الإفصاح عن الذاتالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-08-23 17:54:55

أ. د. عبد الرحمن بن سليمان النملة

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

كل منا يبحث عن صديق وفي يبث له مكنون نفسه بحرية وتجرد، ذلك أن مناجاة الأصدقاء تزيل الكثير من الهم، لأنها تبعث على الراحة، وإعادة التوازن. لذلك اهتم الباحثون في الدراسات النفسية، وتحديدًا في مجال الصحة النفسية بموضوع الإفصاح عن الذات Self-disclosure بوصفه يمثل دور الوسيط النفسي لتوافق الأفراد وصحتهم النفسية. إن مفهوم الإفصاح عن الذات يعد محكًّا لتقييم الشخصية السوية لما له من فوائد كثيرة في تنمية وتطويرها المهارات الاجتماعية، وتحسين علاقات الفرد مع الآخرين، فإفصاح الفرد وتعبيره عن ذاته يسهم في تحقيق فهم متبادل بين الأفراد في العلاقات التفاعلية مما يؤدي إلى تقوية هذه التفاعلات الاجتماعية والعلاقات البينية بين الأفراد.

 

ويسهم الإفصاح عن الذات في تحسين مستوى الصحة النفسية لدى الفرد بصفة عامة، حيث يُعدُّ، حسب العديد من الدراسات بمثابة عامل وقائي ونقطة محورية في التدخل للوقاية وعلاج بعض الأمراض والاضطرابات النفسية، وخاصة ما يتعلق بإيذاء الذات لدى المراهقين من الجنسين.

ويرى بعض الباحثين أن "الإفصاح عن الذات يساعد في تحقيق فهم أفضل للفرد عن ذاته، كما تبين ارتباطه إيجابيًا بالتقدير الإيجابي للذات وبالترابط الأسري"1  ويعرف الإفصاح عن الذات بأنه "عملية الكشف عن الذات وإظهارها بحيث يتمكن الآخرون من التعرف عليها وإدراكها، ويتضمن هذا الكشف المشكلات الاجتماعية والنفسية والصحية والاقتصادية، والطموحات المستقبلية والآراء والاتجاهات وبعض الأسرار الخاصة والأسرية"2 . ويساعد إفصاح الفرد عن ذاته على التواصل الجيد مع الآخرين والتفاعل الإيجابي معهم، خاصة إذا تم الإفصاح عن خبرات الفرد ومشاعره للآخرين بشكل متبادل مما يولد الشعور بالقرب والتواد مع الآخرين.

والإفصاح عن الذات يُعدُّ عملية يقوم الفرد من خلالها بإفشاء بعض المعلومات الشخصية لفرد آخر دون غيره من أفراد المجتمع، فهو بذلك يعكس طبيعة العلاقة التبادلية للاتصال الشخصي. فعندما يفصح الطرف الأول عما يدور في خلده ويظهر الطرف الثاني الاهتمام والتفهم لما يقوله زميله، فإن عملية الاتصال تحدث بين الطرفين بشكل آني ومستمر. ويعتمد الفرد على خبراته السابقة في اختيار الشخص المناسب لهذا النوع من الاتصال الشخصي، فكلما ازدادت ثقتنا في شخص ما، كلما ازداد مقدار ما نفصح له من معلومات عن ذواتنا، وعادة ما تكون هذه الثقة مبنية على مدى تقبلنا لردة فعله المتوقعة تجاه المعلومات المفصح عنها.

ويؤكد بعض الباحثين3 على أهمية معرفة الفرد لمستوى إفصاح الذات لديه، خاصة وأن لكل فرد مستوى مختلفًا من الحاجة للحميمية، فبعض الأشخاص يشعرون بالارتياح عندما يتحدثون عن خبراتهم الشخصية، وبعضهم يشعر بالتوتر، وهذا مؤشر على المستوى المتدني من الألفة والمودة بين الفرد والآخرين، ذلك إن انخفاض مستوى إفصاح الذات قد يؤدي إلى أن يكره الفرد نفسه، وأن يشعر بالعزلة وعدم مشاركة الآخرين، كما يعوزه نقص التغذية الراجعة (رد فعل الآخرين) عن مدى سلامة أفكاره، بالإضافة إلى الشعور بالخجل وعدم القدرة على حل المشكلات. وللإفصاح عن الذات آثار إيجابية على الفرد، ذلك أنه عندما يخوض الفرد علاقات اجتماعية مع الآخرين ويتفاعل معهم يحدث تبادل للإفصاح عن الذات، يتضمن البوح ببعض الخبرات الشخصية عن نفسه، مما يؤدي إلى التهدئة والتخفيف من الحالات الانفعالية السلبية، التي قد تتصاحب مع الخبرات الحياتية الضاغطة التي خاضها الفرد، فيشعر بالارتياح عندما يبوح بها ويناقشها مع أفراد يثق بهم أو مقربين إليه. إذ "من الأهمية أن يفشي الفرد ويفصح عن بعض الخبرات والمشاعر السلبية التي تؤرقه، حيث تبين أن الأفراد ذوي الإفصاح المرتفع عن ذواتهم لديهم مستويات أعلى في الصحة النفسية من الذين يفضلون التكتم وعدم البوح عن مشاعرهم وخبراتهم السلبية للآخرين"4 

ويختلف الأفراد في مقدار ما يفصحون به من معلوماتهم الشخصية للآخرين، فقد ذكر الباحثان جوزيف لوفت (Joseph Luft) وهاري إنجهام (Harry Ingham) أن الفرد لا يدرك جميع المعلومات المتعلقة بذاته، كما أن الآخرين لا يدركون جميع المعلومات المتعلقة بذلك الفرد. ولتوضيح كيفية حدوث عملية الإفصاح عن الذات فقد طور الباحثان نموذجاً أطلقا عليه "نافذة جوهاري" (Johari Window)، حيث تم تقسيم الذات البشرية إلى أربع مناطق رئيسية، وحسب سيلر وبيل (2006مSeiler & Beal )، فإن هذه المناطق هي:

1. المنطقة المكشوفة: وتحوي معلومات لا يمكن للفرد إخفاؤها عن الآخرين، مثل لون الشعر والمظهر العام والوظيفة، إضافة إلى معلومات يقدمها لهم طواعية. 

2. منطقة الأسرار: وتحوي معلومات يتعمد الفرد إخفاءها عن الآخرين، فهناك أمور لا نريد للبعض أن يعرفها عنا، ومن ثم نسعى إلى حجبها عنهم، فعلى سبيل المثال قد يخفي الطالب عن والديه أن النتيجة السيئة التي حصل عليها في امتحان ما، كانت بسبب تقصيره في الدراسة، بينما لا يجد حرجًا من ذكر هذا السبب لأصدقائه المقربين.

3. المنطقة العمياء: فهناك معلومات لا نعلمها عن أنفسنا لكنها ظاهرة للآخرين، فقد يظن الواحد أنه قائد غير ناجح بينما يرى زملاؤه تحليه بمهارات قيادية فذة، ولعل أوضح مثال على ذلك نزوع بعض الأشخاص إلى تكرار كلمة معينة بشكل مستمر في أثناء حديثهم (مثل تكرار كلمة "يعني" أو "في الحقيقة") أو إحداث حركة لا إرادية عندما تسلط عليه الأنظار (مثل هز الركبة أو التبسم).

4. المنطقة المجهولة: وهي منطقة غير معروفة من الجميع، وتمثل جميع أبعاد شخصياتنا، التي لم يتم اكتشافها حتى الآن، فقد يظن الواحد منا أنه شجاع إلى أن يتعرض لخطر محدق فيكتشف خلاف ذلك.

ويمكن القول: إن مساحات الإفصاح وعدم الإفصاح الخاصة بالفرد تختلف باختلاف الشخص المقابل، بل إنها تختلف مع نفس الشخص من وقت لآخر. فكلما زادت درجة الثقة بين طرفي الاتصال، كلما ازدادت مساحة المنطقة المكشوفة، وهذا لا يعني بأن الفرد سيقوم بالإفصاح عن معلومات أكثر للشخص المقابل فقط، بل إنه على الأرجح سيكتشف أمورًا أخرى في ذاته لم يكن يعرفها من قبل، وتزداد مساحة هذه المنطقة كلما كانت العلاقة مع الآخر أقوى.

وهناك بعض العوائق التي تحول دون إفصاح المرء عن ذاته5، نذكر منها:

• الخوف من ظهور عيوبك للآخرين: قد تعتقد أن الإفصاح عن الذات سيُظهر للطرف الآخر القصور في شخصيتك أو في المهارات التي تتمتع بها، وهذا ما يدعو كثيرًا من الرجال إلى التردد في طلب المساعدة عندما يضلون الطريق، لكي لا يظن الطرف المقابل أنهم تائهون أو أنهم لا يملكون القدرة على تحديد الاتجاهات.

• الخوف من أن يصبح رفيقك ناقدًا لك: ربما تظن أنه عندما تطلع شخصًا ما على نقاط ضعفك فإنك بالتالي ستصبح عرضة لهجومه عليك. 

• الخوف من أن تفقد شخصيتك: فالبعض يرى أن هناك بعض الأمور الخاصة بهم التي لا ينبغي لأحد أن يطلع عليها، وقد يكون هذا الخوف ظاهرًا لدى الشباب في مرحلة المراهقة بصورة أكثر، حيث تزداد رغبتهم في الاعتماد على أنفسهم واتخاذ قراراتهم الخاصة دون الرجوع إلى الوالدين أو الأخ الأكبر.

• الخوف من أن تفقد زميلك: فقد يكون لدى أحدهم سر دفين لو أطلع عليه زميله لربما أدى إلى ابتعاده عنه أو إلى إنهاء الصداقة التي بينهما، لذا فقد يتردد في إخبار زميله مثلاً بأنه كان يتعاطى المخدرات عندما كان شاباً خوفاً من أن يؤدي الإفصاح عن هذا السر إلى فقد ذلك الصديق.

وخلاصة القول: إن الإفصاح عن الذات يساعد على نمو وتطور العلاقة بين الأشخاص، كما أن الإفصاح غير المناسب يمكن أن يسيء إلى تلك العلاقة، ويتميز الأفراد ذوو الإفصاح المرتفع عن ذواتهم، بالمهارات الاجتماعية والاستعداد الاجتماعي المرتفع، وكذلك تتميز شخصياتهم بالانبساطية والقدرة على التفاعل مع الآخرين. كما يتيح الإفصاح عن الذات للفرد الفرصة أن يثق بالآخرين، لدرجة تسمح له بالبوح عن خبراته ومشاعره الذاتية، مما يساعده على أن يتخلص من أعبائه النفسية من خلال التنفيس الانفعالي لمشاعر مؤلمة أو مخجلة مما يحسن من صحته النفسية.

كما أن إخفاء حقيقة الذات عن الآخرين قد اتضح لدى بعض الأفراد من الجنسين الذين يعانون من الرهاب الاجتماعي وعدم القدرة على التعبير العاطفي، بالإضافة إلى شعورهم بالوحدة النفسية.

 

 

الهوامش:

 

1- بانيني وفارمر وكلارك وبارنت (1990مPanini, Farmer, Clark & Barnett).

2 -  الباكر، 1996م.

3 - هوك وقرشتاين ودتريتش وجريدلي (2003م)Hook, Gerstein, Detterich & Gridley 

4 - خان وهسلينغ (2001م) Kahn & Hessling

 ناب وفينغليستي (2000م)  Knapp. & Vengelisti

5 -  ناب وفينغليستي (2000م)  Knapp. & Vengelisti

 

أهم المصادر:

 

الباكر، جمال محمد (1996م). "مقياس الإفصاح عن الذات"، كراسة التعليمات. القاهرة: دار الفكر العربي.

Hook, M., Gerstein, L., Detterich, L. & Gridley, B (2003). How close are we? Measuring intimacy and examining gender differences. Journal of Counseling & Development, 4 (81), pp. 462-472.

Kahn, H. & Hessling, M. (2001). Measuring the tendency to conceal versus disclose psychological distress. Journal of Social and Clinical Psychology, 20, pp. 41-65.

Knapp, M. L. & Vengelisti, A. L.  2000.  Interpersonal Communication and Human Relationships.  Boston, MA.: Allyn and Bacon by Pearson Education, Inc.

Panini, R., Farmer, F., Clark, M. & Barnett, K. (1990). Early adolescent age and gender differences in patterns of emotional self-disclosure to parents and friends. Adolescence, 25 (100), pp. 959-977.

Seiler, W. J. & Beal, M. L.  2006.  Communication: Making connections.  Boston, MA.: Allyn and Bacon by Pearson Education, Inc.

 


عدد القراء: 19075

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 2

  • بواسطة محمد العبدالكريم من المملكة العربية السعودية
    بتاريخ 2015-08-28 10:13:09

    كلمات مضيئة ومضامين فذة تحتاجها حياتنا، وجدت في هذه الرائعة أبعاد تجتاح النفس بالمراجعة، وتصافح لُباب العقل بموضوعية مدلولاتها، إنها بالفعل مقالة تنويرية تستهدف التعميق النوعي للعلاقات الإجتماعية -وما أحوجنا إلى ذلك- هي تسلط الضوء على أنماط تموضع الإتصال والتواصل الإنساني، إنه التثقيف المجتمعي من زاوية ما يجب أن يكون .. شكراً لكم د. عبدالرحمن وزادكم الله من علمه وكريم فضله

  • بواسطة هند مبارك الدوسري من المملكة العربية السعودية
    بتاريخ 2015-08-25 08:06:40

    مقال شمولي وتنويري، حررنا من عبودية التكتم وثقافة العيب المجتمعية بالإفصاح عن شأن خاص مع الأصدقاء الثقات، وزودنا بأساس علمي لأهمية البوح المتزن، والتنفيس الانفعالي وفائدته لصحتنا النفسية. وأهدانا مرآة لمعرفة غير ظاهرة لذواتنا ومناطقنا العمياء. وتبصرينا بمؤشرات لتوثيق علاقاتنا مع أحباؤنا وأصدقاؤنا من خلال استكشاف سماتهم الشخصية المرتبطة بمساحات الإفصاح لديهم. استمتعت وتعلمت.

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-