زينة الحياة الدنياالباب: حياتنا

نشر بتاريخ: 2015-11-05 18:00:57

سعاد الورفلي

ليبيا

في بلدي لا تستقر الطيور تتناوب في رحلات متلاحقة، قد أسميها «مكوكية»، فهي تنتقل أسراباً أسراباً تسبح في الفضاء العميق، وتطول رحلة البحث عن الاستقرار، لكنها سرعان ما تعود وتصر على بناء أعشاشها فوق أشجار الزيتون والكرم والسرول؛ المزروع على حواف الطريق عبر رقعة بلادي الشاسعة.

هناك التقى شابان على شاطئ البحر، أحدهما أبكم والآخر ثرثار، لكن كيف يأتي هذا التضاد العجيب ويلتقي اثنان، تختلف طريقتهما في الحياة بطريقة عجائبية؛ ناطق وساكت، هادئ ومشاغب، محاور يقابله فضاء صامت يمتثل في إنسان !

تحدث الشاب في كل شيء وعن كل شيء، تحدث عن الطيور التي تملأ مساحة الوطن، عن ألوانها حتى أنه أخبر الشاب الملتزم بالصمت أنه يبيع الطيور، ويستوردها من خارج البلد؛ سحب نقاله من جيبه ليريَه الصور المتنوعة لأنواع الطيور: هذا ببغاء أفريقي، وهذا الطائر من ساحل العاج، وهذا لونه جميل وصوته أجمل ...

آه يا صديقي لو تسمع صداه في يوم حزين ستصاب بالغبطة والفرح، لقد كان ثمنه غالياً، يشترونه مني الأثرياء فهم يصابون بالكآبة دائماً ولديهم هاجس أن صوت هذا الطائر يزيل الكآبة .. نعم ...

حدثني رجل ثري؛ يتاجر في كل شيء حتى الأعضاء البشرية أخبرني أنه لا ينام أبداً – لا يعرف معنى النوم- مصاب بالإحباط والإفلاس النفسي، سحب سيجارة لو رأيتها لاندهشت منها ! فحجمها كبير ورائحتها جذابة، والأغرب من ذلك أنها لا تنتهي أبداً ... كلما امتصها شعرت أن السيجار ازداد طولاً ...!! قال لي وهو ينفث دخانه: هل عندك طيور تجلب السعادة؟ 

ضحكتُ أمامه متظاهراً بالاعتداد قائلاً: طلب رخيص .. تفضل ها هو العرض أمامك تماماً واختر ما شئت من زينة الحياة الدنيا ..

بدّل خطواته الثقيلة كثقل نفسه بين أفنية المحل، ونظر كثيراً متفحصاً في طائر عجز كثير من الزبائن في وضع اسم لألوانه المتنوعة، فله ألوان غرائبية جداً ! لم أقرأ عنها ولم أشاهد مثلها في الطبيعة .. أشار بأصبعه الذي يحمل الأصبع الآخر – أقصد السيجار- قائلاً: هذا – هذا نعم ... لقد أصبتُ بشيء من الارتياح مجرد أن نظرت إليه، كأنه يحاورني بعينيه ويعرف أنني أحتاج إليه ... ضُمه إليّ ...

وأخذته بلهفة وضممته في أجمل قفص، تناولتُ المال وتناول الرجل القفص ..

بعد أيام جاءني الرجل نفسُه وبصحبته (المدام) تبدو سيدة في منتصف العمر، حاجباها معقودان وشفتاها تلتصقان ببعضهما، وتمتنعان عن الابتسام يبدو عليها الضيق، اقترب مني قائلاً: اختر أحلى ما عندك لزوجتي العزيزة، فهي حسدتني على الفرحة التي غمرتني منذ أن اشتريتُ منك سعدون!

قلت: ومن سعدون هذا؟ ضحك الرجل طرِباً وقال: العصفور ذو الألوان الغرائبية!

لقد تفرغتُ لطعامه وشرابه ومحادثته، أكاد أن أسجل صوته ورقم هاتفه بجوالي، واسترسل الرجل ضاحكاً ...

اقتربت السيدة من عصفور صغير جداً جداً؛ يمتاز بلون أبيض يخامره الاصفرار بين ريشاته الحريرية، ورقبته تبدو متموجة،  بابتسامة باهتة  أشارت: هذا ...

أومأتُ برأسي .. حسناً ... تفضلي بكل سرور سيدتي ... رأيتها تداعبه بصمت .. حينها اقترب زوجها مني وهو يقول: زوجتي  منذ أن فشلت في أن تنجب َ لي طفلاً .. أصيبت بشيء غير مفهوم، كرهت الأطفال! وسماع أصواتهم .. لقد أنجبت في البداية؛ لكنهم لا يعيشون !! ذهبتُ بها إلى أصقاع الدنيا، غير أنه كُتِب علينا الحرمان من الذرية .. بتنا نراها من حولنا لكننا لا نملكها ...

انتهى حديثي مع هذا الرجل الذي يبيع كل شيء ولا يمتلك شيئاً!

التفتُّ لمرافقي الذي يجلس بجواري ولا يأبه لكلامي، غير أنه يطيل النظر في البحر، أشرتُ إليه: هَيْ هَيْ....أنت لا تسمعني ؟!!!!

لكنني فوجئتُ بعد هذا السرد الطويل، والضحك والحكايات المتنوعة التي جلتُ وصلتُ بها شرقاً وغرباً؛ أن جليسي لا يمتلك من رأسه سوى النظر! فلا هو يسمع ولا يتكلم ....

علمتُ حينها أن زينة الحياة الدنيا لم تكن فقط الذرية ... أو ما نمتلكه في أجسامنا من صحة وعافية، أو ما نتوهمه في هذه الحياة أنه سعادة ونعيم ...

إن زينة الحياة الدنيا ؛ في كل ما حولنا من طيور تضفي السعادة على حياتنا، وبحر يمتد لآهاتنا، وسماء نرفع أبصارنا نحوها في ساعات الضيق؛ فتنجلي وتنشرح صدورنا ... وأناسيّ يستمعون إلينا بكل هدوء – فقط - لنتحدث نحن بانطلاق يلقى صداه بين أفانين الحياة.


عدد القراء: 3673

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-