الأنا والأشياءالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-08-19 01:28:43

د. وليد فتيحي

للكماليات منه للأساسيات، فإنني لسبب كنت أجهله سابقاً أتذكر مقطعًا من فيلم شاهدته قبل ثلاثين عامًا عن قصة إنسان تحول بين يوم وليلة من فقر مدقع إلى ثراء فاحش. ولكنه لم يحسن في ثرائه مع كل من حوله، وتدور الأيام دورتها وبالطريقة نفسها التي بدأ بها ثراءه خسر كل شيء في يوم واحد.

وبينما هو يُطرد من بيته كان يحاور نفسه ليطمئنها قائلاً لها: أنا لا أبالي، فسأعيش كما كنت أعيش سابقًا،  وبدأ ينظر حوله لما يحتاج أن يأخذه معه قائلاً: كل ما أحتاجه هو هذا، وينظر على يمينه ويقول: وهذه. وينظر على يساره ويقول: وذاك، وتلك. وقبل أن يصل عتبة باب بيته، كان يحاول أن يحمل معه من الأشياء ما يعجز عن حمله ولم ينته بعد من الأشياء التي يحتاجها فانهار محطمًا باكيًا.

لقد أدرك أنه لم يعد يستطيع أن يعيش بدون كل هذه الأشياء كما كان يعيش سابقًا، أي أن الأشياء أصبحت هي التي تملكه لا هو الذي يملكها، وبعد أن كان لها مالكًا وسيدًا أصبحت هي السيد وأصبح هو لها عبدًا خادمًا.

كثيرًا ما أسال نفسي: هل أنا أملك الأشياء أم أنها هي التي بدأت تملكني؟ وعندما أنظر حولي نظرة الفاحص المتأمل، أجد الأشياء تحوطني من كل مكان، من رأسي إلى أخمص قدمي.. منزلي، أثاث بيتي، سيارتي، ملابسي، هاتفي.. وغيرها كثير وكثير.. وهل نستطيع أن نعيش بدون الأشياء، أو نستطيع أن نحقق الغايات والأهداف دون الأخذ بالأسباب وحسن استخدامنا للأشياء؟

أين تكمن المشكلة إذاً؟ أدركت أنها في طبيعة الأشياء التي وضع الله فيها خاصية تجعلها مؤهلة لتكون جزءًا من الاختبار والابتلاء، فهي قادرة على أن تتحول من وسيلة إلى غاية ومن خادم إلى سيد وتستعبد الإنسان.

ولكن متى تبدأ علاقتنا بالأشياء؟ وجدت أنها تبدأ في مرحلة مبكرة جدًّا من أعمارنا، عندما كنا أطفالاً أراها كل يوم في الدموع المنهمرة من عيني أطفالي بل وكل الأطفال، عندما يأخذ طفل آخر منه لعبتهم، وإن كان لديهم ألعاب أخرى كثيرة، حتى لو علموا أنها ستعود إليهم، فهم يخشون أن يشاركهم فيها أحد.

وأراها كل يوم كذلك في الكلمات التي تتفوه بها شفاه أطفالي، بل وكل الأطفال عندما يلحون على الذهاب للسوق لشراء شيء، وكثيرًا من الأحيان عندما يسألون ماذا يريدون أن يشتروا، تكون الإجابة: أريد أن أشتري شيئًا، وغالبًا ما يكون هذا الشيء غير محدد أو معروف.. مجرد شراء شيء، ولسان حالهم يقول: أنا لا أريد أن أشتري لأنني أحتاج وإنما أحتاج أن أشتري، وبذلك أصبح الشراء غاية في حد ذاته، لا وسيلة لتحقيق غاية أو حاجة.

ولكن من وراء هذه الحاجة، الحاجة لشراء الأشياء لمجرد الشراء، لا لشرائها من أجل حاجة حقيقية؟

إنها الأنا التي تبدأ في التكون في مرحلة مبكرة من أعمارنا، الأنا.. الصورة الذهنية التي نكونها عن أنفسنا ومن نكون، الأنا التي فينا لا تكف، تقول للإنسان: أنا لم أكتف بعد، أريد المزيد. وعندما تمتلك تشعر بإشباع سطحي عابر سريع يتبعه احتياج للمزيد حتى يصبح إدمانًا نفسيًّا على شراء الأشياء وتملكها. وتعمل الأشياء عملها في عقل وقلب ونفس الإنسان ويزداد التعلق بالأشياء والتماهي معها قبل أن يدرك الإنسان ما تفعل فيه وتفعل به الأشياء، ليصل الأمر إلى أن يشتق كثير من الناس هويتهم من الأشياء، وعندما يقول واحد منا (أنا) يقوم العقل بفعل اختزالي هائل لماهيتنا وهويتنا إلى كل ما نتماهى ونتعلق به من أشياء، شهاداتي، مهنتي، منصبي، عملي، معارفي التراكمية، تصوري لجسدي وشكلي ومظهري وممتلكاتي واستثماراتي المالية، وكلها صور من صور الأشياء.

إن التماهي أو التماثل أوالتطابق هو أن أسبغ هذا الشيء إحساسي بذاتي، أن أُعرِّفَ نفسي به وأن أحاول أن أجد نفسي فيه حتى يصبح هويتي وتصبح (أنا) عندما أقولها هي ذلك الشيء أو الأشياء التي أمتلكها، (الأنا) التي فينا تجعلنا نساوي بين الملكية والكينونة، أنا أمتلك إذاً أنا موجود، وكلما زاد ما أمتلكه كبرت (الأنا) فيَّ، وابتعدتُ أكثر فأكثر عن الإحساس بذاتي الحقيقية، روحي التي بين أضلعي، نفخة الرحمن التي فيَّ، كينونتي وحياتي الحقيقية.

ويشتد تأثير الأشياء على الإنسان في المجتمعات التي تعيش ثقافة تساوي إلى حد كبير بين القيمة الذاتية ومقدار ونوعية ما يمتلكه الإنسان، لن أنسى ما كنت أسمعه صغيرًا وما زلت أسمعه في محفل بعض رجال الأعمال عندما يستفسرون عن ثروة رجل أعمال آخر بسؤالهم: كم يساوي هذا الرجل؟ كم يساوي!!! يقصدون بها بالطبع كم يملك من المال والعقار والشركات، ولكن من شدة تماهيهم بالمادة وتعريفهم أنفسهم من خلالها، أصبحوا يعرفون الناس بما يملكون من ثروات..

لقد وصف الله الجنة التي ضاعت من أبينا آدم عليه السلام في قوله تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ) أي أنها جنة لا جوع فيها ولا ظمأ ولا حر ولا برد، تأكيدًا أن الجنة الحقيقية (جنة السعادة) تكمن في الأساسيات والتصالح مع الذات، وليست جنة الكماليات والحاجيات التي يتوهمها الذين يلهثون وراء الماديات.

أدركت أن هوس اقتناء وشراء الأشياء هو وهمٌ جماعي يعيشه عالم اليوم المادي الاستهلاكي ظنًا منا أن الأشياء هي التي تجلب لنا السعادة والهناء.

هذا الوهم الذي يعيشه كثير من الناس كشفته مئات الأبحاث والدراسات التي أجابت عن سؤال واحد: ما هو تأثير التكالب على الماديات على سعادة الإنسان وصحته الجسدية والعقلية والنفسية والروحية؟

إحدى الدراسات التي وقعت بين يدي، وهي دراسة تحليلية شاملة أجريت بمنهجية علمية دقيقة، أكدت أن النظرة المادية للحياة والتعلق بالأشياء المادية يؤثر سلبًا على صحة الإنسان الجسدية والعقلية والنفسية، بل ويزيد من نسبة حدوث الاكتئاب والتوتر، ويؤثر سلبًا على تقييم الإنسان لذاته واحترامه وتقديره لها، كما يؤدي إلى زيادة العادات والسلوكيات الاستهلاكية التي تضر بالصحة، وبشكل عام فإنها تؤثر سلباً على جودة الحياة.

واستعرضت هذه الدراسة أبحاثًا ودراسات من 120 مجلة ومنشورة علمية على 148.413 مشاركًا من 44 دولة يمثلون جميع القارات، وقد قدمت هذه الدراسة تصورًا شاملاً لمفهوم الماديات الذي لا يقتصر على المال، وإنما يشمل اعتقاد الإنسان وإيمانه بفوائد الماديات وقدرتها على جلب السعادة والشهرة وتحسين الصورة الاجتماعية.

كما بينت الدراسة أن التبعات السلبية حدثت بغض النظر عن التشكيلة السكانية أو الصفات الشخصية، وأنها تحدث في جميع المجتمعات عبر الكرة الأرضية باختلاف اقتصادياتها وقيمها الحضارية والثقافية، وإن كانت العلاقة أقوى في الشعوب والدول الثرية وذات الوفرة المادية وكذلك الرأسمالية والدول التي يعد السعي وراء المتعة من أولوياتها، وكذلك الدول ذات التوجه المادي والقيم المرتبطة بها مثل الهرمية والتفاوت في توزيع الثروات والذين لا يبالون في تحقيق الانسجام بين شرائح المجتمع وطبقاته. وقد دُعمت هذه الدراسة المرجعية الشاملة من منحة مجلس الأبحاث الاقتصادي الاجتماعي بالمملكة المتحدة (UK Economic and Social Research Council ESRC).

تيقنت أن جشع (الأنا) هو سبب الحاجة الملحة المجنونة للمزيد والمزيد، وهو سبب انعدام تحقيق التوازن في توزيع الموارد بين البشر، وسبب الفقر والعوز والمجاعة في الأرض.

نظرت لنفسي وللناس من حولي فأدركت كيف أننا قد لا ندرك كثيرًا من تماهينا مع الأشياء ومع ما نملك، حتى إذا فقدناها انكشف لنا مدى تعلقنا بها وتعريف ذواتنا من خلالها ورؤية هويتنا فيها.      

قررت أن أتعمق وأن أختبر علاقتي بعالم الأشياء والممتلكات من خلال مراقبتي الذاتية لنفسي.. هل إحساسي بقيمتي الذاتية مرتبط بأشياء أمتلكها؟ هل تهبني الأشياء إحساسًا ولو طفيفًا بالتفوق والتميز والأهمية؟ وهل فقدانها أو الحرمان منها قد يشعرني بشيء من الدونية، أو أنني أتسامى فوقها وأعلم أنه ليس لها علاقة بماهيتي وذاتي الحقيقية.

قررت أن أضاعف الجهد في مراقبة علاقتي بالأشياء، فوجدت أنه على قدر المراقبة يوقظ في داخلي وعي قادر على تحديد مواطن الارتباط والعلاقة غير الصحية بيني وبين الأشياء.

لقد هالني مدى تعلقي بالأشياء، وبدا لي سبب حضور تلك الومضة من مقطع الفيلم الذي شاهدته قبل ثلاثين عامًا في كل مرة أشتري فيها شيئًا جديدًا، خاصة عندما يكون ذلك الشيء أقرب للكماليات منه للأساسيات.

أعتقد أنني اليوم أكثر وعيًا بطبيعة علاقتي بالأشياء. وهذا الوعي أصبح دافعي لتصحيح هذه العلاقة وإعادة الأشياء إلى مكانها الصحيح كوسيلة لا غاية وكخادم لا سيد. نعم أعتقد أنني أكثر وعيًا أو هكذا يبدو لي، وقد أكون مخطئًا، فالأنا ماكرة خادعة ما إن تطردها من باب حتى تأتيك من باب آخر، وقد تشعرك بما تريد فقط لتحصل هي على ما تريد.

أن نمتلك الأشياء ونستخدمها ونسخرها لعمارة الإنسان والأرض، فهذا خير كبير، وقد أسمى الله المال بالخير في القرآن، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير" وقال "نعم المال الصالح للمرء الصالح" ولكن الشر كل الشر أن نصبح نحن مملوكين لما ظننا أننا نملكه، أن تصبح الأشياء في قلوبنا بدلاً من أن تكون في أيدينا، أن نُعرف أنفسنا بها، أن تصبح هويتنا وأن ننشغل بها عن ذواتنا الحقيقية حتى لا يعود في وسعنا الإحساس بالحياة.. هنا استحضرت مفهوم الزهد كما عرفه سيدنا علي رضي الله عنه عندما قال "الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك". أي أن نمتلك الأشياء بأيدينا لا بقلوبنا فنملكها ولا تملكنا.

توصلت إلى نتيجة أن المشكلة ليست في مضمون الأشياء ولا في ما تبحث عنه (الأنا) وإنما هو في بُنية (الأنا)، وطبيعتها الجشعة، فلا يوجد مضمون أو شيء من الأشياء يمكن أن يشبعها ما دامت البنية التحتية لإنسان (الأنا) هي على حالتها لم تتغير.

إنها (الأنا) التي خسفت بقارون الأرض، و(الأنا) التي أحاطت بصاحب الجنتين، ولكل زمان قارونه وصاحب جنتيه، تتغير الصور والأشكال والأحوال والأزمان، ولكن أصابع الاتهام كلها كانت وما زالت تشير للـ (أنا) في الإنسان.

سألت نفسي: ترى ماذا سيحدث للـ (أنا) هناك؟ أعني على فراش الموت.

لا بد أن كل إنسان سيدرك آنذاك لا محالة أنه لم يكن في يوم من الأيام شيئًا من الأشياء التي كان يعرف نفسه من خلالها ويظن أنه هي، فالموت سيجردك ويعريك من كل شيء هو ليس أنت، وسندرك آنذاك أن ما كنا نبحث عنه طوال حياتنا كان موجودًا دائمًا معنا في كل زمان ومكان وحال، ولكنه كان محجوبًا عنا بتماهينا وتعلقنا بالأشياء.

إن إحساس (الأنا) الناقص بالذات هو حرمان داخلي دائم ومزمن لا يشبعه شيء، ويظل ينتقل من شيء إلى شيء آخر يعده بإشباع أكبر، ولكن هيهات للـ (أنا) أن تشبع، هنا تجلى لي البعد النفسي العميق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضرته وكأني أسمعه لأول مرة في حياتي، قال صلى الله عليه وسلم: "لو أن لابن آدم واديًا من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولو أن له واديين لتمنى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب".

 


عدد القراء: 8384

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة Rania Adli من مصر
    بتاريخ 2016-08-23 22:27:36

    يظل د/ وليد وعمق المعني قرناء ، لا ينفك أحدهما عن الآخر ..

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-