الفكر الجغرافي والأدبالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-10-02 08:10:44

حميد ارديف بن عيسى

المغرب

كثيرًا ما اهتم الأدباء والشعراء بالمكان واقتنصوا فيه لحظات ومشاهد مغرية للقراء ومسيطرة على الذائقة، فكانت إلهامًا لهم ووحي ينسج من خيالاتهم ويسيطر على كتاباتهم وإشعارهم، ولعلي أجد في قراءتي هذه المتواضعة انفتاحًا وتداخلاً بين الفكر الجغرافي والإنتاجات الأدبية في شتى العصور والفنون، وفي أبهى تجليتها تتدفق معان كثيرة أحاول رصدها لاستجلاء الحقيقة وتبيان الأشياء.

ليس من الضروري أن يكتب الجغرافي وصفًا عن المجال وعن الفضاء بنفس النهم الذي يكتب به الروائي أو القصصي، ولكن المتتبع يرى أن لكليهما هوس بوصف المكان، فأحيانًا بنبرة الأدب يتجاوز الكاتب أسطر الإخبار والسرد إلى البناء الذي تتولد عنه معرفة بكيفية تنظيم المجال...

والجغرافية الكلاسيكية (الوصفية) لم تكن موضوعاتها لغاية الوصف فحسب، بل كانت أحيانًا تراكيب لصور بلاغية تضم في مكنوناتها تعبيرًا استطيقيًا يضيء جنباتها، كأنها تلتصق بالسرد الأدبي أكثر منه بالنص الجغرافي.

الجغرافيا في المشهد الأدبي

في اعتقادي فجنس الرواية يعتبر شكلاً تعبيريًا جغرافيًا بامتياز، وذلك لحضور المجال بشكل مكثف، ناهيك عن وجود خلفيات ومواقع وسيادة منطق الصراع، وحدود وآفاق وتعدد الرؤى ووجهات النظر، وقد تناول أغلب الروائيين في كتاباتهم سواء في الغرب أو الشرق فضاء المدينة وما طرأ عليها من تحولات وديناميات وطرق العيش والقيم المجتمعية والعادات السائدة، بغية معالجة ظواهرها وتناول إشكالاتها المختلفة؛ لذلك فوصف المشهد الحضري يعبر كذلك عن معتقدات ذلك المجتمع وتعقد الحياة به، وفي مقابل دلك تعتبر الكتابات حول المشاهد الريفية كانت تعتبر ثورة حول التغيير الاجتماعي وفي معظمها كانت تحاول نبد الأفكار التي أتت بها سياسة التصنيع وتهميش العالم القروي والليبرالية الاقتصادية، إذن كانت هده الكتابات في صلبها تعبير عن جغرافيا أخلاقية لحياة وسلوك اجتماعيين.

فعند الأديب نجيب محفوظ نجد حضورًا للمدينة المصرية بكل حمولتها الثقافية والسياسية، ترصد معيش المجتمع المصري في حقبة معينة دون إهمال وصف البنى والعمران والطقوس والشخوص عن كثب، وقد تميزت جل أعماله سواءً قصصًا أو روايات بمنطق الوصف في بعده المكاني ومن أهم هده الروايات "أولاد حارتنا" التي فازت بجائزة نوبل للآداب سنة 1988، وقد أدرك المتخصصون الجغرافيون في الجغرافيا البشرية على وجه الخصوص ضرورة الرجوع إلى الوصف الأدبي الروائي لدراسة الإحساس بالمكان في لحظة إثارة الذكريات وهو ما أطلق عليه رسم الأماكن بالكلمات.

في البؤساء للكاتب "فيكتور هيكو" التي اختار لها مدينة باريس كفضاء للحكي، تتشكل أزقة الفقراء المهمشين من مشهد جغرافي مظلم لمدينة سيئة كمتاهة تندر بالشؤم، محاولة منه للتعبير الرمزي عن الرفض ونقد الأوضاع السائدة إبان ما قبل الثورة الفرنسية.

ولا نقتصر على الروايات فقط، فبعض الكتاب المرموقين الدين اهتموا بالأماكن هم شعراء، اتخذوا من الوصف للمكان أغراضًا جديدة للشعر المعاصر فأمير الشعراء أحمد شوقي  حينما زار مدينة زحلة اللبنانية، افتتن بتنظيمها وموقعها المجاور لوادي العرايش، وجمال أبنيتها، وتنظيم المقاهي والمطاعم بها والطرقات والزوار والأهالي فنظم قائلاً:

يا جارة الوادي طربت وعـــــادني                    

                   ما يشبه  الأحلام  من  ذكـــراك

مثلث في الذكرى هواك وفي الكرى                    

                    والذكريات صدى السنين الحاك

لم أدر ما طيب العناق على الـــهوى

                    حتى  ترفق  ساعدي  فطـــواك

في الحاجة إلى فكر جغرافي متجدد

تأثر الفلاسفة القدامى وكذلك رواد الجغرافيا بنظريات عديدة لتفسير الظواهر الطبيعية والبشرية اللتان هما موضوع حقل الجغرافيا، كنظرية النشوء والارتقاء لداروين، فاستقوا منها مفاهيم أربعة: مفهوم التغير عبر الزمن، مفهوم التنظيم، مفهوم الصراع والانتقاء، ومفهوم العشوائية؛ ومن ثم حدث طفرة نوعية في علم دراسة أشكال الأرض، وظهر بوسم "الجيومورفولوجيا" وفي هدا السياق-أي التطور- أخد الجغرافيون يركزون على العلاقات التي تربط الإنسان بالبيئة سعيًا منهم إلى استنباط القواعد العامة التي تحكم تطور الأجناس  وتوجهه، فانتقلت الجغرافيا من العامة إلى الجغرافيا الإقليمية.

هده النظرية لم تكن جديرة بتقديم تفسيرات مقنعة، حيث ظهرت اتجاهات فلسفية أخرى مفسرة للعلاقات بين الإنسان وبيئته، فذهب "راتزل" إلى فكرة الانتشار الثقافي، التي تفسر انتقال الظواهر الإنسانية والهجرات السكانية حين عبر عنها في كتاب "الجغرافيا السياسية" سنة 1897، فكان لا بد لتطور الإنسان في بيئته شروط ثلاثة وهي: المكان أو الحيز الجغرافي الذي يقطنه، ثم المنطقة التي هي مجال تفسحه، والحدود الطبيعية التي يسعى الإنسان دائما نحو تجاوزها ما لم يقابل بمنافسة.

لكن في بداية القرن العشرين استدار عنها الفلاسفة والمفكرون، ولم تعد محط اهتمام كبير؛ هدا العزوف الذي فسره بعض المختصين إلى الإشباع الحاصل في غائية دراسة المادة، فبعد تراجع الاستكشافات والحركات الامبريالية لم تعد هناك الحاجة للمعلومات الدقيقة الطبيعية والبشرية حول الأمصار والأقطار، مما سبب فتورًا في الفكر الجغرافي والثقافة الجغرافية بشكل عام.

الجغرافيا، مزيج من الفن والأدب

ما هو المكان في الصورة الفنية الأدبية؟

المقصود بالمكان هو المكان الأليف، هو الملهم للشعور والشاحذ للذاكرة، والمشكل للخيال والدي يعود بنا إلى مرحلة الطفولة، وهو كما قال أحد الأدباء: المكان الذي تمارس فيه أحلام اليقظة!

كيف يمكن لهدا المكان أو البيت اللامتناهي في الكبر أن يسيطر على القارئ ويتقاسم أحاسيسه معه، حتى دون أن يكون قد زاره أو عرفه من قبل؟

الصورة الشعرية هو تداخل بين الحدث النفسي والجوهري، فالأمر هنا يتطلب انسجامًا كافيًا للذات مع الموضوع لذلك نرى أكثر الوصافين للأمكنة دقةً ورصانة في المتن الشعري هم المعاصرون لتقلبات المكان في فترات ما من مرحلة طفولتهم؛ والعلاقة بين الصورة الشعرية والنمط البدئي "archétype

لها هي ليست بالضرورة علاقة محاكاة، بقدر ماهي بحث مستمر عن تبريرها في الواقع المحسوس.

دعونا نقف عن مقولة أحد أشهر المهندسين المعماريين الفرنسيين "بروسط" الذي خطط معظم مدن المغرب كالدار البيضاء والرباط وقد جاءت في كتابه "البحث عن الزمن الضائع": "عن الزهور التي ترسمها (الستير) أنها –أي الزهور- فصيلة جديدة أغنى بها الرسام عائلة الزهور وكأنه عالم بستنة ماهر" فنجد أن الإبداع الفني هو جزء من خيال لا يقف عن حدود الممكن والمتجسد في الواقع، بل يتجاوزه إلى خلق أشياء جديدة وكأنه يهب لها الحياة من جديد.

من هنا يمكن الحسم قولاً إن المكان يحمل جسدًا وروحًا في آن واحد، قبل أن يتحرك الإنسان في اتجاه الواقع متحررًا من سلطة الأنا، وهو في نفس الوقت شيء يعجز فيه الزمان عن تسريع الذاكرة، وهو كل شيء جميل تشير إليه التضاريس والطرقات والحقول.

 

الهوامش:

- مجلة عالم المعرفة العدد:96   "الجغرافيا الثقافية" منشورات بيروت.

- غاستون باشلار "جماليات المكان" الطبعة الثانية ترجمة "غالب هلسا" منشورات المؤسسة الجامعة للنشر والدراسات 1984.

- الجغرافيا القول فيها والقول عنها لمحمد بلفقيه، النشر العربي الأفريقي.


عدد القراء: 1867

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-