أحمد بهكلي .. سيرة ومسيرةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-10-01 00:44:04

أ.د حسن حجاب الحازمي

عضو مجلس الشورى

ينتمي أحمد بن يحيى البهكلي إلى أسرة البهاكلة، وهي أسرة علمية عريقة من أسر المخلاف السليماني (منطقة جازان حاليًا)، توارثوا العلم والقضاء والأدب كابرًا عن كابر منذ القرن العاشر الهجري وحتى وقتنا الحاضر.

وُلِد الأستاذ الشاعر أحمد بن يحيى البهكلي في مدينة أبو عريش بمنطقة جازان عام 1373هـ/ 1954م.

تلقى تعليمه الابتدائي في مدارس جازان والرياض، وأكمل مرحلتي المتوسطة والثانوية في مدينة أبها.

ثم انتقل إلى مدينة الرياض ليكمل تعليمه الجامعي في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وحصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية عام 1396هـ/1976م.

عمل بعد تخرجه معلمًا في معهد الرياض العلمي، لمدة خمس سنوات، من عام 1397هـ إلى عام 1401هـ.

وفي عام 1402هـ انتقل إلى جامعة الملك سعود بالرياض، ليعمل معيدًا في معهد تعليم اللغة العربية للناطقين بغير العربية، وابتعث من قبل جامعة الملك سعود إلى جامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية، ليحصل على درجة الماجستير في اللغويات عام 1406هـ 1986م.

عاد بعدها إلى أرض الوطن، وفي نيته العودة إلى أمريكا لإكمال درجة الدكتوراة. ولكن والده -رحمه الله- طلب منه أن يلغي فكرة السفر خارج المملكة، ويكمل دراساته العليا في الوطن، فامتثل لرغبة والده برًا ومحبة ووفاء.

وفي عام 1407 هـ انتقل من جامعة الملك سعود إلى كليات المعلمين، حيث عين محاضرًا في كلية المعلمين بجازان، ثم انتقل من كلية المعلمين في جازان إلى كلية المعلمين في الرياض محاضرًا ورئيسًا لقسم اللغة العربية من عام 1408هـ إلى 1412هـ.

وفي عام 1412هـ كلّف عميدًا لكلية المعلمين في منطقة جازان، واستمر عميدًا لها حتى أواخر عام 1424هـ.

أثناء مدة عمله عميدًا لكلية المعلمين، التحق ببرنامج الدكتوراة في كلية الآداب بجامعة الملك سعود، وسجّل رسالته للدكتوراه بعنوان: الازدواجية اللغوية دراسة تطبيقية لتأثير العامية على الفصحى في اللغة المكتوبة لدى طلاب المستوى الجامعي.

وظل يعمل عليها حينًا، وتصرفه عنها شواغل العمل الإداري حينًا آخر، حتى تمكن من إنجازها، ولكنّه للأسف لم يتمكن من مناقشتها لانتهاء الفترة الزمنية المتاحة للدراسة في الجامعة.

وبعد أن تخلّص من عبء عمادة كلية المعلمين في جازان، التحق ببرنامج الدكتوراة في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، في قسم البلاغة والنقد، ولكن قبل أن ينهي السنة المنهجية صدر قرار معالي وزير التربية والتعليم في ذلك الوقت الدكتور عبدالله العبيد، بتكليفه مديرًا عامًا لتعليم البنات بمنطقة جازان، وذلك عام 1426هـ.

وهكذا نجد أن حبّ أحمد البهكلي لخدمة وطنه، دفعه إلى التضحية بالدرجة العلمية المستحقة التي كان بإمكانه أن يحصل عليها بكل يسر، لو أنه استجاب لرغبته الذاتية، واعتذر عن كل هذه التكاليف التي أثقلت كاهله، واستنزفت عمره وطاقته، ولكنه آثر التضحية والفداء، والعمل المخلص الدؤوب، وآثر أن يسهم في البناء حتى ولو على حساب نفسه، وآثر أن يقدّم الآخرين، ويدفعهم إلى إكمال دراساتهم العليا دفعًا، تشهد بذلك أفعاله، ويشهد بذلك تشجيعه ودعمه، ويشهد بذلك أكثر من مئة دكتور في كلية المعلمين في جازان وغيرها كان يقف خلفهم أحمد البهكلي مشجعًا وداعمًا ودافعًا.

وإلى جوار أعماله الرسمية التي بدأها معلمًا، فمعيدًا، فرئيسًا لقسم اللغة العربية، فعميداً لكلية المعلمين في جازان، فمديراً عاماً لتعليم البنات بمنطقة جازان، إلى جوار كل ذلك كان أحمد البهكلي يعمل بقية النهار وجزءًا كبيرًا من الليل، لخدمة وطنه ومجتمعه في المجالات التي أحبها وأخلص لها…

ففي الجانب الصحفي والإعلامي، عمل محررًا في مجلة الفيصل مع الأستاذ علوي طه الصافي بدءًا من عام1398هـ، حتى تاريخ ابتعاثه إلى أمريكا.

كما أشرف على صفحة الثقافة والأدب في صحيفة المسلمون من عام 1409هـ إلى عام 1410هـ، وكان له عمود أسبوعي في الصفحة التي يشرف عليها.

ورأس تحرير مجلة مرافئ التي أصدرها النادي الأدبي بجازان منذ عام 1419هـ إلى عام 1426هـ.

كما رأس تحرير حولية كلية المعلمين بجازان، ودورية الإدارة المدرسية اللتين كانتا تصدران عن الكلية.

وشارك في إعداد عدد من البرامج والأحاديث الإذاعية في إذاعة الرياض.

وفي الجانب الأدبي، لأحمد البهكلي جهوده الكبيرة التي لا تنسى، وبصمته الواضحة التي لا تمحى، فهو شاعر كبير، وأديب متمكن، ولغوي بارع، ومثقف غزير المعرفة، وخطيب مصقع، لم يبخل على أحد بعلمه وأدبه، بل إنه المبادر دائمًا إلى تقديم المشورة والنصح والتوجيه، والتقويم للتجارب الشابة، وكم درج بين يديه من الشعراء والأدباء، وكم تعلموا منه، وأفادوا من تجربته، سواء داخل المؤسسات الثقافية أو خارجها. فهو من الأعضاء المؤسسين لورشة الاثنينية في نادي الرياض الأدبي، أثناء رئاسة الشيخ عبدالله إدريس للنادي، وكان يعمل مع الدكتور سعد البازعي والدكتور معجب الزهراني، ويتبادلون إدارة هذه الورشة التي برز من خلالها عدد من الشعراء والقاصين الشباب في ذلك الوقت.

وحينما عاد إلى منطقة جازان، التحق بالنادي الأدبي عضوًا عاملاً، ثم كُلّفَ نائبًا لرئيس النادي الأدبي الأستاذ حجاب الحازمي وكان ساعده الأيمن ومستشاره الأمين، وخلال فترة عمله نائبًا للرئيس أنشأ اثنينية مشابهة لتلك التي كانت في نادي الرياض الأدبي، وأشرف عليها أربع سنوات، وخلال هذه الفترة كانت الاثنينية منبرًا للشباب الواعدين الذين أصبحوا فيما بعد أدباء كبارًا يشار إليهم بالبنان، وجميعهم يذكرون هذه التجربة باعتزاز، ويشيدون بما قدمه لهم الأستاذ أحمد البهكلي من دعم وتوجيه وتشجيع حتى استقامت تجاربهم.

وأنشأ أيضًا مجلة مرافئ ورأس تحريرها، وكانت منبرًا مفتوحًا لكل التجارب الأدبية.

وكم من الشعراء الشباب، قدموا تجاربهم بين يديه على استحياء، فقربهم وشجعهم وقوم محاولاتهم حتى استقامت على عودها.

وقبل كل ذلك وبعده، فأحمد البهكلي قامة شعرية عالية، وقيمة أدبية كبيرة، وقمّة إنسانية عظيمة، لذلك فهو من الأسماء الأدبية الكبيرة الحاضرة في المشهد الأدبي السعودي، التي لا تغيب، ولا يمكن أن تغيب.

وقد شارك في إحياء عدد كبير من الأمسيات والأصبوحات الشعرية في جل الأندية الأدبية في المملكة، وفي عدد من الصوالين الأدبية، وعدد من الجامعات السعودية، كما كان عضوًا في عدد من الأندية الأدبية ومنها نادي جازان الأدبي، ونادي أبها الأدبي، ونادي الرياض الأدبي.

وفي مهرجان الجنادرية كان أحمد البهكلي حاضرًا دائمًا، وهو من الأسماء التي يحرص منظمو مهرجان الجنادرية على دعوتها، وكان عضوًا في لجنة المشورة الخاصة بمهرجان الجنادرية لأكثر من دورة، ومشاركًا في أكثر من أمسية شعرية من أمسيات المهرجان، وقدّم عام 1426هـ في المهرجان العشرين، قصيدة حفل الافتتاح التي تلقى أمام الملك، وهي مناسبة لا يختار لها إلا كبار الشعراء.

وعلى مستوى وزارة الثقافة والإعلام كان أحمد البهكلي حاضرًا ومشاركًا في معظم فعاليات الوزارة؛ في لجان المشورة، وفي مؤتمرات الأدباء السعوديين، وملتقياتهم، وفي اجتماعات الأندية الأدبية، وفي معارض الكتاب، فهو اسم له وزنه حين يحضر وحين يغيب.

وعلى المستوى الخارجي، شارك الأستاذ أحمد البهكلي في عدد كبير من المحافل والمؤتمرات الدولية، ممثلاً لبلده، ومنها: المؤتمر الآسيوي الثالث في الأدب والمكتبات الذي نظمته جامعة أوساكا في اليابان عام 2013م، ومؤتمر اللغة العربية وآدابها الذي نظمته كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية بماليزيا عام 2009م، ومؤتمر رابطة الأدب الإسلامي العالمية الذي أقيم في تركيا عام 2008م، ومؤتمر رابطة الأدب الإسلامي العالمية الذي أقيم في القاهرة عام 1423هـ، ومؤتمر اللغة العربية في دبي عام 2015م، وغيرها.

وفي الجانب الاجتماعي، كان للأستاذ أحمد البهكلي حضوره البارز في المؤسسات الاجتماعية الأهلية:

- فهو عضو مؤسس في الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، وتولى الإشراف على فرع الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في منطقة جازان منذ إنشائها عام 1426هـ حتى توفي رحمه الله عام 1443هـ.

- وعضو مؤسس في جائزة الأمير محمد بن ناصر بن عبدالعزيز بمنطقة جازان، وعضو في مجلس إدارتها بعد تشكلها، وعضو في مجلس أمنائها.

- وعضو مؤسس للجمعية السعودية للأدب العربي، وعضو مجلس إدارتها من عام 1424هـ  إلى عام 1434هـ

- وعضو في الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في منطقة جازان من عام 1417هـ إلى عام 1421هـ.

- وعضو اللجنة التأسيسية للجنة الأهالي في منطقة جازان.

- وعضو المركز التعاوني للدعوة وتوعية الجاليات الأجنبية في جازان.

- وعضو الهيئة الاستشارية لجمعية رعاية الأيتام في منطقة جازان - غراس -

- ورئيس اللجنة التأسيسية للمركز الثقافي في محافظة أبوعريش.

وإلى جوار ذلك كله كان له حضوره في لجان الإصلاح الاجتماعي، لما يتمتع به من هيبة وتقدير ومحبة، ولما يمتلكه من آراء صائبة، تجعل لحضوره دورًا حاسمًا في حل الخلافات، وإقرار الصلح.

هذا بالإضافة إلى حضوره الجميل، وطرحه الراقي المتزن، في وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة (تويتر والفيس بوك)، وردوده الهادئة المؤدبة، وتلطفه حتى مع مخالفي رأيه.

إنتاجه الأدبي المطبوع

صدر للأستاذ الشاعر أحمد البهكلي ثلاثة دواوين شعرية:

- الأرض والحب، صدر عن نادي جازان الأدبي عام 1398هـ.

- طيفان على نقطة الصفر، صدر عن نادي جازان الأدبي عام 1400هـ.

- أول الغيث، صدر عن نادي الرياض الأدبي، عام 1412هـ.

إنتاجه المخطوط

- أربعة دواوين شعرية مخطوطة.

- كتاب بعنوان: الازدواجية اللغوية  -دراسة تطبيقية لتأثير العامية على الفصحى في اللغة المكتوبة لدى طلاب المستوى الجامعي في المملكة - وهو في الأصل أطروحته لدرجة الدكتوراة التي تقدم بها لجامعة الملك سعود عام 1419هـ وتقع في 350 صفحة .

- كتاب: النقد النفسي عند العرب - دراسة في جذور النقد النفسي عند العرب من خلال منهج الناقد العربي أبو بكر الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن.

وهذا الكتاب في أصله كان بحثًا من بحوث متطلبات الحصول على درجة الماجستير في جامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية، أنجزه عام 1985م ويقع في 235 صفحة.

ولعل الله يقيض من أبنائه ومحبيه من يقوم على طباعة هذا الإرث المخطوط ونشره، وييسر من المؤسسات الثقافية من يتبناه.

الجوائز والتكريم

- فاز أحمد البهلكلي بجائزة المركز الأول - فرع الشعر الفصيح - في جائزة أبها الثقافية عام 1407هـ

- فاز بجائزة الأمير محمد بن ناصر بن عبدالعزيز للتفوق والإبداع - فرع الأكاديمي المميز - عام 1423هـ

- كُرِّمَ في مؤتمر الأدباء السعوديين عام 1422هـ

- كرم في وزارة التربية والتعليم عام 1423هـ

- كرم في نادي جازان الأدبي عام 1426هـ

- كرم في وزارة الثقافة والإعلام عام 1438هـ

- كرم في إمارة منطقة جازان عام 1439هـ

 بالإضافة إلى عدد كبير من التكريم وشهادات التقدير التي حصل عليها في المناسبات الثقافية والأدبية في مختلف مناطق المملكة وخارجها، من الأندية الأدبية، والصوالين الثقافية الخاصة، ومؤسسات المجتمع المدني.

تجربته الشعرية والدراسات التي تناولتها

بدأ أحمد البهكلي كتابة الشعر في مرحلة مبكرة من عمره، يؤيد ذلك قصة مشهورة ذكرها لي بنفسه، ورواها أدباء آخرون من منطقة عسير، وملخص هذه القصة أنه وهو في الخامسة عشرة من عمره ألقى قصيدة في محفل كبير في مدينة أبها، يحضره صاحب السمو الملكي الأمير الشاعر خالد الفيصل، وكان من مبلغ إعجاب الأمير خالد بهذا الشاعر الصغير أن ناداه بعد إلقاء قصيدته، وخلع ساعته، وأهداها له، وقال له: انتبه يا أحمد ترى الشعر يحرق، يُموِّت.

ويؤيد ذلك أيضًا إصداره لأول ديوان شعري عام 1398هـ أي بعد تخرجه من الجامعة بعام واحد، وعمره إذ ذاك ثلاثة وعشرون عامًا.

وعلى الرغم من أنه لم يصدر سوى ثلاثة دواوين شعرية، فإن شعره المخطوط الذي لم يطبع يشكل أربعة دواوين أخرى.

وتجربة البهكلي الشعرية -المطبوع منها والمخطوط- تجربة ثرية، تشير إلى شاعر متمكن من أدواته الفنية، بارع في صوره، ثري في لغته، حفي بقضايا وطنه وأمته.

وقد التزم في شعره كلّه الشكل العمودي وزنًا وقافية، ولم يكتب على شعر التفعيلة في أعماله المطبوعة سوى قصيدة واحدة بعنوان: ندى وضمنها ديوانه الثالث: أول الغيث.

وهو محسوب ضمن الشعراء المحافظين، ومع ذلك فإنه جدّد داخل هذا الإطار في لغته، وصوره المبتدعة، ويرى كثير من النقاد الذين تناولوا تجربته، بأنه تأثر وأفاد من تجربة الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني، ليقدم شعرًا حديثًا في ثوب محافظ، له نكهته الخاصة، وبصمته المميزة التي تشير إلى أحمد البهكلي الشاعر، وليس إلى أحد سواه.

وقد كتب عن تجربته الشعرية عدد من النقاد، منهم الدكتور علي صبح في كتابه: الاتجاهات التجديدية في الشعر العربي بجنوبي غرب المملكة العربية السعودية. والأستاذ حجاب الحازمي في كتابه: لمحات عن الشعر والشعراء في منطقة جازان. والدكتور حسن النعمي في كتابه: الشعر في منطقة جازان من عام 1351- 1418هـ دراسة موضوعية فنية-، والأستاذ عبدالله بن سالم الحميد في كتابه: من شعراء الجزيرة العربية.

   كما أنجز الباحث حزام الغامدي رسالة ماجستير عن شعره بعنوان: شعر أحمد البهكلي – دراسة تحليلية - نوقشت في جامعة أم القرى عام 1423هـ.

وقد تُرجم للأستاذ أحمد البهكلي في عدد كبير من المعاجم والدراسات الأدبية، منها:

-  قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية.

-  معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين.

-  موسوعة الأدباء والكتاب السعوديين، للأستاذ أحمد سعيد بن سلم.

-  دليل الكتاب والكاتبات في المملكة العربية السعودية، إعداد الأستاذ خالد اليوسف والأستاذة خزيمة العطاس.

-  دليل الأدباء بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.

-  معجم الأدباء الإسلاميين المعاصرين، للأستاذ أحمد الجدع.

-  لمحات عن الشعر والشعراء في منطقة جازان للأستاذ حجاب الحازمي.

-  التاريخ الأدبي لمنطقة جازان للأستاذ محمد بن أحمد العقيلي رحمه الله.

-  الشعر في منطقة جازان من 1351هـ - 1418هـ - دراسة موضوعية فنية، للدكتور حسن بن أحمد النعمي.

-  من شعراء الجزيرة العربية للأستاذ عبدالله بن سالم الحميد.

 أحمد البهكلي القائد

الأستاذ أحمد البهكلي -رحمه الله- كان إداريًا خبيرًا، وقائدًا ملهمًا، وأنا لا أقول هذا الكلام جزافًا، وإنما أقوله من واقع تجربة طويلة، عشتها معه وتحت قيادته أعوامًا طويلة، فقد كنت معيدًا في قسم اللغة العربية بكلية المعلمين في الرياض وكان رئيسًا للقسم، وخلال هذه الفترة التي استمرت من عام 1410هـ إلى عام 1412هـ، لمست عن قرب كيف يدير القسم بحب غامر للجميع، ونظام محكم، وكيف كان يتعامل معنا نحن المعيدين الجدد تشجيعًا ودعمًا وتوجيهًا، لقد ساعدنا جميعًا في اختيار تخصصاتنا التي اتجهنا إليها، وخفف عنا أعباء الجدول حين كنا ندرس السنة المنهجية، ودفعنا للمشاركة في اللقاء العلمي الأسبوعي الذي كان يقيمه القسم على الرغم من قلة بضاعتنا، وكان كثيرًا مايهدينا بعض الكتب المهمة في تخصصاتنا،  ويوجهنا إلى المصادر والمراجع التي تغيب عنا أو لم نكن نعرفها، ويدفعنا للمشاركة في أنشطة القسم وأنشطة الكلية، ويدعونا إلى النشاطات التي يقيمها نادي الرياض الأدبي، ويعرفنا على كبار الأدباء، ويدفع بمواهبنا الكتابية نحو التحقق.

لقد تحول قسم اللغة العربية في عهده إلى خلية نحل من العمل والجدية والنشاط والحيوية، وكان من أبرز الأقسام في كلية المعلمين بالرياض، وكم أقام من الفعاليات على مسرح الكلية، ودعا لها أعلامَا من الرياض ومن خارجها، وأذكر أنه دفع بي عام 1411هـ للمشاركة في أمسية شعرية في الكلية إلى جواره وجوار الدكتور ناصر الرشيد، كما كلفني في العام نفسه بتقديم حفل التخرج.

وبعد أن عُيّنَ عميدًا لكلية المعلمين في جازان عام 1412هـ لم ألبث بعده سوى عام واحد في كلية المعلمين بالرياض، عدت بعده إلى كلية المعلمين في جازان لأبدأ مرحلة جديدة تحت قيادته.

وبخبرة الإداري المحنك، بدأ البهكلي في ترتيب أوراق الكلية، وإعداد لوائحها الداخلية وتنظيم العمل، وتحديد المسميات، وتوزيع المهام.

وبحكمة القائد الملهم، بدأ في رسم سياسات الكلية العامة، وإعداد خططها الاستراتيجية، وتشكيل رؤيتها المستقبلية.

وبرؤية القائد المستشرف للمستقبل، بدأ أيضًا في بناء الإنسان وهو أهم ركن في العمل، وبدون بناء الإنسان لا يمكن أن ينجح أي عمل.

لقد دخل الكلية، وليس فيها من الكوادر السعودية إلا بضعة معيدين ومحاضرين، وليس فيها سوى دكتور سعودي واحد أو دكتورين، وغادرها وفيها أكثر من أربعين دكتورًا سعوديًا، وأكثر من ستين مبتعثًا لدرجة الدكتوراة؛ استقطب، وابتعث، ودفع، وشجع، وكان ثمرة ذلك كله، أنه حين افتتحت جامعة جازان عام 1426هـ وجدت كوادر جاهزة ومؤهلة، كان البهكلي قد أعدها لتسهم في تأسيس الجامعة الوليدة وبنائها، ولا أستطيع أن أعدد أسماء الدكاترة الذين تسنموا مواقع قياديه في الجامعة، وهم في الأصل ثمرة من ثمار كلية المعلمين في جازان في عهد أحمد البهكلي -رحمه الله -، وهم لم يقفزوا إلى هذه المواقع لأنهم يحملون درجة الدكتوراة فحسب، ولكن لأنهم تدربوا في مدرسة أحمد البهكلي العملية لصناعة القادة، وبناء الخبرات، فجلهم تدرجوا في العمل الإداري في كلية المعلمين في جازان بدءًا بالمهمات الصغيرة، التي تكبر شيئًا فشيئًا، كلما أثبت الشخص المختار لهذه المهمة فهمًا للعمل، وإخلاصًا فيه، ونجاحًا ملحوظًا. وسأضرب مثلًا بنفسي، فحينما عدت إلى الكلية عام 1413هـ، كلفني في البداية بالإشراف على النشاط، ثم أسند إلي رئاسة تحرير صحيفة (المنبر) الأسبوعية، ورئاسة بعض اللجان، ثم كلفني بعد سنة من هذه التجارب مديرًا للشؤون المالية والإدارية في الكلية، وأنا مازلت معيدًا، قليل الخبرة، فاحتججت على هذا القرار، ورفضته في البداية، وقلت له أنا لا أفقه شيئًا في الشؤون الإدارية والمالية، ونجاحي في إدارة النشاط والصحيفة لأنها جزء من اهتماماتي، وأملك فيها بعض المعارف والخبرات، ولأنني أحب النشاط والعمل الثقافي، أما الشؤون الإدارية والمالية فإنني لا أحبها، ولا أعرف شيئا عنها.

لكنه أصر على قراره، وقال: لا أحد يولد عالمًا، وهذه أشياء يمكن تعلمها واكتسابها، والخبرة لا تصنع من فراغ، ولا تتأتى إلا من خلال العمل والتعلم والخطأ والصواب. توكل على الله وسأساندك، وسأرسلك إلى أكثر من كلية لتطلع على تجاربهم، وتجمع جزءًا من خبراتهم، وتعود لتبني خبراتك وتنظم العمل، وتقوده إلى الأحسن إن شاء الله.

وافقت على مضض، وسرت في هذه التجربة مرغمًا، لكنني أفدت منها كثيرًا وتعلمت منها كثيرًا.

ثم ذهبت بعد ذلك لإكمال درجة الماجستير في الرياض وذلك عام 1416هـ، وحين عدت عام 1418هـ، لم يمهلني لألتقط أنفاسي، وإنما كلفني بقرار داخلي وكيلًا للكلية للشؤون الإدارية والمالية، وأسند إليّ مهمة الإشراف على النشاط، ومهمة الإشراف على معارض الكتاب التي كانت تقيمها الكلية سنويا، وإدارة تحرير حولية كلية المعلمين التي كان يرأس تحريرها.

وقبل مغادرته عمادة الكلية، رشحني مع الوكيلين الآخرين ليكون أحدنا خليفة له في عمادة الكلية، وذهبنا معًا إلى وزارة التربية والتعليم لإجراء مقابلة شخصية، ووقع الاختيار عليّ للأسف، وعدت مهمومًا وحزينًا لسببين الأول: هو أنني كنت أتمنى أن يقع الاختيار على أحد زميلي فهما ربما كانا أفضل مني لهذا الموقع، أما السبب الثاني فلأني لا أدري كيف يمكن لي أن أغطي مكانًا كان يشغله قائد مثل أحمد البهكلي؟ وهو أمر أشفقت فيه على نفسي، وأشفق عليّ منه الكثيرون.

وإذا كانت هذه تجربتي التدريبية في مدرسة البهكلي؛ فإن جميع زملائي مروا بمثلها، وتدرجوا في المهمات، ولا أستطيع أن أذكر تجارب جميع الزملاء في كلية المعلمين في جازان، فكلهم مروا بتجارب مشابهة، وأتاح لهم الأستاذ أحمد البهكلي فرصة التدريب واكتساب الخبرات، وهيأهم ليكونوا قادة المستقبل، ونجح في ذلك أيما نجاح.

وإضافة إلى اهتمامه ببناء الإنسان، فإنه لم يغفل بناء المكان، وأعني بذلك كلية المعلمين في جازان، التي تحولت في عهده إلى كيان حقيقي، كيان معتبر، كيان له شخصيته وهيبته ومكانته المستمدة من هيبة قائده ومكانته.

لقد تحولت الكلية إلى جامعة مصغرة، تضم أربعة عشر قسمًا أكاديميًا، وتمنح درجة البكالوريوس في ثمانية تخصصات، وبها أكثر من مئتي عضو هيئة تدريس من السعودية ومن كافة الدول العربية.

واستحدث فيها البهكلي أشياء كثيرة على غرار الجامعات، فأنشأ مركزًا للدراسات والبحوث التربوية، وكان له إصداراته السنوية، وأنشأ حولية كلية المعلمين، ودورية الإدارة المدرسية، وأنشأ ناديًا لأعضاء هيئة التدريس، وأنشأ مركزًا للتدريب وخدمة المجتمع وهو النواة لعمادة خدمة المجتمع والتعليم المستمر بالجامعة، وأنشأ مركزا لتقويم الاختبارات، ومركزًا لتدريب وتطوير أعضاء هيئة التدريس، وأقام معرضًا سنويًا للكتاب، واحتفالًا سنويًا للخريجين ويومًا سنويًا للمهنة، وهكذا تحولت كلية المعلمين إلى جامعة، وأصبحت في عهده صرحًا علميًا شامخًا له مكانته وهيبته وتأثيره.

  لقد كان قائدًا استنثنائيًا بحق، وشخصية مؤثرة بالفعل، وبانيًا من البناة الناجحين، ومشعلًا من مشاعل النور.

أحمد البهكلي الإنسان

 أحمد البهكلي على المستوى الإنساني شخصية فريدة، فهو رجل نبيل، فاضل، خلوق، كريم، معطاء، متواضع، صادق في تعامله، صدوق في كلامه، وفي لمحبيه، مخلص لأصدقائه، عفيف النفس، عف اللسان، مؤدب في جده وهزله، أديب حتى في حديثه العادي، يختار مفرداته بعناية، ولا يتحدث إلا باللغة الفصحى، يتحدث إليك في حديثه اليومي المعتاد، وكأنه يتحدث على منبر في جمع من الناس، تتدفق من فمه الكلمات العذبة المنتقاة، متحاشيًا الأخطاء اللغوية الشائعة، حريصًا على نطق الكلمات نطقًا صحيحًا، وكأنه يعلّم لا يتكلم.

وأحمد البهكلي رجل محب لفعل الخير، محب لكل الناس، يبذل ماله وجاهه، ويضحي بنفسه ووقته لخدمة الآخرين، صبور إلى درجة ربما يعجز عنها الصبر ذاته، وكم تحمل من آلام المرض، وكم تحمل من أذية، ولكنه لا يشكو ولا يتذمر، يشق طريقه بصمت، ويمضي في إنجاز مهامه بقدرة عجيبة على الصبر والتحمل والتجمل أيضًا، وكم ردّ الإساءة بالإحسان.

ولأنني خبرته وعرفته عن قرب، فقد أهديث إليه أطروحتي للدكتوراه وكتبت في الإهداء: إلى أحمد البهكلي: الشاعر الإنسان، الذي علمنا –بالفعل- كيف نحب الآخرين وندفعهم إلى الأمام، حتى وهم يجروننا إلى الخلف ويرموننا بالحجارة.

ولأن الكلمات تعجز أن تُجْمِل صفاته العظيمة، وخلاله الكريمة، فسأورد بعض الإشارات المختصرة التي تدل على بعض منها:

إذا زرت أحمد البهكلي خرجت من عنده بهدية: كتاب، أو طيب، أو حكمة، أو قصيدة.

وإذا زارك حمل إليك هدية أيضًا.

ففي شهر شوال من العام الماضي 1442هـ زرته في بيته أنا وحسين دغريري وناصر الحازمي، وخرج كل واحد منا بكتاب في تخصصه هدية من أحمد البهكلي –رحمه الله-

وفي نهاية الشهر نفسه التقيته في الرياض، وترافقنا لزيارة الدكتور محمد منور في بيته في الرياض، وإذا به بعد خروجنا يفتح باب سيارته، ويسلمني هدية، ويسلم محمد منور هدية أخرى.

خلال فترة قيادته للكلية كان حريصًا جدًا على حضور المناسبات الاجتماعية لجميع أعضاء الكلية من أصغر موظف حتى أكبر أستاذ، يشارك الناس أفراحهم وأتراحهم، وما أقام أحد مناسبة فرح، إلا كان أحمد البهكلي أول الحاضرين والمساهمين، وما رزئ أحد بفقد قريب أو حبيب، إلا كان أحمد البهكلي أول المواسين والمؤازرين، وما مرض أحد إلا كان أول الزائرين.

  واستكمالًا لهذه المشاركات الإنسانية الاجتماعية، بنى في الكلية خيمة سماها خيمة المناسبات، وأنشأ ناديًا لأعضاء هيئة التدريس، وكلا المكانين كانا مقرًا للاحتفال بنجاحات فريق العمل في الكلية ومناسباتهم.

ولم تكن مشاركاته الاجتماعية مقصورة على أعضاء فريق كلية المعلمين فحسب، بل إنه كان مشاركًا لكل معارفه، يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، وكم صحبته إلى أبها والدرب والشقيق وصامطة، وبيش وغيرها من الأماكن الكثيرة، في مناسبة فرح أو ترح.

يتصل بي، ويصر عليّ الذهاب حتى وإن أبديت أعذارًا، وحاولت ثنيه عن الذهاب إشفاقًا عليه، ولكنه لم يكن يشفق على نفسه، ويرى أن مشاركة الناس أوجب الواجبات.

سافرت معه أنا وزملائي د. يحيى حكمي، ود. عبدالعزيز حكمي، ود. ناصر الحازمي ود. مجدي خواجي أكثر من مرة خارج المملكة في مؤتمرات علمية، وكان خلال هذه الرحلات نعم الرفيق في السفر، وعلى الرغم من فارق المسافة بيننا وبينه لمصلحته طبعًا –علمًا وأدبًا وخلقًا وتقى- فإنه كان يتحول إلى أخ أصغر يعلمنا بحبه وتواضعه وأدبه الجم كيف نرتقي في تعاملنا؛ وكيف يمكن أن نفيد من رحلاتنا.

وكان أكثر جلدًا منا في حضور الجلسات العلمية والنقاشات، وكان أكثر حرصًا منا على اكتشاف المكان وآثاره وحضاراته، وثقافته، بل إنه في كل يوم كان يعد خطة سياحية ثقافية خصوصًا بعد انتهاء أيام المؤتمر، نعجز عن مجاراته فيها، ونعجز عن إتمامها، وكان محبًا للتصوير والتوثيق، حريصًا على الإفادة من كل لحظة من لحظات الرحلة.

أحمد البهكلي صاحب رأي ورؤية، ولذلك كان رأيه حاسمًا في كثير من الاجتماعات الرسمية والثقافية والاجتماعية، فهو صاحب حجة وبلاغة ومنطق وتجربة وخبرة، لا يجازف بالكلام، ولا يسابق إليه، ينصت للجميع بكل روية، ويصبر على المتحدث مهما طال كلامه، ويأتي في النهاية كلامه مقطرًا، حاملًا الحكمة والحجة والإفادة.

أحمد البهكلي رجل مخلص في عمله، نزيه، حريص على المال العام، دؤوب ومثابر وجاد ومجتهد، يتعب من معه، ويتعب من يأتي بعده.

أحمد البهكلي كان أمة في رجل.

ولذلك فإن الفراغ الذي تركه برحيله كان هائلًا وعظيمًا بحجم حضوره.

رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه الفردوس الأعلى في الجنة.


عدد القراء: 2979

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-