محمد الماغوط: الفرح ليس مهنتي...الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-05-29 09:00:23

عبدالرحمن مظهر الهلّوش

صحافيّ وكاتب سوري

«بدأت وحيدًا، وانتهيت وحيدًا كتبت كإنسان جريح وليس كصاحب تيار أو مدرسة»...

                                                                                               محمد الماغوط...

حسب مفكرة الغائبين، مضى على غياب هذا الشاعر المتمرّد خمسة عشر سنة (1934-2006)، في ذكرى رحيله التي تمر هذه الأيام نتذكر ما قاله ممدوح عدوان عنه: «لم أحس يومًا أنني أقرأ الماغوط بل كنت أشعر دائمًا أنه يعلمني آداب الانفجار الوقح، يعلن أنه يحشو مسدسه بالدموع ويشتهي أن يأكل النساء بالملاعق، وفيما نحن نرى التبجح بالقوة الكاذبة، هو ذا شخص يعلمنا أن نحب بعضنا».

 

النشأة

هو محمد أحمد عيسى الماغوط شاعر وكاتب وروائي سوري، وُلِدَ عام 1934 في منطقة السلمية التابعة لمحافظة حماه (210 كم شمال العاصمة دمشق). درس في كلية الزراعة وانسحب منها رغم تفوقه، مؤكدًا أنّ اختصاصه هو «الحشرات البشرية وليس الحشرات الزراعية»، ذهب إلى دمشق عام 1948 وفي عام 1955 سُجِنَّ في سجن المزّة قرب دمشق. تعلم في مدينة سلمية ودمشق ولكنه اضطر أن يترك الدراسة في سن مبكرة بسبب نشأته في عائلة شديدة الفقر، حيث عمل الماغوط في بداياته فلاحاً، وانتسب إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي دون أن يقرأ مبادئه، بل لأنه كان قريبًا من بيته وفيه مدفأة أغرته بالدفء فدخل إليه وانضم إلى صفوفه.

شاعر الأرصفة المتسكّع

محمد الماغوط جمع مفرداته من جحيم الشارع ووعورة الدروب الجبلية بطينها وحجارتها ورائحة أشجارها، ومثل خيميائي بارع حوّل التراب إلى تبر، معتبرًا أن حزبه الوحيد هو الشعر، ويضيف: ذلك أن «المبدع كالنهر الجاري، متى استقرّ تعفّن(1)». شاعرٌ التقط صور البؤس والكلمات المُهمَلة التي نزلت إلى الأزقّة، وجعلها بسحر موسيقاه وصورِه المفاجئة، قصائدَ ترتعش بالدّهشة.

تظل أعمال الشاعر والمؤلف المسرحي السوري محمد الماغوط علامات مميزة في مسيرة المسرح العربي المعاصر، ومن هذه الأعمال (شقائق النعمان)، و(كاسك يا وطن)، و(خارج السرب)، و(العصفور الأحدب)، و(المهرج)، كما أن له فيلمان شهيران هما (الحدود)، و(التقرير). وكتب الماغوط للتلفزيون بالروح نفسها التي كتب فيها شعره ومسرحه... اعتبر النقاد (حكايا الليل) واحدًا من أهم الأعمال التي قدمها للتلفزيون في بداية السبعينيات من القرن الماضي تحديدًا عام 1972.

الاعتقال

في عام 1955 اُغتيِلَ عدنان المالكي، واتُهِمَ الحزب السوري القومي الاجتماعي باغتياله، وتم اعتقال الكثيرين من أعضاء الحزب، وكان الماغوط منهم، وحُبِسَ في سجن المزّة، وفي المعتقل بدأت حياته الأدبية حيث تعرّف أثناء سجنه على الشاعر أدونيس الذي كان في الزنزانة المجاورة(2). وعن تجربته الأدبية في السجن يقول الماغوط: «كتبت مذكراتي في السجن على لفائف السجائر وهرّبتها في ثيابي الداخلية إلى بيروت، واكتشفت لاحقًا أن ما كتبته كان شعرًا. قصيدة (القتل) كتبتها في السجن ونشرتها كما هي(3). بداياتي الأدبية الحقيقية كانت في السجن. معظم الأشياء التي أحبها أو أشتهيها، وأحلم بها، رأيتها من وراء القضبان: المرأة، الحرية، الأفق». يقول الماغوط: «أنا منذ تعلمت الأحرف الأبجدية لم أتوقف عن الكتابة... وعن العطاء وأحب الخسارة... أحب دائماً أخسر» (4).

الخائف

عندما دخلت السجن أحسّست بِأنَّ هناك شيء قد تحطم، بعد الخروج من السجن، تغير كل شيء بالنسبة لي، لا أجرؤ على فتح باب الباب ليلاً خشية من العودة للسجن، فالسجن مثل الشجرة له شروش، شروشه تذهب إلى القصيدة، والمسرحية والفيلم، تذهب إلى الصدر الذي نرضع منه.

يقول محمد الماغوط: نتيجة لوضع عائلتنا المالي المتردي أرسل والدي رسالة إلى إدارة المدرسة يطلب منهم مساعدتي لأنني فقير وقد عُلِقتْ في لوحة الإعلانات بالمدرسة، وكل من يقرأها يضحك، من يومها هربت من المدرسة. حقيقةً لم أحلم بما وصلت إليه اليوم... أحلامي كانت تتمحور بأنني أتزوج وأعيش بمسقط رأسي. أثناء وجود الماغوط في السجن تعرّف إلى أدونيس، وقام بكتابة نص مسرحي داخل سجن المزّة المهجع الرابع عام 1954، بينما كان أدونيس في المهجع الخامس، يقول: دائمًا كنا نجلس بشكل متقابل. وقد تمكنت من اقناع شرطة السجن بالتمثيل في المسرحية التي كتبتها في السجن. وعن زوجته يقول الماغوط: سنية (سنية صالح) شاعرة مهمة كثير.. وفي بيروت طلب منه صاحب مجلة (شِعر) يوسف الخال قصيدة للنشر فأجابه الماغوط عندي مذكراتي في سجن المزّة اسمها (القتل) عن سجن المزّة (التحقيق، الضرب، الاستجواب، المسبات، الخوف، الظلم)، أخفيتها في ثيابي الداخلية، وقال الخال أعطني إياها، وتم نشرها في أول عدد من مجلة (شِعر): ضع قدمك الحجرية على قلبي يا سيدي/ الجريمة تضرب باب القفص/ والخوف يصدح كالكروان/هاهي عربة الطاغية تدفعها الرياح/ وهانحن نتقدم/ كالسيف الذي يخترق الجمجمة/ آه.. ما أتعسني. / إلى الجحيم/ أيها الوطن الساكن في قلبي منذ أجيال/ لم أرَ زهرة/...

يؤكد الماغوط: تتشابه صداقة السجن والسفر والجوع، الخوف فيّ مثل الجرافة، الخوف بأعماقي، بقلبي.. بروحي.. بروحي.. بعيوني.. بآذاني.. بركبي.. وهي ترتجف... أنا لا أرجف من البرد والجوع.. إنما أرجف من الخوف. إنّ الخوف هو فقدان الحرية.. الخوف لا يُشرح.. مثل البحر والسماء.. الخوف، هو سياط.. كماشات.. أسنان مقلوعة.. عيون مفقوعة.. تغطي العالم.. والعالم يرقص ويغني.. ولا يبالي!!!.. وبالنسبة لرواية (الأرجوحة) فقصتها تبدأ من الكتابة بالرموز خوفاً من الملاحقة الأمنية آنذاك، وكان الماغوط قد أرسلها لوالدته حيث وضعتها تحت وسادتها لمدة 25 سنة، وعندما طلب الناشر رياض نجيب الريّس من الماغوط مادة لنشرها في مجلة (الناقد) أجابه الماغوط لا يوجد لديّ مادة جاهزة، هناك رواية كتبتها منذ 25 سنة وهي أمانة عند والدتي وعند الاطلاع عليها لم يتمكنا من فك رموزها فاقترح الريّس عرضها على جهاز فك الخط، ولكن اتفقا في النهاية بطباعتها كما هي(5). أَمَّا بالنسبة لمسرحية (العصفور الأحدب)، يؤكد الماغوط سميت بهذا الاسم فدائمًا كنت مُنحني، وأنظر من زاوية على مطعم البوكمال، من هنا أخذت هذا الاسم.

يقول صاحب غرفة بملايين الجدران، بيروت أحبتني كثيرًا، حب غير طبيعي. وأعطتني شيء غير طبيعي، ويضيف الماغوط: «أنا عندما أكون خائف أبدع أكثر، وعندي احتياطي من الخوف لا ينضب... أحب المجابهة والتحدي..»، ويقول «طفولتي بعيدة.. وكهولتي بعيدة.. وطني بعيد.. ومنفايّ بعيد.. أيها السائح أعطني منظارك المقرّب.. علّني ألمح يدًا أو محرمة في هذا الكون.. تومئُ إليَّ.. صوّرني أنا أبكي.. وأكتب على قفا الصورة.. هذا شاعرٌ من الشرق»... دموعي زرقاء/ من كثرة ما نظرت إلى السماء وبكيت/ دموعي صفراء/ من طول ما حلمت بالسنابل الذهبية وبكيت/ فليذهب القادة إلى الحروب/والعشاق إلى الغابات/ والعلماء إلى المختبرات/ أمَّا أنا.. فسأبحث عن مسبحة وكرسي عتيق.. لأعود كما كنت.. حاجباً قديماً على باب الحزن.. مادامت كل الكتب والدساتير والأديان.. تؤكد أنني.. لن أموت إلاّ جائعًا أو سجينًا.

بيروت: الانطلاقة

كان الظهور الشعري الأول لمحمد الماغوط (سلمية 1934 -دمشق 2006)، خلال فترة الوحدة بين سورية ومصر كان الماغوط مطلوبًا في دمشق، هرب الماغوط إلى بيروت واحتضنه الرحابنة وسعيد عقل ورفيق المعلوف وأدونيس ويوسف الخال، حيث كانت هناك ألفة وحميمية بين الماغوط والخال. يقول الشاعر اللبناني شوقي أبوشقرا: «منذ أنْ صادفت الماغوط في مقر مجلة (شِعر) في راس بيروت، كان يتألم ولكنه كان ضاحكًا، فكيف كان يحافظ على النكتة والضحك وهو مجروح من الواقع. وهناك انضمّ الماغوط إلى جماعة مجلة شِعر حيث تعرّف على الشاعر يوسف الخال الذي احتضنه، وأيضًا كان صديقًا لأدونيس. قبل ذلك كان محمد الماغوط غريبًا ووحيدًا في بيروت، وعندما قدمه أدونيس في أحد جلسات خميس مجلة (شِعر) بحضور عدد من الشعراء العرب الذين كانوا يتوجهون إلى بيروت إبان ازدهارها تلك الأيام بغية عيش أجواء الإبداع والفن والشعر والحرية، وقرأ أدونيس إحدى قصائد الماغوط بحماسة، دون أن يقول لمن هي وترك للحضور أن يخمنوا لمن هذه القصيدة، وجعلته يسأل الحاضرين: إن كانت لشاعر أجنبي؟، ثم يشير بعد ذلك إلى فتى منزوٍ في القاعة هو كاتبها القادم من دمشق مغمورًا حزينًا وحيدًا(6). فكانت الأصوات من الحاضرين هذه القصيدة لاشك أنها لـ(رامبو)، وآخر يقول لا (بودلير) وذكروا (جاك بريفر)، و(ويتمان، وأودن، ونيرودا)، ولكن أدونيس لم يلبث أن أشار إلى شاب مجهول غير أنيق، أشعث الشعر وقال: هذا هو الشاعر، لا شك أن تلك المفاجأة قد أدهشتهم وانقلب فضولهم إلى تمتمات خفيضة، أما هو وكنت أُراقبه بصمت فقد ارتبك واشتد لمعان عينيه. تلك الرواية التي ظلت في سجل الماغوط الشعري وسيرته موثقة دون نقاش تدل في أحد معانيها على الصدمة التي ستصاحب ملفوظه الشعري والخصوصية التي سيحتفظ بها لنفسه وسط (جماعة شعر)، وفي الحداثة الشعرية العربية المبكرة، وهي متأتية من أسباب يمكن إجمالها في غربته وظهوره المفاجئ، إزاء ألفة الجماعة واصطفافها. أصدرت له جماعة مجلة(شِعر) مجموعة (حزن في ضوء القمر- 1959)، و(غرفة بملايين الجدران- 1960). لا تنحن لأحد مهما كان الأمر ضروريًا/ فقد لا تؤاتيك الفرصة لتنتصب مرة أخرى مهما كان الأمر ضروريًا/. من قصيدة وطني.

 دخل الماغوط مجلة (شعر) وكان نجمًا من نجوم (خميسها) وفيه تقام ندوة وأمسيات ومناقشات تحت إشراف مؤسس المجلة وصاحبها (الشاعر يوسف الخال)... ويعلق أدونيس على تلك الحادثة قائلاً:«الناس عادةً لا تقرأ نص الشاعر، إنما يقرؤون الشاعر وانتماءه وأيديولوجيته وسياسته، حيث يقرؤون الاسم وليس نص الشاعر». يؤكد أدونيس: «أحببت أن اعمل تجربة حيث أقرأ نص ولا أذكر اسم الكاتب، لمعرفة الانطباع العفوي والبريء عند القراء بغض النظر عن أية خلفية عند القراء، وكان جميع الذين استمعوا للنصوص التي قرأتها مندهشين ومعجبين جدًا وأعتقد لو إنني قلت اسم الشخص وهو شاب قادم من سورية وهو في بدايات حياته الشعرية أعتقد كان رد الفعل قد تغيّر، بعد ذلك ذكرت اسم الشاعر محمد الماغوط وهو الآن بيننا»(7).

ولم يقتصر عطاؤه في نطاق العاصمة اللبنانية وحدها، وإنما ذهب كثيرًا في معارجه وانتقل إلى المسرح وإلى الكتابة النقدية الصحافية واستغرق في تصوير عالمه العربي حتى التعرية.

الشهرة المدويّة

طُبع اسم الشاعر محمد الماغوط في مدونات الشعر العربي الحديث بقلم مغاير خصص له من قبل الناقدين والكتاب المهتمين بالإبداع والمتابعين للتطورات التي تبرز في الأدب العربي من قبل بعض الموهوبين، لم تكن الطريق أمامه سهلة ليحتل هذه المكانة لولا أنه كان قد فتح الباب دون أن يطرقه، فلديه المفتاح الخاص الذي تمكن بواسطته من أن يفتح الباب ثم يدخل مرحباً به بعد لحظة استغراب.

لكن بيروت، هي التي احتضنته وأطلقت شهرته مدويّة في الآفاق الشعرية والثقافية العربية، ولاسيما بعدما اطلع على أشعاره في البدايات كل من ألبير أديب ويوسف الخال وجبرا إبراهيم جبرا وأدونيس، وقالوا إن هذه نقلة نوعية وتاريخية مفارقة في الشعر العربي(8). لا يعرف التدلّه بالرموز والأساطير والنبوآت على أنواعها وسائر متطلبات التشييد الانتقائي للقصيدة، التي يلجأ إليها بعض أقرانه من شعراء الحداثة العرب. أعماقه وغريزته وشراهته الحسيّة، هي دومًا مجال تبصّره. إنه يؤلف، وفي استمرار، مشاع انتمائه للجميع. شعراً لا يفقد البتة خصوبته وحيويته القادرة على الغزو والامتلاك. تراه ينسّق غربته في دوائرها بنوع من نزويّة أسلوبية لا تستعصي على الإفهام، فالماغوط شاعر الصدق المتطرف والتقاء الإحساس بالمصادفات. كان يكتب، هكذا، على سجيّته، من دون الاهتمام بتصنيف ما يكتبه، أو التسميات التي تُطلق على نصوصه(9).

العبقرية الشعرية

محمد الماغوط مبدع لدرجة الظاهرة. صادق حتى الحدَّة. يعرف الهجاء فقط. ويعيش مع المتعبين والمهمومين! لا يحمل إلا الابتدائية. لكنه ادعى أنه (دكتور) فنشرت له مجلة (الآداب) البروتية أول نص شعري عنوانه (غادة يافا).. ولم نعرف هل أضاف اللقب إلى القصيدة أم توهج بها.. فلم يقفْ عند الخطوةِ الأولى. ولم تنفعْ سواه همزاتهم ودالاتهم(10).

محمد الماغوط الريفي الذي هزأ بالمدينة. فعاشها، وعجنها، وأخضعها، ومدّ لها لسانه. أشهَرَ في وجهها أصابعه كلها. إصبعًا للسؤال، وإصبعًا للتنبيه، وإصبعًا للملام. وإصبعًا للاتهام. وإصبعًا للقتال.

يُعَدُّ الماغوط أحد أهم رواد قصيدة النثر في الوطن العربي.. كتب الماغوط الخاطرة، والقصيدة النثرية، وكتب الرواية والمسرحية وسيناريو المسلسل التليفزيوني والفيلم السينمائي، وأمتاز أسلوبه بالبساطة وبميله إلى الحزن تحس إنَّ الماغوط هو الشارع عندما تراه في الشارع، وهو المقهى إذا رأيته في المقهى، وهو دمشق وبيروت عندما يكتب عنهما. هو الرصيف هو المرأة، هناك تماهي بين الموضوع والذات، دائماً يؤنسن الموضوع من خلال ذاته. هو يرصد عبثية العالم أحيانًا بعين صقر وأحيانًا بجناح حمامة. يقول الماغوط: «سأكتب سأغني سأرقص سأُجن... ولن أُطلق الرصاص» (11).

شاعر الحداثة

لقد حل الشاعر بأرض القصيدة العربية حاملاً معه تمرده البدوي ولغته العاصفة الناقمة على السائد والمألوف في حياة العرب اليومية. بل جعل لغته تنقلب على اللغة الأرستقراطية المتأنقة ذات الألفاظ المسبوكة والتي كانت تسود الوسط الثقافي آنذاك.

ما يكتبه الماغوط يندرج تحت بند الشعر الحر-لا بالمفهوم الذي أشاعته نازك الملائكة-إنما بالمعنى الأنكلوسكسوني كما وصفه جبرا إبراهيم جبرا مُذكِرًا بوالت ويتمان وشعره الحر بالإنكليزية، وصّنف الماغوط ضمن شعراء هذا التيار. حيث يقوم الشعر الحر على اكساب القصيدة وهجاً شعريًا مجتلبًا من نثرها وتداعياتها وانفتاحها الدلالي. يتكئ الماغوط أساساً في توليد قصائده على موهبته وعفويته وبدائيته... وتتحكم في شعره مشغّلات أسلوبية تجسدها قصيدة (الظل والهجير) من ديوانه الثالث (الفرح ليس مهنتي) وصارت جزءًا مميزًا لتجربته وعلامة فارقة له: حبيبتي/ هم يملكون النوافذ/ ونحن نملك الرياح/ هم يملكون السفن/ ونحن نملك الأمواج/ هم يملكون الأوسمة/ ونحن نملك الوحل/ والآن/ هيا لننام على الأرصفة يا حبيبتي... ظل الماغوط وفياً لقريته (سلمية) التي تشبه إلى حدٍ ما قرية رسول حمزاتوف المجهول, وشاعر كالماغوط تصعب عليهم الأدلجة، لأن أرواحهم طليقة، ومتصعلكة بأناقة، ومع ذلك، كان الماغوط يشعر بالظلم الدائم حتى أخر أيامه. لقد تبنّى الماغوط الحداثة وطبقها، كتبها أكثر من هؤلاء المُنظرين، واعتمد في إبداعها على الاختزال الخُرافي، والطابع الحواري الصاعق(12).

الأعزل

يؤكد الماغوط بِأنَّ الحب، الحرية، الشعر مصطلحات لا تعريف لها في قاموسي، لكن يمكننا أن نُعرّف الماء، أو البحر، أو الصحراء. والشعر ليس له قانون... أنا سودواي في طبعي، كنت أتمنى أن أكون غير ذلك، لكن الإنسان يمر بتجارب تكون لديه فكرة عن الواقع تطبعه بالصورة الحقيقية للواقع.

وواقعنا ليس أحسن حالاً من سوداويتي(13). أنّ الماغوط لا يصوغ شعره كما يصوغ النحات تمثاله، وإنما يطلع التمثال من تلقائه، ولا ينحت الماغوط الخشب ولا المعدن ولا الصخور ليحذف، أي ينقل أحواله من اللامكان إلى المكان، أو من اللاشكل إلى الشكل، ومن الهشاشة إلى الوجود المكتمل. صعلوك المدينة، محمد الماغوط، صعلوك الشعر العربي، بكل نبله وعطاياه، بكل عزلته العالية، بكل تفتحاته الكونية، بكل خروجه الدائم والمتعالي لم يخرج من غزلته حتى وفاته(14).

وكاتبنا الكبير الشاعر (محمد الماغوط) واحد من هؤلاء المبدعين الذين مارسوا تجربة الدنيا وأفعالها وتمرسوا بظروفها القاسية، فهو يقول عن نفسه: «من طبيعتي أن ليس لدي أصدقاء، لا أجلس وسط المثقفين، أحب عزلتي وأحاول الحفاظ عليها، أحب الجماهير وهي بعيدة عني».. والكآبة واحدة من أقسى صديقاته الكابوسية، تحكم على عنق أيامه قبضتها الفولاذية جدًّا، لكنه ظلّ على مدى رحلته، الممتدة من الخمسينيات المقيمة في القرن الماضي، يتبادل معها الحال بالحال والرجاء بالصدود والقسوة، إلى أنْ لاذت قليلاً بالفرار، ولاذ هو كثيرًا بالحزن والحبر والصفحات البيضاء، والكتابة.

الساخر

 الماغوط هو إشكال، وهو ظاهرة والظاهرة هو خروج عن المألوف، والصوت الأقوى للماغوط هو الشعر. فهو يكاد يجمع في سخريته الأدبية، بين رمزية بودلير وحنين وبؤس فيكتور هوغو، سخرية موليير، ورومانسية لامارتين، كان الماغوط قريب من الواقع بعفويته المعهودة لذلك كان نتاجه يندرج ضمن الإبداع العفوي... عَمِلَ في الصحافة، واحترف الأدب السياسي الساخر وألفَّ العديد من المسرحيات الناقدة التي لعبت دورًا كبيرًا في تطوير المسرح السياسي في الوطن العربي. والسخرية التي كانت تميز أسلوبه. أجل لقد التقت الكتابة المفخخة بالطرافة الشعبية، مثلما التقت السوداوية بالسخرية المريرة، وبات واضحاً أن مسرح الماغوط جاء في وقته(15). وبينما كان الماغوط يتردد على أحد الحلاقين في بيروت، ولكنه لا يجيد المهنة كما يجب، ويجرح ذقون الزبائن. فكتب له على باب الدكان: «إن الدماء التي تجري في عروقنا ليست ملك لنا». خلف ضباب سيجارته اللعينة الحمقاء عينان ماكرتان استطاعتا اقتناص الكثير من اللحظات العبثية في واقعنا المأساوي(16). فكتب حتى الشعر والنثر والموت، وحتى الفناء: ها أنا أشحذ أسناني على الأرصفة/ وألحق المارة من شارع إلى شارع/ أنا بطل..... أين شعبي؟ / أنا خائن.... أين مشنقتي؟ / أنا حذاء.... أين طريقي؟ ...

المتمرد

محمد الماغوط. كأنما هو سينمائي أيضًا. من تراه ينتبه لهذه الصفة، وهو يحاول رسم القليل من تفاصيل هذا الاستثناء؟ محمد الماغوط، الشاعر. الناثر.. المسرحي.. الصحفي.. المشاكس.. النافر.. المتمرد.. الرجل بملايين الجدران.. المتبصر بملايين الأعين.. الباحث عن ضوء من خلال ثقب في أمل، أو فوهة في لحظة.

يقول أدونيس: «محمد الماغوط الشخص كنت أراه ذئب ولكن في شكل خاروف، ومحمد الماغوط الشاعر، أراه خروف في شكل ذئب، ولكن سواءً التهم الأخر أو التهم الكلمات في الحالين هناك وحدة بين الخاروف والذئب بداخله من جهة وفي علاقاته مع الآخرين من جهة ثانية»(17). مازال طيف (الماغوط) يفرد جناحه على الأمكنة والكلمات، لعلّهُ يكتب قصيدة نثرية جديدة.

التكريم

نال الماغوط العديد من الجوائز، أولها جائزة احتضار 1959، وآخرها جائزة العويس 2005. اتسمت أعماله بالنقد الساخر، الفني والسياسي، وانتهج لذاته الأسلوب العميق الشفيف، القريب من كل إنسان، المصاب بهواجس الوطن والعروبة والفقراء والمبدعين(18).

النهاية

بقي الماغوط متكئًا على عكازه، معتمرًا طاقيته الأثيرة، حتى آخر أيامه وحيدًا. في الهافانا في دمشق التي تعج بالكتّاب الناشئين والمخضرمين وشوارع وأرصفة... وصبايا(19).

في سنواته الأخيرة، لم يعد محمد الماغوط ذلك المتسكّع والغاضب والفوضوي، وهو الذي قضى ليالي وأيامًا كثيرة طريدًا بلا مأوى على أرصفة التسكع الباردة(20). هو الذي قال يومًا «لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء»(21)، فقد داهمته خيانات الجسد. فلجأ إلى عكازين لمساعدته في عبور الشارع، ثمّ اعتزل في بيته تمامًا لينتهي به الأمر على كرسي متحرّك حتى الفراق الأبدي. 

 

المراجع

1 - راجع: صويلح، خليل، محمد الماغوط الغائب الحاضر، أكتوبر، 3 نيسان/أبريل 2016.

2 - راجع: بيضون، عباس: محمد الماغوط: مجنون المدن والعصفور الأحدب، السفير، بيروت، 5 نيسان/أبريل 2006.

3 - راجع: ملحق كلمات (المستقبل): محمد الماغوط، البدوي المشعّث، العدد (2853) 2 نيسان/أبريل 2016.

4 - راجع: الريّس، رياض، زمن السكوت، رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت، 2011.

5 - راجع: الصكر، حاتم، (قصائد في الذاكرة) قراءات استعادية لنصوص شعرية، كتيب مجلة دبي الثقافية، دبي، أغسطس/أب 2011 ص109.

6 - راجع: فونيه، إيريك: الشاعر المتشائم، الملحق الثقافي لصحيفة الجزيرة السعودية، العدد (76)، تاريخ 13 أيلول/ سبتمبر 2004 ص 17.

 7 - راجع: سلطان، ياسر، صحيفة الحياة اللندنية، 27 يناير/كانون الثاني 2018.

 8 - راجع: فرحات، أحمد، صحيفة الاتحاد، الإماراتية، 7 نيسان/2016.

 9 - راجع: التركي، ابراهيم بن عبد الرحمن: العملاق، ملحق الجزيرة الثقافية، العدد (76) 13 أيلول/سبتمبر 2004 ص9. 

 10 - راجع: إبراهيم، بشار: كأنما هو سينمائي أيضًا، ملحق دراما، العدد 16، 18 نيسان 2010 ص19.

11 - راجع: الحميدين، سعد: محمد الماغوط: دخل من الباب وأخرجوه من النافذة، السفير، بيروت، 5 أيلول/ سبتمبر 2015.

12 - راجع: القبس 4 نيسان/ أبريل 2006.

13 - راجع: حسن، ماهر، اليوم السابع 3/4/ 2015.

14 - راجع: مدن، حسن: محمد الماغوط في دبي، صحيفة الخليج, 16/ 4/2016.

15 - راجع: العفنان، عبدالكريم: الماغوط مهرج المسرح العربي، الملحق الثقافي لصحيفة الجزيرة، الرياض، العدد(76)، تاريخ 13 أيلول/ سبتمبر 2004 ص 12.

16 - راجع: الريّس، رياض، آخر الخوارج/ أشياء من سيرة صحافية، الناشر، شركة رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت، ط1 2004.

 17 - راجع: الماغوط، عيسى: محمد الماغوط رسائل الجوع والخوف، دار المدى، دمشق، الطبعة الأولى 2009 ص 42.

 18 - راجع: شاهين، محمد، مجلة دبي الثقافية، دبي، العدد (60) أيار/ مايو 2010 ص 93.

 19 - راجع: النهار، الجبوري، أسعد 8/8/ 2017.

 20 - راجع: عيسى، راشد: الحطاب وحيدًا، مجلة النقاد، بيروت، العدد (130) تشرين الأول/أكتوبر 2002 ص 23.

 21 - راجع: بزيع، شوقي: محمد الماغوط، شاعر اللغة البرية والاحتجاج على العالم، صحيفة الشرق الأوسط، لندن، العدد (14372) 4 نسيان/أبريل 2018.


عدد القراء: 3429

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-