أعلام الفلسفة الغربية في روايات إرفين يالومالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-01-31 14:02:47

د. مازن الناصر

باحث في الأدب العالمي - سورية

وظّف الروائي الأمريكي إرفين يالوم (1931 - ) (Irvin Yalom) فنَّ الرواية في تقديم سيّر ثلاثة أعلام كبار في الفلسفة الحديثة ممّن كان لهم أثرٌ كبيرٌ في الثقافة الأوربية، والفكر الغربي، إذ يعدُّ سبينوزا (Spinoza) (1632 - 1677) من أوائل المفكرين الذين بشّروا بالعلمانية، وظهور الدولة السياسية الليبرالية، ومهدوا الطريق إلى التنوير، وقد تركت فلسفة شوبنهاور أثرًا كبيرًا لدى المفكرين والمبدعين الأوربيين في القرن العشرين مثل إميل سيوران (1911 - 1995) Emil Cioran وتوماس برنهارد (1931 - 1989) Thomas Bernhard) وميلان كونديرا (Milan Kundera ( -1929. أما نيتشه Nietzsche 1844 - 1900 فقد أثارت فلسفته جدلاً كبيرًا بين مفكري العصر المعاصر حول الحداثة وما بعد الحداثة، إذ رأى يورغن هابرماس (1929) (Habermas) أن فلسفته تمثل مفترق طرق ما بعد الحداثة)(1) أما جياني فاتيمو (1936 - ) Gianteresio Vattimo فقد وضع فلسفته في نهاية الحداثة(2) .

شغلت حياة هؤلاء الفلاسفة وسيّرهم اهتمام الروائي إرفين يالوم فكتب ثلاث روايات تناولت حياتهم ومواقفهم الفلسفية، وهي:

رواية عندما بكى نيتشه:

سردَ إرفين يالوم في رواية عندما بكى نيتشه الصادرة سنة 2015 أحداثًا مهمةً من حياة نيتشه، مستعرضًا فيها أفكاره ومواقفه حول القيم الإنسانية والدين والأساطير، وعلاقته بأخته إليزابيث، وحبه للكاتبة والمحللة النفسية لو سالومي (1937 - 1861) (Lou Salome) التي عُرِفَت بعلاقاتها مع أبرز مفكري وأدباء القرن التاسع عشر، مثل الشاعر الألماني ريلكه (Rilke) (1875- 1926) وفرويد (1939 - 1856) (Freud).

عرف نيتشه سالومي عن طريق صديقه بول ري سنة 1882، وأقام معها علاقة عاطفية ما لبثت أن انتهت بسبب صديقه بول ري، وأخته إليزابيث. وقد استغل الروائي هذه العلاقة ليقدّم مادته السردية، إذ تبدأ الرواية بحدثٍ متخيّلٍ وهو وصول رسالة من لو سالومي إلى الطبيب جوزيف بروير (1842 - 1925) (Josef Breuer) تطلبُ منه أن تلتقي به لكي تقترح عليه أن يقوم بعلاج نيتشه الذي يعاني من اكتئاب حاد. وبعد ذلك، تنشأ علاقة صداقة بين الطبيب ونيتشه تتيح للروائي إمكانية عرض مواقف نيتشه وأفكاره الفلسفية حول الإنسان والحياة والموت والقيم الأخلاقية.

يركّز إرفين يالوم في هذه الرواية على فترة زمنية محددة وهي الشهور الأخيرة من عام 1882، ويعود السبب في ذلك إلى أن نيتشه كان في هذه الفترة يعاني من الاكتئاب الذي تبدّت آثاره من خلال الرسائل التي أرسلها إلى لو سالومي، ومنها قوله في الرسالة المؤرّخة في كانون الأول 1882: «سواء أكنتُ أعاني كثيرًا أم لا فهذا أمر غير ذي أهمية مقارنة بالسؤال فيما إذا وجدتِ، عزيزتي لو، أم لم تجدي نفسك مرة أخرى. فلم أتعامل قط مع شخص مسكين مثلك. جاهلة لكنك سريعة البديهة... لا يُعتمد عليكِ. سيئة السلوك فظة في أمور الشرف. دماغ له الإشارات الأولى لشخص فيه روح قطة مفترسة في ثياب حيوان أليف».

رواية علاج شوبنهاور:

تناول إرفين يالوم في هذه الرواية الصادرة سنة 2018 حياة الفيلسوف شوبنهاور من خلال مستويين في السرد، تمحور الأول منهما حول أحداث متخيّلة تبدأ بمعرفة الطبيب النفساني جوليوس بإصابته بسرطان في الجلد، ما يعني أن حياته قد اقتربت من نهايتها، وهذا ما يدفعه إلى الاتصال بمريض اسمه سلايت فيليب الذي جاء إليه قبل عشرين سنة ليعالج نفسه من تكريس حياته كلها وطاقته الحيوية لممارسة الجنس. وبعد ثلاث سنوات من بدء العلاج ينقطع فيليب فجأةً عن زيارة الطبيب الذي قرر، بعد معرفة إصابته بالسرطان، أن يتواصل معه مجددًا لكي يعرف إن كان قد تخلص من مشكلته أم لا، فيخبره فيليب أنه وجد علاجه في فلسفة شوبنهاور.

يوفر هذا الحدث للروائي ذريعة الانتقال إلى المستوى الثاني من السرد الذي يقوم على عرض سيرة الفيلسوف شوبنهاور وحياته منذ ولادته وحتى وفاته، مستعرضًا مواقفه، وأفكاره التشاؤمية، محاولاً معرفة مصدر التشاؤم في فلسفته.

رواية مشكلة سبينوزا:

يعترف إرفين يالوم في مقدمة هذه الرواية التي صدرت سنة 2019 أنه وجد صعوبة في كتابة قصة تدور حول الفيلسوف الهولندي سبينوزا بسبب قلة المعلومات التي تتحدث عن حياة هذا الفيلسوف، والتي من شأنها أن تساعده في تقديم مادته السردية. ويعود السبب في قلة هذه المعلومات إلى أن رجال الدين اليهودي في هولندا قد أصدروا قرارًا يطردُ سبينوزا من اليهودية، ويفرض على كل اليهود أن ينبذوه، وأن يعرضوا عنه طوال حياته، وألا يكلموه، وألا يقيموا معه علاقة تجارية، وألا يقرأوا أي كلمة يكتبها، ولذلك استند الروائي في روايته إلى قصةٍ استمد أحداثها من أفكار سبينوزا وآرائه التي عبر عنها في كتابيه ( رسالة في اللاهوت والسياسة) و(الأخلاق) فضلاً عن الأحداث الواقعية التي وردت في سيرة هذا الفيلسوف، ومنها أن شابين جاءا إلى سبينوزا وتحدثا معه بغية تشجيعه على البوح بأفكاره الهرطقية، ومن ثم ذهبا إلى الحاخام مورتيرا ليقدما وشايتهما.

وكذلك، استند يالوم إلى تجربته وخبرته في الطب النفسي في بناء قصته، ولاسيما فيما يخص تصوير المشاعر العاطفية لسبينوزا ورد فعله بعد صدور قرار الطرد.

ومع ذلك، فإن الروائي لم يكتفِ في روايته بما توفر لديه من وثائق تاريخية، وما اكتسبه من خبرة في مجال الطب النفسي، وما استمده من كتب سبينوزا، وإنما عمد إلى تقديم سيرة ذاتية للمنظر السياسي في الحزب النازي ألفريد روزنبرغ (1893 - 1964) (Alfred Rosenberg) الذي أُعدمَ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

وعلى الرغم من أن روزنبرغ لم يعاصر سبينوزا، وأن الأول سياسيٌّ والثاني فيلسوف، إلا أن يالوم قد وجد في حدث تاريخي ذريعةً للربط بين هاتين الشخصيتين في الرواية، إذ أمرَ روزنبرغ بعد وصول النازيين إلى هولندا بنهب جميع محتويات متحف سبينوزا، ونقلها إلى مكانٍ بعيد. يفسر يالوم هذا الحدث التاريخي بأن روزنبرغ أراد أن يكتشف مشكلة سبينوزا.

وعلى هذا الأساس، قدّم إرفين يالوم في رواية مشكلة سبينوزا سيرتين لشخصيتين متناقضتين بوصفهما تجسيدًا للصراع بين الخير والشر.

خاتمة:

تسرد هذه الروايات الثلاث سيّر سبينوزا، وشوبنهاور، ونيتشه، إلا أن ذلك لا يعني أن شخصية الروائي لم تظهر فيما سرده من أحداث ووقائع، إذ يمكن لقارئ رواية عندما بكى نيتشه أن يستشف تعاطف الراوي مع نيتشه ولاسيما في سياق الحديث عن علاقة الأخير بلوسالومي. وفي رواية علاج شوبنهاور لابد للقارئ أن يدرك رفض يالوم تشاؤم شوبنهاور، ومواقفه حول الحياة الإنسانية، وهذا ما تجلى في نهاية الرواية من خلال شخصية فيليب، أما في رواية مشكلة سبينوزا فإن إعجاب يالوم بأفكار سبينوزا وفلسفته لا يخفى على قارئها.

إن هذه الروايات من شأنها أن تقدّم مادةً علميةً تمكّن القارئ من معرفة آراء هؤلاء الفلاسفة ومواقفهم وأفكارهم الفلسفية وعلاقاتهم الأسرية والاجتماعية، وظروف حياتهم التي أسهمت في تكوين فلسفاتهم، فضلاً عما توفره من متعةٍ منبثقةٍ من خصوصية الجنس الروائي وتميزه عن غيره من الأجناس الأدبية، ولاسيما فيما يخصُّ قدرته على استيعاب ما لا يمكن أن يستوعبه جنسٌ أدبي آخر. 

المراجع:

1 - يورغن هابرماس: القول الفلسفي في الحداثة، ترجمة: فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1995، ص137.

2 - جياني فاتيمو: نهاية الحداثة، ترجمة: فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1998، ص184.

3 - إرفين يالوم: عندما بكى نيتشه، ترجمة: خالد الجبيلي، منشورات الجمل، بغداد- بيروت، 2015.

4 - إرفين يالوم: علاج شوبنهاور، ترجمة: خالد الجبيلي، منشورات الجمل، بغداد- بيروت، 2018.

5 - إرفين يالوم: مشكلة سبينوزا، ترجمة: خالد الجبيلي، منشورات الجمل، بغداد – بيروت، 2019.


عدد القراء: 2034

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-