حركة الترجمة العربية في العصور الوسطى: عوامل بروزها و انحدارهاالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-11-05 14:01:34

د. عمر عثمان جبق

سلطنة عمان

كان أثر حركة الترجمة إلى اللغة العربية في العصور الوسطى بالغاً في نقل مختلف العلوم الإنسانية وحفظها من الزوال. ونشطت هذه الحركة و استمرت حوالي قرنين متواصلين من الزمن نظراً لحثّ مصادر التشريع الإسلامي الرئيسة - القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة - على طلب العلم و بذل الغالي والرخيص في سبيل بلوغه. وجاء تشجيع الخلفاء العباسيين في تلك الحقبة، وتعطش العلماء والباحثين و المترجمين، جاء مكمّلا لهذه الحركة التي أبدعت في التراجم والنقل  إلى اللغة العربية.

ليس هنالك أدنى شكّ من أنّ المعرفة والعلوم على اختلافهما هما غاية تسعى إلى اكتسابها كل الأمم، ماضيها وحاضرها، ولذلك أسهمت، وما تزال، في تقدّمها كل الشعوب. ولعلّ الترجمة قامت، وما تزال، بحفظ القسم الأكبر من هذه العلوم والمعارف كونها، أي الترجمة، عملية إبداع دقيقة. ومن هنا يمكننا القول إن المترجمين العرب في العصور الوسطى قد أسهموا مساهمة كبيرة في تطوير المعرفة والعلوم وحفظهما من الزوال. و في هذا الصدد تقول الباحثة  Maria Rosa Menocal ماريا روزا مينوكال (2005): «في حين كان الأمويون في كلّ من دمشق و قرطبة متعطّشين للثقافة والتمازج الثقافي، إلا أنّ عباسيي بغداد هم من قاموا برعاية مشروع الترجمة الذي استمر أجيالاً، إذ قاموا بترجمة جلّ الأعمال اليونانية الفلسفية والعلمية التي كان من الممكن أن تضيع إلى الأبد لولا هذا المشروع».

لقد ازدهرت حركة الترجمة إلى اللغة العربية (التعريب) في العهد العباسي، حيث غدت مهنة راسخة ومستقلة، ففي عام 832 م قام الخليفة العباسي المأمون ابن هارون الرشيد بتأسيس (بيت الحكمة) لترجمة مختلف الكتب العلمية و الفلسفية من لغات حيّة في ذلك الوقت إلى اللغة العربية. ومما شجّع المترجمين على القيام بأعمال الترجمة إلى اللغة العربية هي الحاجة إلى المعرفة على صعيدهم الشخصي، وتشجيع حكّامهم لهم الذين كانوا يسعون إلى تأسيس دولة قويّة مسلّحة بالعلم و المعرفة. وبدأ المترجمون مهنتهم الجديدة في بغداد، عاصمة الخلافة العباسية آنذاك، بحماس ودأب لا مثيل لهما على الإطلاق. وكما هو الحال مع كلّ حركة فكرية، أخذت حركة الترجمة هذه بالانحدار رويداً رويداً، وفقاً لمبدأ العرض والطلب وقلّة المادّة العلمية المترجمة.

أولاً: دور القرآن والسنّة

في البداية، لا بد لنا من الجزم بأنّ عطش الإنسان المعرفي كان، ولا يزال، القوة الدافعة لتحقيق التقدّم والازدهار. وفيما يتعلّق  بالمسلمين فإنّ طلب العلم واجب على كلّ مسلم ومسلمة. وفي الحقيقة، يحثّ كلّ من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة المسلمين على طلب العلم واكتسابه بغض النظر عن طبيعة هذا العلم، دينية كانت أم دنيوية. ففي القرآن الكريم يقول الله تعالى في سورة الزمر، الآية رقم (9) :  (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) كما ويروي البيهقي والترمذي عن محمد صلى الله عليه وسلم  أنه قال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة).

ومن ثم لا عجب أنّ هذه الأدلة من القرآن والسنّة على فضل العلم واكتسابه قد دفعت المترجمين العرب في العصور الوسطى إلى السعي لاكتساب المعارف والعلوم عن طريق الترجمة. علاوة على ذلك، فقد جاءت الترجمة كحاجة ملحّة لعرب العصور الوسطى لأنهم كانوا بحاجة إلى أن ينهلوا من العلوم الأخرى كالفلسفة والطب والفلك وغيرها. ومما أسهم في رواج حركة الترجمة وازدهارها هو قدوم صناعة الورق التي جاءت من الصين إلى بغداد، ومن بغداد وصولاً إلى الأندلس حيث انتقلت من الأندلس إلى الغرب وأوروبا.

ثانياً: دور الخلفاء العباسيين

العامل الثاني الذي أدى إلى نجاح حركة الترجمة العربية في العصور الوسطى يكمن أيضاً في الدعم المادي الكبير الذي حظي به المترجمون في بداية عملهم من قبل الخلفاء العباسيين، وهذا بدوره جعل مهنة الترجمة عملاً مربحاً ومهماً في الدولة العباسية، وبذلك تشجّع العلماء والمترجمون على مزاولته مهنياً. فعلى سبيل المثال، كان الخليفة العباسي هارون الرشيد يرسل العلماء إلى شتى أصقاع العالم بحثاً عن العلم والمخطوطات. وفيما بعد، جنّد ابنه المأمون أفضل العلماء والمترجمين للقيام بهذا المشروع، الذي يهدف إلى نشر العلم والمعرفة، وتكلل هذا الجهد بإنشاء (بيت الحكمة). ومنح المأمون  في أثناء خلافته المترجمين أعلى المناصب في البلاط تكريماً وتقديراً لجهودهم الحثيثة في إثراء التراث الإسلامي والعربي بفروع المعرفة الجديدة آنذاك. وفي هذا الخصوص يعلّق الباحث ديمتري جوتاس Dimitri Gutas)1998) قائلاً: «في أوائل الخلافة العباسية مُنح المترجمون مناصب إدارية عالية في البلاط، وتلقوا الدعم السياسي والمادي للقيام بهذا العمل». (1998:الصفحة 54)

إذاً، فقد قدّم الخلفاء العباسيون لحركة الترجمة هذه كل الدعم المعنوي والمادي للحفاظ على دولتهم قوية ومعاصرة قدر الإمكان، لأنهم أدركوا أهمية المعرفة والعلوم في جعل دولتهم قوية وعظيمة. و لذلك غدت أمة الإسلام قوية مسلحة بالعلم والمعرفة بفضل ترجمة أشهر كتب علماء اليونان وفلاسفتهم. وهنا تقول آن آشفورد Ann Ashford(2004): «برزت حركة الترجمة في بغداد في القرن التاسع الميلادي نتيجة حاجة الحكّام إلى إمبراطورية قوية. وقد كانت شبكات التواصل التجارية التي لعبت دوراً أساسياً في نمو الإمبراطورية الإسلامية وتطورها كفيلة بحمل الأفكار الجديدة إلى كل أرجاء العالم».

ثالثاً: دور المترجمين و الباحثين

بالإضافة إلى ما سبق ذكره من عوامل أدّت إلى ازدهار حركة الترجمة والتعريب في العهد العباسي، لا بد لنا أن نذكر أن هذه الحركة بلغت ذروتها وأوجها بفضل الجهود الكبيرة التي بذلها المترجمون والباحثون في تلك الحقبة من الزمن.

وهنا نذكر على سبيل المثال لا الحصر مفكرين بلغت شهرتهم العالم كلّه، ماضيه وحاضره، أمثال حنين بن إسحاق والكندي وابن سينا وابن رشد والفارابي والرازي وغيرهم من علماء العهد العباسي ومترجميه، ممن كان لهم الأثر الكبير ليس فقط في حركة الترجمة في العصور الوسطى فحسب، بل في اكتشافات علمية بارزة تم التوصّل إليها في الغرب وأوروبا فيما بعد بفضل ترجماتهم وأبحاثهم.

لم يكن هناك أي شيء آخر سوى تعطّش هؤلاء العلماء والمترجمين للمعرفة ومهنيتهم ما أوقد في نفوسهم جذوة الحماس، التي جعلتهم يقومون بهذا العمل الشاق والمحفوف بالتحدي والمصاعب. ولذلك ينبغي للعالم كلّه حقاً أن يعترف على الملأ بالحقيقة الثابتة، وهي أنه دون جهود مترجمي العصور الوسطى العرب وأعمال علماء تلك الحقبة من الزمن لما تمكّن العالم اليوم من بلوغ هذا التقدم التكنولوجي على الإطلاق. وفي هذا الخصوص يقول جاتسون فيت Gatson Weit)1973): «لم يكن هناك نقص في الرجال الموهوبين. فقد كان التدفق على بغداد هائلاً جداً كسرعة الخيّالة في أنحاء المعمورة كلها خلال الفتح العربي. أما علماء بغداد و مفكروها فقد شرعوا باكتشاف الأفكار القديمة (اليونانية والرومانية)».

رابعاً: أهم عوامل انحدار حركة الترجمة

وكما هو الحال مع كل حركة إنسانية فكرية كان على حركة الترجمة العربية في العصور الوسطى، والتي دامت قرابة قرنين من الزمن، أن تتلاشى وتنتهي. في الحقيقة، بدأت حركة الترجمة بالتراجع تدريجياً ليس بسبب تناقص عدد المترجمين المحترفين، أو بسبب قلّة الدعم المادي ولكن بسبب عدم وجود أعمال وكتب مناسبة يمكن ترجمتها، إذ إن معظم كتب الطب والفلك و الفلسفة كان قد تم ترجمتها إلى اللغة العربية آنذاك.

وفي هذا الخصوص يعلّق ديمتري جوتاس (1998) قائلاً: «لم يكن هنالك ما تقدّمه (حركة الترجمة)  ليس بمعنى أنه لم تكن هناك كتب يونانية دنيوية يمكن ترجمتها، بل بمعنى أنه لم توجد هناك كتب يونانية أخرى تقدمها الحضارة اليونانية على صلة وثيقة باهتمامات ومتطلبات كل من الباحثين والعلماء والمترجمين ورعاة الترجمة على حدٍ سواء». (1998:الصفحة 152)

بالإضافة إلى ذلك، أضحت اللغة العربية في ذلك الوقت اللغة المهيمنة، كما توفّرت أيضاً أهم الكتب العلمية والفلسفية باللغة العربية توفّراً غزيراً. و بعبارة أخرى، كان دور اللغة العربية في أن تكون بؤرة الاهتمام والبحث العلمي، أي أن يتم ترجمة اللغة العربية وعلومها وثقافتها إلى لغات حيّة أخرى في ذلك الوقت. ومن جديد يعلّق ديمتري جوتاس (1998) على هذه النقطة قائلاً: «توقفت حركة الترجمة أو انتهت لأن البحث العربي الفلسفي والعلمي الذي أوجد الحاجة إلى حركة الترجمة منذ البداية قد أصبح الآن مستقلاً (عن فلسفة الشعوب الأخرى و علومها)». (1998: الصفحة 152)

الخاتمة

وأخيراً يمكننا أن نقول وبكل ثقة: إن حركة الترجمة العربية في العصور الوسطى أسهمت في العلوم والمعارف الإنسانية وأثرتها أيضاً. فقد حثت مصادر التشريع الإسلامي الأساسية المتمثّلة في القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة المترجمين العرب في العهد العباسي على السعي لاكتساب المعارف والعلوم، كما تم الإشارة إليه سابقاً. كما أن الخلفاء العباسيين أظهروا إعجاباً وشغفاً بالعلم والمعرفة، وترجموا هذا الإعجاب والشغف إلى فعل حقيقي، عندما تبنّوا ودعموا وأشرفوا أيضاً على عملية الترجمة بأنفسهم، فهم أي الخلفاء العباسيين، لم يدعموا المترجمين في عملهم الصعب دعماً مادياً فحسب، بل منحوهم منازل مرموقة في إدارة الدولة. وبالطبع لولا وجود علماء ومترجمين متمكّنين لما كان بالإمكان الشروع بأي مشروع ترجمة على هذا المستوى. وعندما أصبحت اللغة العربية لغة بارزة وسائدة في تلك الحقبة ومع تناقص المصادر التي ينبغي ترجمتها أخذت حركة الترجمة العربية في العصور الوسطى بالاضمحلال رويداً رويداً إلى أن انتهت.


عدد القراء: 15849

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-