التواصل مع الغائب..الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-01-31 06:32:54

د. منى بنت صالح الحضيف

باحثة متخصصة في علوم اللغة والمحتوى العربي - السعودية

قال لي: جلست ذات ليلة مع مفكرتي الصغيرة، أبحث فيها عن أوضاع حياتي المتعطلة، يمينها المتعرج، وشمالها الضائع، ويسارها المتوقف، وجنوبها المنقطع.. حارت بي الأفكار وانتهت إلى أني سأبدأ بتصحيح أوضعاها، ولابد أن أبدأ من الصفر. أغلقتُ مفكرتي بعدما سامرتها وخلدت إلى النوم. ليأتي الغد محملًا بخفايا غريبة! اتصل بي شخص غريب، لأعرف كيف جاء ولا لمَ جاء.. ناقشني في بعض الأمور كانت مرتبطة بحواري في الليلة السابقة مع مفكرتي الصغيرة التي ولّدت الشك في نفسي بأنها أباحت أسرار حوارنا!. كان في اتصاله حلًّا تستقيم به بعض تلك الأوضاع التي كنت أبحث فيها، وليس هنا السر.. كيف عرف بها! طالت بيننا الحوارات لأيام رغم أنه غريب عني ولا يعرف من أحوالي أمرًا إلا أنه توقف في نقاشاته على أمور لم يكن أحد قد وقف عليها أو تطرق لها قبله، وعلى أسرار أخفيها.. عازفًا على وترٍ يئنُ في القلب.

يكمل حديثه.. لم يكن ذلك الموقف هو الموقف الوحيد لي بهذه الغرابة، فقبل مدّة كنت مسافرًا إلى مدينة ساحلية، وكنت أتوق لرؤية البحر والوقوف عنده ولو لدقائق ليطفئ وهج الشوق من داخلي، لكن الأمر صعب للغاية فالزيارة قصرة وموعد الرحلة قد اقترب، فاستثقلت الأمر واستحلته، وأنا في الطريق متجه إلى المطار أخذ الحديث مجراه مع السائق، ليسألني عن موعد الرحلة، فقال: الوقت طويل قبل الرحلة، والمطار ممل وكئيب.. لمَ لا آخذك إلى البحر لتتنفس عبقه فالجو جميل؟!.. أخذني الصمت والحوار الداخلي بعيدًا.. هل يمكن أن يكون عقلي قد خانني وأبلغه بما يدور في داخلي؟!!

تتوالى علينا مواقف وأحاديث، نستغرب وصولها إلينا، فنجد أشخاصًا يقرؤون أفكارنا، وكأن عقولنا قد أفشت بأسرارنا معها إليهم، نُصاب بالذهول لما حدث ولا نجد لذلك تفسيرًا.. قد نعيش مشاعر مع أشخاص يصعب لقاؤهم، ولكنهم ملكوا جزءًا كبيرًا من دواخلنا وكأنهم يعيشون في ثنايا أرواحنا، لا تتمثل بالشوق فقط، بل ربما تتجاوزه إلى الشعور به بحزنه وفرحه، وقد تشعر في لحظات بأنه ماثل أمامك وأنت تنظر في عينيه، متأملًا حديثه بطرب واستمتاع، وفي لحظات أخرى تجد نفسك تجيب على تساؤلات خُيّل إليك أنه يسألك!! ولكن هل نطق بها فعلًا؟

استوقفتني تلك المواقف وغيرها مما حُكِيَ لي عن لحظات يعيش فيها الشخص مع غائب جسدًا لكنه ماثل أمامه بروحه.. يعانق وجدانه، يحاوره، يساير مواقفه! حاولت البحث عن تفسير لهذه المواقف أهي صادرة نتيجة لاشتغال الحاسة السادسة التي كثر الحديث عنها؟ أم أنها من توارد الخواطر الذي لا ينكره العلم؟ هل تكون تلك الأحاسيس والمشاعر من نسج الخيال الذي يعيشه الإنسان أم حقيقة؟! أيستطيع الإنسان أن يتواصل مع من يحب حتى وإن فرقت بينهما الحياة، وبَعُدَت بينهم المسافات؟

إن الوقوف على الإجابة الشافية لتلك الأسئلة يتطلب بداية الوقوف عند العقل والتفكير، ومنه ننتقل إلى موضوع التلباثي أو الحاسة السادسة، وحقيقتها، وماذا قال العلم فيها؟!

إن أعظم ما مميز الله سبحانه به الإنسان عن بقية المخلوقات أن وهبه العقل، الذي يفكر به ويتخذ قراراته في شؤون حياته، فيسيّرها وفق تأمله وتدبره فيما يواجهه من أمور، ومن خلاله يقيس الحدود، ويحدد مطالبه واهتماماته، عامرًا للأرض التي خُلق فيها من أجل ذلك. فبالتفكير الذي يقوم به العقل يستطيع الإنسان أن يبني مستقبله ويرسم مسار حياته، والطريقة التي يريد العيش بها بإدراكه للموجودات حوله، ومعرفته التامة بها والتعامل معها واستخدامها، فـ "العقل يحكم كل شيء" .

وتعد المعرفة العقلية "معرفة حقيقية ومثبة تجعلنا نتجاوز المظاهر وندرك حقائق الأشياء". فـــ"حقيقة الإنسان تتجاوز جسمه ومخه ووعيه، بل وعقله، إنه الجوهر الذي يشعر أنك وجود واحد متكامل، يدرك ذاته ويقول عن نفسه أنا" . فالعقل هو ما يربطنا بالحياة ويجعلنا ندرك التفاصيل حولنا، بإدراك موقعنا ومكانتنا فيها، ومن خلال ذلك يثبت الإنسان وجوده ويحدد قيمته بتواصله مع العالم من حوله.

يعمل في عقل الإنسان نظامان مختلفان للمعرفة والإدراك، يتفاعلان لبناء حياته العقلية، النظام الأول: هو العقل المنطقي المسؤول عن فهم ما ندركه، وما هو واضح لنا، ومسؤول عن إدراك ما يحتاج التفكير فيه إلى عمق وتأمل، أما النظام الثاني: فهو نظام العقل الانفعالي العاطفي، وهو نظام قوي يتعامل مع مشاعرنا، ومع الأمور الغامضة والمبهمة في تفكيرنا، متعاملًا مع أمور لا ندركها على مستوى الوعي.  فــ"ما يدركه العقل (المحسوسات- الأفكار- المشاعر – الذكريات...) يتم تجميعه قطعة قطعة عن طريق آليات المخ، فالحواس تستقبل الموجات وتحولها إلى نبضات كهربائية، ثم تمررها إلى مناطق الاستقبال الأولية التي تدركها على هيئة بدائية".

ومن الوظائف العليا التي يمارسها عقل الإنسان "الوعي والشعور بالذات والتفكير والذاكرة واللغة وحرية الإرادة والاختيار واتخاذ القرار" ، وهذه الوظائف هي ما تكوّن شخصية الشخص وتحدد علاقته بالحياة من حوله، وما يهمني الحديث عنه هنا الوعي ويتمثل في "القدرة على إدراك ما حولنا وما بداخلنا" . وهو من يقف "وراء الأحاسيس والأفكار والمشاعر والرغبات والمعتقدات وحرية الاختيار، إنه يجعلنا نشعر أننا أحياء" . وأما الشعور بالذات فهو يتضمن "تمكن الشخص من فهم مشاعره وأولوياته ونقاط ضعفه وقوته، وكذلك استخدام هذا الفهم في تنظيم حياته وعلاقته بالآخرين" ؛ إذ لا يكفي بالإنسان أن يفهم ذاته ليتعايش مع الحياة، بل لا بد له من أن يفهم ما حوله ومن حوله ليستطيع التواصل معهم فالإنسان خُلِق بعقل اجتماعي يتواصل به مع الآخرين من خلال تبادل المعارف والأفكار؛ إذ يتسم العقل الاجتماعي بالعمق ، وبقدرته على قراءة العقول، أي معرفة "كيف يفكر الآخرون، وماذا يريدون، وفيما يعتقدون" . متعرفًا على مشاعرهم ونواياهم، فيتعامل معهم من خلال ذلك، متقربًا منهم أو متحاشيًا إياهم.

ينقلنا هذا الجانب من تفكير العقل إلى الحدس هو فعل حر للذهن، وشعور لا يقوم على أساس أو مبرر - لكنه شعور غريزي بالواقع؛ إذ تدلنا مشاعرنا الغريزية على بعض الوقائع. ويرى بعض الفلاسفة أن الحدس من أجلّ عمليات التفكير، يضعه هيجل في أدنى مرتبة من مراتب الأفعال الحرة للذهن. وقد تعددت الألفاظ التي تطلق على مفهوم الحدس؛ إذ يسمى بالحاسة السادسة التي عُرِّفت بأنها: "إحساس فطري لا إرادي بعيد عن المنطق يمكّن صاحبه من معرفة المجهول، والتنبؤ بالمستقبل"، وسمي بالتخاطر الذي عُرِّف بأنه: "ظواهر الإدراك فوق الحسي التي يتم فيها خرق الزمان أو المكان". وإن يكن من التسميات التي أطلقت عليها، فإن الحدس إحساس داخلي لم يقف العلماء بالضبط على تحديده وبيان تمام كيفية حدوثه؛ يظهر من التعريف أنهم وصفوه بالفطري وغير الإرادي، مما يعني أنه يحدث دون قرار من الشخص، ولا حتى رغبة منه، وهي تجعله يتجاوز الزمان ويتخطاه لما وراء الزمن الحاضر، كما يتجاوز المكان وكأنه يسافر عبر نواقل تتخطى به تضاريس الأرض ليصل إلى حيث الحدث أو الشخص الذي يتصل به.

وإذا أردنا أن نربط بين الحياة العقلية والحياة الحسية ستجد "أن تعقلنا مصحوب دائمًا بصورة خيالية، فلا يتعقل عقلنا موضوعًا ما إلا وفي ذات الوقت تتمثل في المخيلة صورة ما، حتى لو كان المعقول روحيًا"، وكأنه يعمل على رسم الصورة الذهنية ونحتها كجسد أمامه لتكون واقعًا يعيشه. ولعل أقرب نظرية للصلة بين العقل والحس هي "أن الحس متصل بالأشياء اتصالًا مباشرًا، وأن العقل لا يكتسب معرفة ما إلا إذا تلقى مادتها من الحس". وتعد قدرة الإنسان "على تخيل ما يمكن أن يحدث في المستقبل، والتي تعرف بـــ(الانتقال العقلي عبر الزمن) هي الملكة التي تقف وراء الإبداع الإنساني فعليها تتوقف القدرة على توليد الأفكار" . وبقدرته على الخيال يستطيع أن يطور حياته ويرتقي بها من خلال تلك الأفكار الجديدة التي ينتجها، ومن هنا تظهر مهارات العقل.

فحينما يتعامل الإنسان مع إحساسه يدرك أمرًا معينًا ويرى أنه صحيح، فإن تلك المعرفة وذلك الإحساس لا يلغي الإدراك العقلي المنطقي، بل سيكون هناك توافقًا بين الانفعالات والشعور والاستجابة التلقائية للدماغ الذي سيبني موقفًا تجاه تلك المواقف. فما "يستشعره الإنسان أحيانًا من إدراكات فوق حسية يجزم بأن هناك جوهرًا غيبيًا للإنسان يمارس تلك الإدراكات بمعزل عن حواس المخ المادية، وأن هذا الجوهر يتواصل مع المخ المادي بطريقة أو بأخرى وهو ما تعارف على تسميته الروح" . وقد أشارت الديانات السماوية إلى الروح وحددته بأنه الجوهر غير المادي للإنسان، وهي من المسلمات التي وقفت عليها الأديان؛ إذ بينت أن الإنسان تمتزج فيه ثنائيتين هما ذات الإنسان وجوهره، وتتمثل بالروح والجسد،  وقد تحدث القرآن الكريم عن ذلك مبينًا أن "الإنسان قد مُيّز عن غيره من الكائنات بجوهر غيبي (الروح) نسبه الله -عزّ وجل- لنفسه، وصرنا به خلقا آخر" ، وأمرُ هذه الروح غيب لن يقف عليه الإنسان. يقول الله -سبحانه وتعالى- في سورة الإسراء:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) سورة الإسراء آية 85.  قال فيها السهيلي بأن الروح "ذات لطيفة كالهواء، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر" ليكون الجسد مظهرًا وهيكلًا يحفظ الروح وينفذ الحياة المادية لها، فالروح هي المسؤولة عن النشاطات التي يقوم بها الجسد؛ فهي من يصدر الأوامر والأحاسيس والمشاعر فترسلها إلى الدماغ ليقوم بترجمتها وإرسالها إلى الحواس لتنفيذها. ويرى سيرشير نجوتون أن "الروح هو جوهر الإنسان الذي لا يفنى ولا يموت".

وأرواح البشر تتآلف حينما تجد روحًا تشبهها أو تتنافر حينما تقابل روحًا تخالفها حتى لو كانت رؤية عابرة غير طويلة، فإذا وجدت الروح من تألفه فإنها تأنس به وترتاح إليه، وقد يتعمق التواصل بينها حتى وإن ابتعدت عن بعضها البعض، وهذا سر من أسرار الأرواح الذي عجز العلم عن الوقوف على تفسيره. لكن هل يستطيع الإنسان أن يتواصل مع روح تآلفت روحه معها حتى وإن فرقت بينهما الحياة زمانًا أو مكانًا؟ أظن أن ذلك ممكن وواقع فعلًا، لنأخذ مثالًا بسيطًا لنوصل فكرة جوابنا عن هذا السؤال: مثلًا نجد أن قلب الأم يكون منعقدًا مع قلوب أبنائها، فهمها في الحياة وتفكيرها كله منصب عليهم، ولعل هذا تفسر ما تشعر به الأم نحو أبنائها من الإحساس بهم، وما يصيبهم من أمور الحياة رغم اتساع المسافات التي تفصل بينهم، فتجد أمًا تقول ابني مريض، ابني واقع بمشكلة، ابني مريض... لمجرد احساسها بذلك، وحينما تتصل بابنها تجد أن ما أحست به صحيح! قد نعلل ذلك بقولنا قلب الأم، لكن في الواقع أن هذا ليس محصورًا على قلب الأم وحدها؛ ولا حتى قلب المرأة فقط، فقد توصل العلماء إلى أن الدماغ الأنثوي يتميز باهتمامه عادة "بالأشخاص والتواصل والحميمية، وأنه يتفهم مشاعر الآخرين بشكل أفضل ويحرص عليها؛ إذ إنه يتميز بقدرات أعلى على قراءة الأفكار والمشاعر" ، إلا أن ذلك لا ينحصر على الأنثى فقط.

فقد نجد هذا التواصل الروحي العميق يحصل مع الأصحاب أو الإخوة والأحبة -دون تخصيصه على جنس معين-، ولا لعمر معين، أو جماعة دون أخرى، ولعل ذلك يعود في أساسه إلى صفاء الروح، ونقائها، ومحاولة الشخص بأن يكون مرتبطًا مع من حوله بعمق يفوق العلاقة الاعتيادية. ولرسم صورة أوضح لهذه الفكرة يمكننا أن نشبه التواصل الروحي مع الآخرين بالتواصل من خلال شبكات الهاتف المحول مثلًا، فالاتصال من خلال شبكة الهاتف المحمول يحتاج منك جهازًا سليمًا، ومنطقة نقية وصافية مع قوة تغطية لإرسال واستقبال الاتصال. فكيف يكون ذلك في التواصل الروحي؟ إن الجهاز السليم يوازي وجود قلب محب وصادق في علاقته بالآخر وارتباطه به، والمنطقة النقية الصافية تكون بنقاء القلب وخلوه من أيه شوائب قد تعيق سلامة الاتصال، وقوة تعلق بالله -سبحانه وتعالى- ولعل هذا هو ما يعطي للاتصال الروحي قوة عميقة فالروح من أمر الله، وهذا هو ما يجعل الأرواح تتراسل وتتواصل رغم بعدها وانقطاع التواصل بينها.

إن إعمال العقل وتفعيل خصائصه وقدراته الخارقة التي وهبها الله له، تتيح للإنسان أسلوب حياة أفضل بإدراك ما حوله واستثماره والتعامل معه بالوجه المناسب له، كما تساهم في بناء تواصل أقوى مع المحيط الذي يعيشه، ومهما أطلق الإنسان من المسميات على ما وقف عليه من قوى عقلية للبشر ولم يستطع تفسيرها فهي حقائق موجودة قد يقف عليها العلم في المستقبل وربما لا.. فما أوتيتم من العلم إلا قليلًا.

 

المراجع:

- جارانجي، جيل جاكسون، العقل، تر: محمود بن جماعة، دار محمد علي للنشر: تونس، ط1، 2004م.

- ستيب، ولتر، فلسفة هيجل: فلسفة الروح، م2، تر: إمام عبدالفتح إمام، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع: بيروت، ط3، 2005م.

- شريف، عمرو، ثم صار المخ عقلاً، مكتبة الشروق الدولية: مصر، ط1، 1433هـ- 2012م.

- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار ابن حزم: بيروت، ط1، 1420هـ- 2000م.

- كرم، يوسف، العقل والوجود، عصير الكتب، ط1، 2019.

- نزّال، عمران، فهم الإنسان: النظرية المعرفية العربية، دار قتيبة للنشر والطباعة: سورية، ط1، 2002م.

- هيجل، علم ظهور العقل، تر: مصطفى صفوان، دار الطليعة، بيروت، ط3، 2001م.


عدد القراء: 2656

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة الكاتب علي العبادي من المملكة العربية السعودية
    بتاريخ 2021-02-11 05:23:36

    ما شاء الله تبارك الرحمن

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-