مكتبة «مونْتِينْيْ» المُتكلِّمةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-01-30 21:51:37

نبيل موميد

أستاذ مُبَرَّز في اللغة العربية، مركز أقسام تحضير شهادة التقني العالي - أغادير – المغرب

ترجمة وتقديم: نبيل موميد

تقديم:

تحت شعار الحكمة اليونانية "الدِّلْفِيَّة" الشَّهيرة: "اعرف نفسك بنفسك"، انطلق الكاتب الإنساني "ميشيل دو مونتيني" (1533-1592) في صياغة كتابه المحاولات، بوصفه أول كتاب هام يصدر في أوروبا باللغة الفرنسية عوض اللغة اللاتينية، وباعتباره أيضًا أول كتاب يتخذ من الحديث عن الذات مادته الأساس. ذلك أنه كان مشغولاً بالبحث عن أنسب السبل من أجل التواصل مع الآخر، مؤمنًا بفكرة أن معرفة الذات هي مفتاح نجاح هذه العملية. وهو بهذا كان من أشد مناهضي التعصب الديني، والتطرّف المذهبي اللذين كانا سائدين في عصره، لصالح الدعوة إلى التسامح، وحب الغير، واحترام التباين والاختلاف.

ويعود السبب الحقيقي لتأليف "مونتيني" لكتابه هذا إلى وفاة صديقه المقرب "دو لا بويسي"؛ حيث اتخذ قراره بالانعزال في قلعته، جاعلاً من أحد أبراجها غرفة لمكتبته؛ غير أنها لم تكن كباقي مكتبات عصره، ولا حتى مكتبات زماننا هذا، بل إنه عمل على جعلها "مكتبة ناطقة" من خلال تزيينها بنقوش لأمثال يونانية ولاتينية متناثرة هنا وهناك، ولاسيما على دعامات سقفها، بما يشكل مرجعا هاما لفهم تصور "مونتيني" لعصره، وللعلاقة مع الآخر، وحتى لما كان يعتلج في دواخله.

لنستمع إذن إلى "مونتيني"، أو إلى مكتبته إن شئنا الدقة وهي تقدم شهادة تاريخية وأدبية من الأهمية بمكان.

نص التعريب:

"مكتبتي" أو خزانة كتبي، "أكثر أماكن منزلي بدون فائدة تُذْكر" [بالنسبة إلى الآخرين]، غير أنها بالنسبة إليَّ اليوم بمثابة "المقر" الذي أصرف فيه "أغلب أيام حياتي، وجل ساعات يومي"، مستمتعًا بالسطوة الخالصة التي تمارسها عليَّ، وخاصة بإغوائها لي في كل لحظة وحين.

كُتبت هذه الأسطر في السنوات الأخيرة من حياة "مونتيني Michel de Montaigne"  بين سنتي 1588، و1592. وقبل هذا التاريخ بعقدين من الزمان، احتفى "مونتيني" بتدشينه لمسار حياة يعطي فيها الأولوية المطلقة لذاته، وذلك من خلال نقوش مهيبة حملت التالي: "في عام المسيح 1571، عندما بلغ مونتيني الثامنة والثلاثين من عمره عشية مستهل شهر مارس؛ وهو تاريخ عيد ميلاده، وبسبب نُفوره من خدمة البلاط والمسؤوليات العامة (...) خصص هذه الإقامة ـــ بوصفها الملجأ الهادئ لأجداده ــــ لحريته، ولراحته، ولمتعته الخاصة". 

خلال سنتي (1571-1572) حاول "مونتيني" أن يُجهِّز غرفتي برجٍ بمقر إقامته، بوصفه إطارًا مثاليًا يضمن له أن يكون في نفس الآن بعيدًا عن سَكَن أسرته، وأيضًا قريبًا منه للاعتناء بها. وهكذا ستكون مكتبة "مونتيني" فضاءً مميَّزًا مزدوج الوظيفة؛ فهو مكان ممارسة ما أسماه بـ "تجارة الكتب"، وأيضًا مكان للاحتفاء بـ "رابطة الصداقة"، مصداقًا لنقش يهدي من خلاله "مونتيني" المكتبة برمتها إلى [صديقه الحميم] "إيتيان دو لا بويسي Estienne de la Boétie".

وقد ألحق "مونتيني" الكتب التي أخذها من صديقه بكتبه الخاصة، مقسمًا إياها إلى خمسة أقسام (أو "دَرَجَات" كما أسماها)، تبعا لاستدارة جدار البرج. وعلى السقف الجبصي الأبيض، كتب "مونتيني" بالفحم الأسود سلسلة أولى من الجمل أو "الأمثال" الإغريقية واللاتينية: ثمانية نقوش منها تحمل تعويذة، كانت محفورة في الدعامتين الأساسيتين للبرج، واللتين تُقسِّمان مساحة المكتبة إلى ثلاثة أقسام، بينما نقشت ستة وأربعون أخرى على ثمانٍ وأربعين دعامة خشبية تحملها الدعامتان الأساسيتان. بل إن بعض الشهود العيان، أكدوا [في وقت سابق بالطبع] أنه في نهاية القرن الثامن عشر وُجدت نقوش أخرى متناثرة هنا وهناك على الأرضية، وبين الدعامات الخشبية، وحتى على رفوف خزانة الكتب. باختصار، وكأننا أمام النموذج الإنساني الذي كان "إيرازم Erasme" يطمح إليه؛ ونقصد بذلك: "منزل يتكلم"! وهذه الكلمات والجمل جمعها "مونتيني" من تضاعيف كتب "إيرازم"، وخاصة من كتاب "ستوبي Stobée" (وهو كتاب منتخبات أمثال إغريقية منظمة بطريقة تحمل وجهات النظر المختلفة من موضوع ما: مع الزواج أو ضده مثلاً...)، وأيضا من كتب "هوراس Horace"، و"لوكريس Lucrèce"، و"مارسيال Martial". وتشكل هذه الأمثال في مجموعها وصفة لفن العيش؛ وذلك من خلال التركيز على الحفاظ على الصحة، وعلى حسن التدبير، وعلى الاستقلالية، وعلى احترام الذات الإلهية والخضوع لها.

إلى جانب ما تحمله هذه الأمثال صغيرة الحجم، التي نجح "مونتيني" في استخراجها من بطون كتب عدة، من تلميحات إلى حياته الشخصية (فقدان الصديق، ومشاكل الزواج، والتفكير في الموت)، فهي أيضًا بمثابة نقد لـ"الدين الجديد" الإصلاحي [أي البروتستانتية]. وعلى هذا الأساس، تشكل هذه الأمثال قاعدة لفلسفة "مونتيني" الارتيابية والعلاجية في نفس الآن. إنها علاج من خلال ممارسة الشك الذي يحرر الفرد من طغيان الرأي الوحيد، بما هو مصدر للمعاناة والغرور.

في جانب من جوانب جدار بدون نوافذ، لنستمع إلى الدعامة الخشبية الصغيرة التي تحمل رقم ستة وأربعين وهي تقول: "لا أَحُدُّ شيئًا"؛ وكأنها تقول إنها بمثابة انفتاح على العالم.

قبل 1580، أضاف "مونتيني" إلى هذه النصوص البوليفونية [متعددة الأصوات] نصوصًا توراتية اجتزأها أساسا من سِفْر الجامعة. ومن هذا، فجهل الإنسان مسألة كونية، لا تعادله سوى معاناته التي لا تطاق، وادعاءاته بالحكمة والتمكُّن من العلوم، وكذا جحوده بالذات الإلهية. لذلك، يبقى الحل الوحيد المقترح لتجاوز إفلاس كل العلوم والمعارف الإنسانية، كامنًا في احترام الذات الإلهية والخضوع لها. وبعبارة أخرى، قناعة الإنسان بما يمتلكه حتى يستطيع الاستمتاع باللحظة الراهنة، وذلك برعاية القدير المتعالي. هذا هو الدرس السماوي المستفاد من هذه النقوش المحفورة على دعامات مكتبة "مونتيني"، والتي تم التعرف على ثمانية وستين منها، وحُدِّد مكان خمسة وسبعين أُخرى.

ومن بين الأمثال المكشوف عنها حديثا في المكتبة، نجد عددًا منها في قلب أكبر فصل من فصول محاولات Essais "مونتيني": فصل "دفاع عن ريموند سيبون" (الكتاب الثاني، الفصل الثاني عشر)، متناغمة مع تعابير "سيكتوس أمبيريكوس الشَّكَّاك Sextus le Sceptique"، على هذه الشاكلة إذن تظهر العلاقة بين "الصوت الارتيابي"، و"الكلام الإلهي" مساهِمةً بشكل محوري في صياغة أكثر الصفحات فلسفية من كتاب المحاولات.

وعلى متأمل هذه الأمثال أن يكون حذرًا متيقظًا وشديد الانتباه؛ ذلك أن النقوش لا تتجه كلها في كتابتها نفس الاتجاه؛ فنقوش القسم الأول المواجه لمدخل المكتبة، والقسم الثاني في الوسط مكتوبة في اتجاه معاكس لتلك النقوش المكتوبة في القسم الثالث يسارًا. ونفس الملاحظة تنسحب على نقوش الدعامات الخشبية الأخرى؛ بحيث إنها تجعل على الدوام مَثَلًا أمام عيني أي "مُتجَوِّل" في المكتبة.

وبقراءتنا للمثل الأخير قبل الخروج من هذه المكتبة، نترك خلف ظهرنا كتبًا، وعلومًا، وكلمات، وتعبًا، وعزَّة نفس تعبِّر بشكل مُسبق عن مضمون المثل الثلاثين المنقوش في نهاية القسم الأوسط: "الاختيال، دائمًا وأبدًا"، في كل شيء، في كل مكان، وفي كل المعارف. وكأن المتجول في المكتبة يقول بينه وبين نفسه ـــ مفكرًا ـــ إن منتهى المعرفة الإنسانية لا يخرج عن أن يكون هو العيش بدون أي همٍّ يُذكر استجابة لذوقنا الخاص.

لنتأمل مرة أخرى القسم الذي يحمل النقش التدشيني لغرفة المكتبة، والذي كتب فيه "مونتيني" حكمته الخاصة حتى يكون مقبولاً أيضًا لدى النساء المثقفات في عصره (نسجل هنا سيادة الألوان، وبعض اللوحات التي تعتمد بالأساس على الخدع البصرية، بالإضافة إلى الخشب المعشوق، والأجساد العارية.) ويتيح ما تبقى من هذه الآثار تخيُّل الإطار الحياتي الذي صاغه "مونتيني" لمتعته الخاصة.

وبالرغم من أنه كان دائم التِّرحال، إلا أنه هنا، داخل هذه المكتبة، وفي هذا البرج بالذات، وُلِد هذا الكاتب الإنساني العظيم، وأبدع أهم مؤلفاته.

 

مصدر النص:

Alain Legros, «Poutres pensantes», Le Nouveau Magazine Littéraire, N: 23, Novembre, 2019, pp: 86-87.

يُذكر أن "ألان لوغرو" أستاذ مُبَرَّز في الآداب الكلاسيكية، متخصص في دراسة أعمال "مونتيني".


عدد القراء: 2755

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-