الثقافة التاريخية في الوطن العربيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-05-10 05:36:55

د. أشرف صالح محمد

عضو هيئة التدريس - كلية الآداب والعلوم الإنسانية - جامعة ابن رشد – هولندا

ترجع أهمية الثقافة التاريخية إلى أننا نعيش اليوم في مجتمع طرأت عليه تطورات اجتماعية واقتصادية وتكنولوجية كثيرة، واقتحمته تيارات ثقافية متباينة، فأدت إلى انفصام اجتماعي وثقافي خطير، ولاسيما بين فئات الشباب، لهذا فإن الحاجة ماسة إلى وجود ثقافة تاريخية تسهم في تأصيل الانتماء لدى هذا الجيل من الشباب، وتجعله قادرًا على التعامل مع القضايا والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تواجهه بأسلوب يتسم بالوعي.

ويقصد بالثقافة التاريخية وجود قدر كافً من المعرفة التاريخية لدى الإنسان التي تـشـمـل: (الحقائق، المعلومات، المفاهيم) وتُعَدّ بمثابة البعد المعرفي للثقافة التاريخية.

مأساة "التاريخ" في العالم العربي

هناك الكثير الذين ينظرون إلى تخصص التاريخ على أنه علم يبحث في عالم الأموات بالتنقيب عن مآثرهم، وانتصاراتهم، وهزائمهم، وسلبياتهم، ويروي حكايات وقصصًا عفا عليها الزمن، وهو باختصار قصة الماضي الذي توارى خلف الزمن ولن يعود. ومن المؤسف أن هذه النظرة ترسخت وأصبحت هي الفكرة السائدة عن "علم التاريخ".

ظُلِم "التاريخ" وظُلِم معه مَنِ اهتم به، فالتاريخ كعلم يصوغ التجربة الإنسانية باتجاهات ومدارس تشكلت عبر دورات زمنية ومحطات توقف، أخذت من باحثين ومفكرين جهدًا ووقتًا، وقادهم هذا التعمق إلى بناء نظريات والانطلاق برؤى تحمل أبعادًا مختلفة للتجربة الإنسانية.

مما لاشك فيه أن استلهام أحداث الماضي يساعد إلى حد كبير في فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، وهي رؤية تتسم بالحيوية والحركة وليست ثابتة في مكانها أو جامدة، تعتمد على فهم وتحليل تفاصيل الوقائع والأحداث الفريدة التي مضت وانقضت. فالماضي يلعب دوره الواضح في تحريك الحاضر، فالتاريخ أساس لتثقيف المجتمع وإرشاده لقواعد السلم والحرب وإدارة شئون الدولة والتخطيط لمستقبلها، من هنا يتحول مفهوم التاريخ من نطاق العلوم النظرية إلى العلوم العملية، لأنه علم يرتبط بوجود الدولة وعناصرها المتمثلة في الأرض والشعب والسلطة السياسية، ويعبر عنهم جميعًا بأنهم هوية الوطن ووجوده.

المجتمع والثقافة التاريخية

إذا أردنا أن نصدر حكمًا على مدى رقي وتقدم أي مجتمع من المجتمعات، فعلينا أن نرى أولاً مدى حرص هذا المجتمع على الاهتمام بتاريخه، وكذلك مدى صدق المنهج في عرض هذا التاريخ قديمًا أو حديثًا، ذلك لأن الثقافة التاريخية التي يستوعبها الطلاب في أي مجتمع من المجتمعات تسهم وبشكل واضح في تشكيل شخصية هؤلاء الطلاب، وكذلك في تكوين التوجهات المختلفة سواء منها السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، وبالإضافة إلى تأثيرها على الجانب الخلقي وما يحتويه من قيم واتجاهات وميول، ولعل ما سبق يشير إلى خطورة ما يقدم من الثقافة التاريخية لأجيالنا، وهذا ما يدفعنا إلى أن نقف لنرى مدى صحة ما يقدم من معلومات تاريخية ضمن مناهج المراحل الدراسية المختلفة، وكذلك الموضوعات التي يتم تناولها ومدى مناسبتها للطلاب.

فيدرس الطلاب في المدارس ما يطلقون عليه "التاريخ"، مادة لا بد للطالب أن يحفظ كل ما جاء فيها من معلومات بلا نقاش، محتفظًا بأسئلته، إن وجدت، لنفسه، أو لأسرته إن كانت لديهم القدرة والإمكانية لتشجيعه على البحث عن حقائق مختلفة عما تقدمه له الكتب الدراسية. وهذا ما دفع طه حسين إلى أن يقول للطلاب بطريقة غير مباشرة، اعتمدوا على أنفسكم إذا أردتم معرفة التاريخ، في مقدمته لكتاب "فصول مختارة من كتب التاريخ" والذي كان مقررًا على طلاب الصف الثالث الثانوي (1952)، قال: "الحادثة التي تحدث منذ قرون طوال ثم يسجلها المؤرخون إثر وقوعها، ثم يأخذها عن هؤلاء المؤرخين جيل آخر من كُتَّاب التاريخ، ثم تتناقلها الأجيال وتصورها في الكتاب، لا تصل إليك خالصة من كل شائبة، مبرأة من كل أثر لهؤلاء من الذين تناقلوها، ولحظوظهم المختلفة من الدقة في النقل، والصدق في الرواية، ومن حسن الفهم، وصواب الحكم، وبراعة التصوير والتعبير".

إن الإنسان المثقف تاريخيًّا يمكن وصفه بأنه ذلك الشخص الذي يمتلك صورة شاملة عن بنية التاريخ من معلومات واتجاهات وتعميمات ونظريات ومهارات واتجاهات تساعده على الفهم والتفسير لكل ما يتصل بهذا المجال، كذلك يمكن وصف الشخص المثقف تاريخيًّا بأنه القادر على نقل المفاهيم التاريخية إلى مستوى التطبيق في الحياة اليومية، بل ويصبح قادرًا على التخطيط واختزال المعرفة، وعلى هذا لا يكون حفظ المعارف واستيعابها ونقلها إلى العقول هي الغاية المرجوة، وإنما قدرة الطلاب على استخدام المعرفة التاريخية وتطبيقها في الحياة اليومية.

مميزات الثقافة التاريخية

ويمكن القول؛ إن من مميزات الثقافة التاريخية بشكل عام أنها وعاء للفعل الحضاري، وميدان تنزيل القيم على الواقع، وذاكرة الأمة ومحل تجربتها وعبرتها، وهى مخزون غني يورثه الآباء للأبناء والأحفاد، ونهر متدفق يتجه من الماضي، ويمر بالحاضر، ويصب في المستقبل، ولذلك لا غنى عنها لكل العاملين في مجال التربية والتعليم، والثقافة، والإعلام، ولكل رواد الإصلاح لعالم الغد.

ولعل من أبرز ميزات الثقافة التاريخية أنها توسع اختبار الإنسان وتعمقه، وكذلك تُعَدّ بمثابة سبيل لإدراك الذات، أفرادًا وأمة وإنسانية، وهذه الثقافة تبعث في النفس اعتزازًا بالأجيال الماضية، من شأنها بناء الفرد والأمة، وتوطيد كيانهما، على أن تكون معرفة الذات المؤدية إلى احترام الذات، وتقدير الماضي، هي أيضًا نقد للذات وللماضي.

وأخيرًا؛ فإن الثقافة التاريخية تنمي الحكمة، التي يولدها عمق الاختبار وسعته، والتي تلح على الإنسان في التساؤل حتى يصل إلى الأعماق والجذور.  إن الإنسان الحي الفاعل صانع التاريخ، ليس مستقبليًّا مطلقًا، سائحًا في الأحلام، ولا حضاريًّا مطلقًا، غارقًا فيما حوله من مشكلات، ولا تاريخيًّا مطلقًا، يحن إلى الماضي ويبغي أن يرجعه كما كان، وإنما يعيش بإدراك متزن صحيح، وشعور دقيق نافذ بين الحاضر والماضي والمستقبل.

 

المراجع:

- دلال بنت مخلد الحربي، افتتاحية العدد: "كيف نقدم التاريخ؟".- دورية كان التاريخية (علمية، عالمية، مُحَكَّمة).- العدد الخامس والعشرون؛ سبتمبر 2014. ص 8.

- عمار علي حسن، "حكمة التاريخ والنبوءة".- الوطن (www.elwatannews.com).- منشور بتاريخ 18 فبراير 2014.

- ياسر عبد الحافظ، "احجز مكانك في كتاب التاريخ".- أخبار الأدب.- ع 1108؛ أكتوبر 2014. ص5.   


عدد القراء: 8276

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-