعليل الأمر بأن ذاتية العربي تنفر بطبعها من الرموز ولا تجد جمالاً في الدهاليز التي تتلوى وراء الحس، والعوالم الخفية التي يعسر إدراكها، فأمر لا أعتقد به أنا على الأقل"2.

 1 - المعبر الثابت

عادة يحوي مصطلح العبور فضاءين: فضاء زماني، فالزمان يمر والسنين تتوالى وفضاء مكاني الذي يترجم بحركة آلية: الانتقال من مكان إلى آخر3. يحاول الحبيب تعدي حدود عالمه الضيق المتمثل في الخارج وكسر قيود سجنه المتمثل في الكآبة دون الحبيبة٠ إنه يبحث دومًا عن فسح للتحرر الذي لا يتأتّى إلا بوجود أماكن عبور تساعد بشكل كبير أو قليل على تحقيق هذا الحلم.

هذا الانتقال قد يكون ماديًا أو معنويًا. إنك تمر من مكان إلى آخر، كما أنك تمر من حالة شعورية إلى أخرى. وإن كان هناك عبور فيعني وجود حدود بين الداخل والخارج، القريب والبعيد والهنا والهناك4. في القصيدة، تلمح وجود ثلاثة أشكال مكانية للعبور: العبور الثابت أقصد الباب، العبور الخطي أقصد الدهليز والعبور المتاهة أقصد الشارع.

لقد اِنصبّ اِهتمامي وأنا أقرأ القصيدة على مكان عبور أساسيّ وهو الباب الذي يسمّى في المصطلح الطوبولوجي "المكان الثابت".

يصل البطل أخيرًا إلى البيت الذي حوى ذكريات الغرام وأحلام الهيام.. ففي المقطوعة الثانية نقرأ:

وترى البيت أخيرا

بيتنا، حيث التقينا

عندما كان هوانا ذلك الطفل الغريرا

لونه في شفتينا

وارتعاشات صباه في يدينا

إنه بيت الطفولة حيث ولد الحب جميلا.. إنه يلمح البيت على عهده القديم.. أو بالأحرى يريد أن يراه كما كان يومًا. ففي المقطوعة الثالثة نقرأ:

"ها هو البيت كما كان، هناك

لم يزل تحجبه الدفلى ويحنو..

فوقه النرنج والسرو الأغنّ

وهنا مجلسنا..

ماذا أحسّ؟

حيرة في عمق أعماقي، وهمس

ونذير يتحدّى حلم قلبي

ربما كانت.. ولكن فيم رعبي؟

هي ما زالت على عهد هو أنا

هي ما زالت حنانا

وستلقاني تحاياها كما كنا قديما

وستلقاني..."

أمام الباب، وقف البطل يتساءل. الباب كان مغلقًا في البداية.. باب غرس في قلب البطل الخوف.. فلونه لم يذكر بصفته بصرية يلمحها دون عناء. بل ذكر بنعت بسيكولوجي، إنه العمق الذي لا تألفه الحواس بل يترجمه الشعور. خلف الباب، إنه يسمع الخطى لكن لا يرى أحدًا.

ها أنا وقد فارقت أكداس ذنوبي

ها أنا ألمح عينيك تطلّ

ربما كنت وراء الباب، أو يخفيك ظلّ

ها أنا عدت، وهذا السلّم

هو ذا الباب العميق اللون، مالي أحجم؟

لحظة ثم أراها

لحظة ثم أعي وقع خطاها

إن الباب هنا يفصل عالم الحبيب الخارجي الكبير عن العالم الصغير للبيت. يظهر الباب المغلق وكأنه شخصية بروح ودم يثير الخوف والفزع ممّا وراءه: فالحبيب يحسّ برعب يهد الفرائس بما خلف الباب. فالباب المغلق هو الضمان الوحيد للحبيب للعيش في أمان دون قلق من المجهول. فالباب مكان عبور بين عالمين، بين المعروف والمجهول، بين الظلمة والنور بين الغياب والحضور. الباب يفتح العين أمام اللغز. إنه يحمل قيمة حركية وإن كان ثابتًا، وكذا قيمة نفسية: لأنه لا يضع فسحة للعبور فحسب، بل يدعو الإنسان إلى عبورها.

إنه دعوة إلى السفر إلى مكان مجهول، فأنت عالم بالمكان الذي أنت فيه. وهذا الباب المكان الذي وصلت إليه يفتح لك فرص العبور إلى أماكن لا تعرف كنهها. ولأنه يحتل المكان الوسط، فهو بين بين ويلعب دورًا هامًا في خلق الخيال .. إنه يجيب عن أسئلة القابع أمامه وكأنه حلم يقظة. إن الباب يربط بين المغلق والمفتوح، الخاص والعام.       

إنّ الباب رغم ثباته يحمل قيمة حركيّة نفسيّة، فهو ليس مكان خروج فحسب بل دعوة صريحة إلى السفر إلى عالم آخر أكثر علوًّا وخصوبة.. فالباب كما يقول بشلار: "يحمل الصورة الأصيلة للحلم حيث تجتمع نوازع اللذّة لكشف الآخر وأسراره، الآخر المكان، الآخر الإنسان والآخر القيمة"5. 

إنّ حركة الوقوف أمام الباب مفتوحًا أو مغلقًا، أو حركة العبور من خلال الباب ليست مجرّد تسيير للمكان إنما هو اِستعارة لواقع بسيكولوجي الحبيب. أمامه، فإنّ المرء مختار مدفوع بمشاعر الجبن والشجاعة، القبول والرفض، الجمود والحركة، القيد والحرية، الموت والحياة.

الباب المغلق صار مرادفًا للخوف والرعب. الخوف من المجهول، ولكي يتعدى البطل هذه الحالة النفسية، عليه أن يفتح الباب، وفتحه يفتح إمكانيات كثيرة. فقد يلقى النور كما قد يلقى الظلام العميم. إنه مخير بين أن يبقى رهين الخوف أو يمر إلى العالم الآخر.

ليكن .. فلأطرق الباب .."

وتمضي لحظات

ويصرّ الباب في صوت كئيب النبرات

وترى في ظلمة الدهليز وجها شاحبا

جامدا يعكس ظلاّ غاربا:

" هل..؟ ويخبو صوتك المبحوح في نبر حزين

لا تقولي إنها.."

" يا للجنون"

وفتح الباب... كان الباب مغلقًا، يحبس البطل وفي آن واحد يحميه من فظاعة ما يختفي وراء الباب. فظاعة ترجمها الصوت الخافت لكن الحامل لكل ما يؤرق الفؤاد.

2. العبور الخطي

في هذه المقطوعة حضور لثلاثة أشكال من العبور الخطي: هناك الممر ثم السلم وأخيرًا الدهليز. وإذا كانت هذه الاشكال داخلية، فإنها أيضًا تقدم لنا صورة عن العالم الخارجي.

وتمشي مطمئنا هادئا

في الممر المظلم الساكن، تمشي هازئا

بهتاف الهاجس المنذر بالوهم الكذوب:

[...]

ربما كنت وراء الباب، أو يخفيك ظلّ

ها أنا عدت، وهذا السلّم

[...]

وترى في ظلمة الدهليز وجهًا شاحبًا

جامدا يعكس ظلاّ غاربا:

" هل..؟ ويخبو صوتك المبحوح في نبر حزين

لا تقولي إنها.."

" يا للجنون"

إننا نجد نقطة مشتركة بين الممر والدهليز، وهي الظلمة في البداية6. كان الممر مظلمًا لكن ساكنًا. لم يستطع أن يقتل في البطل أمله في العثور على حبيبته. إن هذا الممر مكان عبور نحس به فسحة أمل وفرصة يستطيع من خلالها الحبيب الولوج الى عالم عشيقته. وراء الباب تخيل حبيبته، ويأتي الشكل الثاني من المعابر الخطية وهو السلم.

إذا كان الممر أفقيًا يصل بين مكانين من نفس المستوى فإن السلم ممر يصل عالمين: سفلي وعلوي. وإننا نظن أن البطل يصعد السلم لكي يصل إلى باب حبيبته. وكلما قطع الحبيب المسافات، كلما فقد الإحساس بالطمأنينة وبالسكينة التي شعر بها في أول ممر، ليفقدها جزئيا حين صعد السلم وكان أمام الباب العميق اللون.. ولينفصل عنها نهائيا في ظلمة الدهاليز.

إننا نعلم يقينًا أن من ميزات الدهليز هو الظلمة. ولكن نازك الملائكة أصرت على وضع هذه الصفة لتبين ما يختفي وراء هذه الظلمة: وجه شاحب لا يغشى السواد لونه الفظيع العليل. إن الدهاليز تذكرنا بالممرات السرية التي عجت بها حكايات ألف ليلة وليلة، الدهاليز التي كان يمر من خلالها العاشقون للقاء حبيباتهم، أو أن تتخذها النساء للفرار من الحرم المخيف. إلا أنها هنا لم تكن مفرًا بل كانت معبرًا يزيد في قلق البطل. فالدهليز طويل ومن يتخذه ينتظر دوما فسحة نور كمثل ضرير يريد ضوء الشمس. وبقي الظلام وكأنه يوحي بحصول أمر فظيع، وإنّ الأسود لهو اللون الذي يرمز بصدق الى العدم والموت.

 ونلاحظ التدرج الفظيع في الألوان والأصوات: شحوب جمود، غروب، بحة صوت، نبر حزين.. ويتمازج الصوت واللون ليكونان الجنون ثم الموت.

3. معبر المتاهة

في بداية القصيدة، تبدأ نازك الملائكة بالحديث عن الشارع الذي امتاز بظلمته وصمته:

في سواد الشارع المظلم والصمت الأصمّ

حيث لا لون سوى لون الدياجي المدلهمّ

حيث يرخي شجر الدفلى أساه

فوق وجه الأرض ظلاّ،

في الحقيقة أن الشوارع لها شكل سطحي بسيط، وقد عبرت نازك عن ذلك بمفردة "وجه الأرض". لكن تقاطع الشوارع وتوازيها وتداخلها يجعل منها الشكل الأمثل الذي يكون المتاهات.  "حتى إذا لذنا باللابرنت "labyrinth"، وهو تيه معقد المسالك يدخله المرء فلا يملك مغادرته لالتواء طرقه وكثرة أبوابه"7. من جهة فإن الشارع، يساعد على الوصل بين الأماكن ويدفع الشخصيات الى الحراك واتخاذ القرارات في اختيار الجهات، يمينًا وشمالاً، تقدمًا أو تأخرًا. إن الشارع يقيم تضادًا بين المكان الذي انطلقنا منه والذي سنصله. الحبيب يتخذ الشارع معبرًا للوصول إلى حبيبته رغم الظلام البهيم"لون الدياجي المدلهمّ".

إن الحبيب هو سجين هذا الصمت والظلام، وإن الشارع هو السلطان أمام الحبيب الوحيد. الشارع هو السلطان لأنه إله المتاهات، هو الذي يرى، هو الذي يقرر:

تضغط الذكرى على صدرك عبئًا

من جنون، ثم لا تلمس شيئًا

أيّ شيء، حلم لفظ رقيق

أيّ شيء، ويناديك الطريق

فتفيق..

ويراك الليل في الدرب وحيدا

تسأل الأمس البعيدا

أن يعودا

ويراك الشارع الحالم والدفلى، تسير

لون عينيك انفعال وحبور

وعلى وجهك حبّ وشعور

الشارع هنا، هو من دق أجراس التشاؤم عند الحبيب. وإن كانت المتاهة، في الحقيقة، وسيلة للفرار من العيون، تدفع الماشي فيها إلى التفكير، فإنها هنا، قدر محتوم على الحبيب، إنها العدم الذي قتل كل أشكال الفرح، فكانت جنازة المرح، كما عنونت نازك الملائكة إحدى قصائد الديوان.

إن كل هذه الأماكن، أماكن العبور لم تكن للحبيب متنفسا، بل إنها نقلته إلى عالم كان يظنه ورديًا بديعًا، فوجد الموت ينتظره.. موت الحبيبة. اجتاز المعابر، الشارع، الممر، الدهليز، الباب، ليصل ويسمع لفظة واحدة: "ماتت". عبر الأماكن ليصل إلى مكان واحد، راح يحملق فيه حائرًا فهي تقول:

" هل..؟ ويخبو صوتك المبحوح في نبر حزين

لا تقولي إنها.."

"يا للجنون ‍

أيها الحالم، عمّن تسال؟

أنها ماتت"

كانت لفظة "ماتت" تصم الآذان. ولقد تكررت خمس عشرة مرة في القصيدة، ونرى في كل مقطوعة ارتفاع في مستوى وقع هذه الكلمة، في البداية كانت خبرًا

أيها الحالم، عمّن تسال؟

أنها ماتت"

وتمضي لحظتان

ثم صوتا

ويرنّ الصوت في سمعك: "ماتت.."

"إنها ماتت.." وترنو في برود

ثم ضخامة

وترى الوجه الحزين

ضخّمته سحب الرّعب على عينيك "ماتت.."

 تحولت إلى لفظ دون معنى

هي "ماتت.." لفظة من دون معنى

 ثم دوت وصارت صدى مليا

وصدى مطرقة جوفاء يعلو ثم يفنى

صوت "ماتت.." داويا، لا يضمحلّ

يملأ الليل صراخًا ودويًا

"إنها ماتت" صدى يهمسه الصوت مليا

وهتاف رددته الظلمات

وروته شجرات السرو في صوت عميق

 وراحت العواصف تكررها، تنقلها إلى النجوم

"إنها ماتت" وهذا ما تقول العاصفات

"إنها ماتت" صدى يصرخ في النجم السحيق

وتكاد الآن أن تسمعه خلف العروق

وفي المقطوعة الخامسة، تعم كل مكان. صارت صوتًا خانقًا كالأفعوان ومطرقة جوفاء.

صوت ماتت رنّ في كلّ مكان

هذه المطرقة الجوفاء في سمع الزمان

صوت "ماتت" خانق كالأفعوان

كلّ حرف عصب يلهث في صدرك رعبا

ورؤى مشنقة حمراء لا تملك قلبا

وتجني مخلب مختلج ينهش نهشا

وصدى صوت جحيميّ أجشا

هذه المطرقة الجوفاء: "ماتت"

إن لفظة "أفعوان" هنا تحملنا إلى حنايا قصيدة "العنفوان" في الديوان نفسه، حيث تقول نازك الملائكة واصفة هذا العدو الأفعوان:

أين أمشــى؟ مللـــت الــدروب

وسئمــت المـروج

والعــدو الخفي اللجـوج

لم يــزل يقتفــى خطواتــي فأين الهروب؟

الممرات والطـــرق الذاهبــــات؟

بالأغاني إلى كل أفق غريــب

ودروب الحيــــاة

والدهاليز في ظلمات الدجى الحالكـــات

وزوايا النهار الجــــديب

جبتها كلها، وعدوى الخفي العنيـــد

صامد كجبال الجليــد

إن هذه المقطوعة مليئة بالمعابر (الــدروب، الممرات، الطـــرق، الدهاليز) التي ملتها الشاعرة لأنها لا تنقل إلا إلى أماكن الدمار، معابر لا تساعد النفس على الفرار من الأفعوان، الموت والعدم. "أما قصيدة الأفعوان فقد عبرت فيها عن الإحساس الخفي الذي يعترينا أحيانا بأن قوة مجهولة جبارة، تطاردنا مطاردة نفسية ملحة، وكثيرًا ما تكون هذه القوة مجموعة من الذكريات المحزنة، أو هي الندم، أو عادة نمقتها في سلوكنا الخارجي، أو صورة مخيفة قابلناها، فلم نعد نستطيع نسيانها، أو هي النفس بما لها من رغبات وما فيها من ضعف وشرود، أو أي شيء آخر... فالأمر متوقف على ذاتية القارئ وليس يعنيه أن أعين، "أفعواني" أنا، فذلك الأمر ثانوي وإنما المهم أن هذا الأفعوان يطاردنا باستمرار وسدى نتهرب منه".

نعم ماتت الحبيبة، ليعود الحبيب شاردًا وبقت هي آلهة الأصوات.

 "إنها ماتت.." وتمضي شاردا

[...]

هو هذا الخيط، واللفظ الصفيق

لفظ " ماتت" وانطوى كلّ هتاف ما عداه

لقد غمرت لفظة "ماتت" القصيدة كمثل ما كانت في أروع ما كتبته نازك الملائكة وكان في نفس الديوان، إنه قصيدة "الكوليرا" التي كتبتها لتصف هذا الوباء الذي نسف مصر. في القصيدة ذكر الفعل مرة واحدة، بينما المصدر واحد وعشرون مرة والأموات ست مرات:

عشرةُ أمواتٍ، عشرونا

لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا

اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين

مَوْتَى، مَوْتَى، ضاعَ العددُ

مَوْتَى، موتَى، لم يَبْقَ غَدُ

في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ

لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ

هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ

الموتُ الموتُ الموتْ

تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ

الكوليرا

الموت كان في قصيدة "الكوليرا"، حصل وثبت الأمر، لكنه في قصيدة "الخيط المشدود"، كان حركة فهو مازال يطارد الحبيب لهذا نقرأ في المقطوعة الأخيرة رقم-7- ما يلي:

ويراك الليل تمشي عائدا

في يديك الخيط، والرعشة، والعرق المدوّي

"إنها ماتت.." وتمضي شاردا

عابثا بالخيط تطويه وتلوي

حول إبهامك أخراه، فلا شيء سواه،

كلّ ما أبقى لك الحبّ العميق

هو هذا الخيط، واللفظ الصفيق

لفظ " ماتت" وانطوى كلّ هتاف ما عداه

إن الأماكن التي اِختارتها الشاعرة في القصيدة تبرز ثنائية الاِنفتاح والاِنغلاق. هذه الثنائية ترمز إلى تحدّي الشاعرة المرأة في صورة الحبيب ضدّ كلّ أشكال العبوديّة. هناك فعلان في هذه الصفحات: فعل الرفض الذي يمثله الحبيب في البداية وفعل القبول الذي يحركه العاشق في النهاية، فعل الاِنغلاق الذي يحبذه الحبيب أمام الخيط المشدود وفعل الاِنفتاح الذي يبرز حين يعود الحبيب لإيجاد فسحات للخلاص من حالة الشوق. ففي "الخيط المشدود في شجرة السرو"، حاولت رسم صورة شعرية للانفعالات والخواطر التي اعترت شابا فوجئ بنبإ موت حبيبته.  وسيلاحظ أن القصة العاطفية في هذه القصيدة ثانوية الأهمية بالنسبة للخيط المشدود في الشجرة، وما كان له صلة وثيقة بشرود الشاب المصدوم، وفي حالة الهذيان التي اعترته. فعقدة القصيدة تعتمد على الحالة التي تعتري إنسانا يتلقى نبأ مثيرًا فاجعًا لا يتوقعه. فهو إذ ذاك يصاب بشرود كبير عميق، ويبدو أنه لم يسمع النبأ، ويتلفت حوله فتعلق عيناه بأول شيء تافه يصادفه، فيغرق في التفكير فيه. وقد كان الشيء التافه في هذه القصيدة هو الخيط. كان مشدودًا في شجرة سرو تقوم عند الباب، فانشغل العقل المصدوم بالتفكير فيه، ويبقى منشغلا حتى عاد إليه وعيه وإدراك فداحة المأساة التي نزلت به".

 

الهوامش:

 -1 Voir pour plus d’informations sur le sujet de l’espace dans la littérature : Paul, RICOEUR, Temps et récit, Paris, Seuil, , 1983, p 17 et Jean, WEISBERGER, L’espace romanesque, Lausanne, L’âge d’Homme, 1978, p 13.

2  - Henry, MITTERANT, Poétique de l’espace, Paris, PUF, 1994, p. 5..

3  - Henry, MITTERRAND, Le lieu et le sens, le discours du roman, Paris, PUF, 1988, p. 194.

4 - Louri, LOTMAN, La structure du texte artistique, Paris, Gallimard, (pour la traduction française), 1973, p. 321

5 - Gaston, BACHELARD, Poétique de l’espace, Paris, Presses Universitaires de France, 1967, p. 77.

6  - Jean CHEVALIER, Alain CHERBERANT, Dictionnaire des symboles, Paris, Rober Laffont/Jupiter, 1982, pp. 779 - 781.

7 - Henry, MITTERRAND, Le lieu et le sens, le discours du roman, Paris, PUF, 1988, p. 194.

 

المراجع:

- Gaston, BACHELARD, Poétique de l’espace, Paris, Presses Universitaires de France, 1967.

- Jean, CHEVALIER, Alain, CHERBERANT, Dictionnaire des symboles, Paris, Rober Laffont/Jupiter, 1982.

- Louri, LOTMAN, La structure du texte artistique, Paris, Gallimard, (pour la traduction française), 1973.

- Henry, MITTERANT, Poétique de l’espace, Paris, PUF, 1994.

 - Henr,y MITTERRAND, Le lieu et le sens, le discours du roman, Paris, PUF, 1988.

Paul, RICOEUR, Temps et récit, Paris, Seuil, 1983

 - Jean, WEISBERGER, L’espace romanesque, Lausanne, L’âge d’Homme, 1978.


عدد القراء: 5542

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-