الكاتب الأوروغوائيّ إدواردُو غاليانُو صاحب "أوردة أمريكا اللاّتينية المفتوحة" في ذكرىَ رحيله السّادسةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-09-30 11:38:21

د. محمّد محمّد خطّابي

مدريد - (إسبانيا)

في 13 من شهر أبريل الماضي 2021 حلّت الذكرى السّادسة لرحيل الكاتب الأوروغوائي الكبير إدواردو غالينو الذي وافته المنيّة في نفس هذا التاريخ من عام 2015 في عاصمة الأوروغواي (مُونتيفيديّو). كان غالينو رمزًا بارزًا من رموز اليسار في أمريكا اللاّتينية، وواحدًا من أجرأ كتّابها في العصر الحديث، صاحب أشهر كتاب وُضع منذ ما ينيف على 50 عامًا حول معاناة السكّان الأصلييّن للقارة الأمريكية الذين يسمّيهم غاليانو "سكّان الشقّ الجنوبي السُّفليِ من القارّة"، مقابل "سكّان الشِقّ الشّمالي العُلْويِ من القارّة"، وهو كتاب "أوردة أمريكا اللاّتينية المفتوحة"، التي لمّا تَزَلْ مفتوحةً ومشروخة بالفعل - إلى يومنا هذا -كما أكّد غير ما مرّة ذلك صاحب الكتاب نفسه، الذي كان قد قال قيد حياته مازحًا: "على الرّغم من أنّ الرّئيس الفنزويلي السّابق الرّاحل أُوغُو تشّافيِز كان قد أهدى نسخةً من هذا الكتاب إلى الرّئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عام 2009  خلال مؤتمر القمّة الخامس للعالَم الأمريكي، المنعقد في بويرتو إسبانيا عاصمة ترينيداد وتوباغو"، وعلى الرّغم من أنّ نسبة مبيعات هذا الكتاب قد قفزت وارتفعت إلى نسبٍ ومستوياتٍ عاليةٍ جدًّا في العالم بعد أن تُرجم الى عدّة لغات حيّة، إلاّ انّ غاليانو كان  على يقين أنه لا أُوغُو تشَافيِز نفسه، ولا باراك أوباما قد فَهِما فهمًا جيّدًا، واستوعبا استيعابًا حقيقيًا نصّ وعمقَ وبُعْد هذا الكتاب الذي كان محظورًا في عدة بلدان في أمريكا اللاتينية  منها بلده الأوروغواي، وتشيلي، والأرجنتين. يضافُ إلى هذا الكتاب الضّخم كتابُه الآخر "مذكّرات النار" الذي يقع في (ثلاثة أجزاء)، والذي أفردتُ له فصلاً قائمَ الذات تحت عنوان (إعمالُ النّظر) في كتابي: "ذاكرة الحُلْم والوَشْم" (أضواء مثيرة على ماضي وحاضر العالم الجديد) الصّادر الرباط عام 2005.

الكاتب إدواردو غاليانو  قبل أن يتعاطى الكتابة وأن يصبح مشهورًا في أمريكا اللاّتينية، ومثلما كان الكاتب المكسيكي  المعروف "خوان رولفو" عاملاً في أحد مصانع العجلات المطاطية، فقد اشتغل غاليانو عاملاً بسيطًا في أحد المصانع كذلك، كما عمل رسّامًا، وساعي بريد، وموظفًا في أحد المصارف البنكية، وفي سواها من الأعمال التي ليست لها أي صلة باختياراته، وطموحاته الحقيقية في الحياة، حيث أصبح في ما بعد من أكبر الكتّاب في بلده الأوروغواي، وفى القارة الأمريكية، والعالم الناطق باللغة الإسبانية، وأن تترجم كتبه إلى ما ينيف على عشرين لغة عالمية.

شرايين أمريكا اللاّتينية المفتوحة

نشر غاليانو هذا الكتاب وهو في الثلاثين من عمره، كان في البداية يعتقد أنه يضع كتابًا في الاقتصاد السياسي، وليس مؤلّفًا يعالج فيه بعمق كافة المشاكل والمعضلات التي كانت تتخبّط فيها القارة الأمريكية في شقّها الجنوبي في ذلك الأوان، سياسية كانت، أو ثقافية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو إنسانية، أو إثنية، أو عرقية، أوإبداعية وسواها.

يقوم الكاتب في هذا الكتاب بتحليل ضافٍ لتاريخ هذه القارة البِكر، بما في ذلك على وجه الخصوص التصفية العِرقية، والاستغلال الاقتصادي، والهيمنة السياسية التي تعرّضت لها بشكل رهيب منذ الاستعمار الأوروبي، إلى فترة السبعينيات من القرن المنصرم. كتاب غاليانو المثير لقي هوىً وقبولاً كبيرين لدى الأيديولوجيات الثورية واليسارية، وبشكل خاص في بلدان مثل الأرجنتين وتشيلي، والبرازيل، والأوروغواي، والمكسيك وسواها التي كانت ترزح تحت الهيمنة الدكتاتورية المتسلّطة، ونتيجة ذلك فقد زجّ بإدواردو غاليانو في غياهب السّجون في بلاده الأوروغواي بعد انقلاب عام 1973، ثمّ أُرْغِم بعد ذلك على الهجرة القسْرية، والاغتراب القهري، واللجوء إلى الأرجنتين في المقام الأوّل، ثم بعد ذلك إلى إسبانيا. وكان غالينو قد صرّح خلال مشاركته في دورات معرض الكتاب الدّولي في البرازيل، بأنه" لن يعود لقراءة كتابه من جديد، فقد يُغمَى عليه لو فعل ذلك، وأضاف أنّ هذه النصوص التي تنتمي لليسار التقليدي أصبحت مملّة الآن، فجسمه الواهن لم يعد يتحمّل ذلك اليوم".

أبناء الأيّام

لهذا المفكّر كتابٍ آخر بعنوان "أبناء الأيام"، يقول عنه: «هذا الكتاب يأتي انطلاقًا من شهادات ناطقة حيّة من أفواه أبناء شعب المايا في غواتيمالا منذ سنوات بعيدة خلت، هذه الشّهادات يتضمّنها هذا الكتاب بين دفّتيه. فشعوب المايا  يعتقدون اعتقادًا راسخًا أنّهم أبناء الأيّام، أيّ أبناء الزّمن، وفي كلّ يوم تتولّد القصص، والحكايات المتواترة، ذلك أنّ الكائن البشري في عرفهم مصنوع وموضوع من الذرّات، ولكنّه صيغ كذلك من القصص والسّرد والتراث والحكايات". ولقد اعتبر بعض النقاد هذا الكتاب امتدادًا لكتب غاليانو السّابقة، وتجسيمًا لمواقفه من العديد من القضايا التاريخية والاجتماعية والإنسانية والسياسية، التي ينفرد بمعالجتها بأسلوبه الخاص، وبقدْرٍ كبيرٍ من الجرأة والمواجهة، والتحدّي.

يعتبر النقاد كتاب غاليانو "أبناء الأيّام" إدانة صارخة للعصر الحاضر الذي نعيشه على مضض، إنها نظرة أو تشريح للواقع المرّ، إنه يوجّه انتقادًا شديدًا للنظام العالمي الحالي الذي يحافظ ويذود عن المصالح المالية والاقتصادية، ولكنّه لا يتورّع عن إلحاق الأذى بالطبيعة وإتلافها. في هذا الكتاب نلتقي مع العديد من تعابيره المعهودة، كما يحفل هذا الكتاب مثل كتبه السّابقة بالسّخرية المرّة، والتهكّم اللاّذع من الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تعتبر نيلسون مانديلا إرهابيًّا، وفي فاتح يوليو 2008 تمّ شطب اسمه من قائمة الإرهابيين التي ظل فيها 60 عامًا.!..

مذكّرات النار

كتاب "مذكّرات الناّر" لادواردو غاليانو ثلاثية قيّمة حول أمريكا الجنوبية يتساءل الكاتب فيها عن بعض المصادفات الغريبة، والمحيّرة التي تمرّ بالإنسان في الحياة، وعن مدى إعمال النظر في الأمور والتمعّن فيها بعمق، ويورد الكاتب حكايةً طريفة في هذا السياق يقول إنها أثّرت فيه تأثيرًا بليغًا، وهي عندما قرأ استجوابًا للكاتب الأمريكي الأسود اللون "جيمس بالدوين" الذي يحكي أنه حتى سنّ التاسعة عشرة من عمره لم يكن يعرف كيف يَرَى الأشياء على حقيقتها، رغم أنه كان سليمَ النظر، وأنّ صديقًا رسّامًا له هو الذي علّمه كيف يرى، ففي عام 1944 عندما كان الصديقان يرعان شوارع نيويورك،  قصيٍّ مُهمَلٍ من أركان الشارع توقّفا عن السّير، وبدأ الصّديق الرسّام يشير بيده إلى غَمْرٍ من الماء  تجمّع بجوار الرّصيف وهو يقول له: أنظر، ويحكي بالدوين أنّه نظر في البداية فلم يرَ شيئًا، رأى غَمْرًا من الماء ليس إلاّ، وعاد الرسّام ليلحّ عليه من جديد، فقال له: أنظر، أنظر وعاود النظر، وهذه المرّة رأى شيئًا لم يره من قبل، رأى بقعة من الزّيت داخل الغمر، وعندما ركّز نظره أكثر وبمزيد من التمعّن، مع إلحاح الصّديق الرسّام في أن ينظر ويحدّق النظر، فبالإضافة إلى قوس قزح المُنعكس في الغَمر، رأى كذلك أشياء كثيرة أخرى، رأى أناسًا يمشون، المارّة، الحمقىَ، العُمُّال، السّود، الذين يقطعون الطريق كلّ يوم، ولم يتوقّفوا قطّ للنظر مثلما فعل هو، وبعد أن زاد تحديقه رأى المدينة بأكملها، ورأى الكَوْنَ داخل ذلك الغَمْر الحقير الذي يوجد في ركن مُهملٍ من أركان جزيرة منهاتن، ويقول بالدوين كان ذلك اليوم هو اليوم الذي تعلّم فيه أن يرى..! ويقول غاليانو معلقًا على هذه الحكاية: "إنّ الفنّ الحقيقي هو الذي يساعدنا على إعمال النظر، وعلى فتح نوافذ جديدة مُشرعة أمامنالم تكن تظهر لنا من قبل".

أوّل محرقة للبشر في أمريكا

يحفل كتاب "مذكّرات النار" بحقائق مُذهلة  وحكايات طريفة، وقصص مؤلمة عن تاريخ أمريكا اللاّتينية وهي قصص حقيقية، تتضمّن قيمًا رمزية عميقة تزيح الخِمار عن أشياء لا تخلو من أهمية، ويضرب الكاتب كمثال بواحدة من هذه القصص المُروّعة من تاريخ هذه الجهة النائية من العالم، عندما أقيم عام 1496 أوّل "مكان للحرْق"  أيّ أوّل محرقة لحرق البشر في أمريكا اللاتينية في هايتي، إنه منذ اكتشاف أمريكا لأوّل مرّة يتمّ معاقبة إنسان في هذه القارة بالقتل حرقًا،كان القاتل هو "بارتولومي كولومبوس" أخو "كريستوفر كولومبوس" البحّار الشهير المغامر، الضحايا الذين أضْرِمت فى أجسامهم  النيران حرْقًا وهم أحياء هم ستّة من الهنود الأبرياء ، ويشير غاليانو إلى أنّ هذا الإعدام، يجسّم لنا كلّ شيء، ليس فقط تصادم أو تناطح حضارتين، بل وأكثر من ذلك، هو أنّ أكبر خطأ لما يُطلق عليه اكتشاف أمريكا هو عدم اكتشاف شيء، لأنّ "كولومبوس" مات مقتنعًا أنه كان في اليابان كما يعرف الجميع. أيّ في ظهر آسيا. إنّ الأوروبيّين الذين قدِموا إلى أمريكا كانت لهم عيون لمشاهدة الحقيقة التي وجدوها، إلاّ أنهم كانوا مثل حالة الكاتب الأمريكي جيمس بالدوين كانوا عاجزين عن اكتشافها، إنّ نظرتهم لها كانت سطحية شبيهة بنظرة بالدوين الأولى للغَمْر. إنّ دأب هؤلاء كان هو السّلب والنّهب المنظمين، وإلحاق الأذى والضرر بالسكّان الأصليين، إنّ الغازي، يقول غاليانو: وصل لإنقاذ الذي وقع عليه الغزو من ظلام الوثنية، إلاّ أنه في آخر المطاف هو الذي وقع بين مخالب الوثنية الحقيقية، فما هو الذنب الفظيع الذي ارتكبه هؤلاء الهنود الستّة ليلقِي بهم بارتولومي كولومبوس أحياء في النّار ؟ !

الثلاثة ماتوا في كمين!

غاليانو يحكي لنا في نفس كتابه المثير"مذكّرات النار" برمزية عميقة عن مبدأ تقدير وتقديس الصّداقة في هذا الشقّ  النائي من العالم، فيخبرنا كيف أنّ البطل الأسطوري" بانشو فييّا" كان اسمه الحقيقي هو "دوراتيو أرانغو"، وبانشو كان اسم أعزّ اصدقائه، وعندما قتل الحَرَس المدني صديقَه الذي كان ينتمي إلى شلّة "أرانغو" اتّخذ لنفسه اسمَ صديقه، أيّ الاسم الذي هَوَى، وأصبح اسمه "بانشو فييّا" لكي لا يموت اسم صديقه أبدًا، إنّه نوع من مصارعة أو مقارعة الموت ضدّ النّسيان، الذي يُعتبر الموت الوحيد الذي يقتل حقيقة. وهكذا ظلّ اسم صديقه حيًّا في شخصه، تردّده أمريكا اللاتينية جيلاً بعد جيل حتى اليوم. ويسوق الكاتب مثالاً آخر في السياق نفسه فيقول: كيف يمكن تفسير أنّ ثلاثة من المتمرّدين الأمريكييّن الجنوبييّن المشهورين الذين أصبحوا يشكّلون نوعًا من الأسطورة في حياة النّاس، وفي أدب أمريكا اللاّتينية وهم: "سَابَاتاَ" و"سَاندينو" و"غِيفارا" جَمَعَهم مصيرٌ واحد، ونهاية واحدة، فالثلاثة ماتوا في سنّ 39 سنة، الثلاثة ماتوا على إثر خيانة، والثلاثة ماتوا في كمين نُصِب لهم.!


عدد القراء: 2444

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-