الجزائر بعيون السينما الفرنسية المنظور والمضمرالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-08-19 02:29:07

د. سليم بتقة

كلية الآداب واللغات، قسم الآداب واللغة العربية جامعة محمد خيضر - الجزائر - بسكرة

عملت فرنسا ومنذ بداية احتلالها للجزائر على تكريس السينما، جنبًا إلى جنب مع الآلة العسكرية وذلك لخدمة أهداف استراتيجياتها القائمة على نزعة التسلط في صراعها مع الأهالي.

طوال القرن التاسع عشر تم تأسيس رؤية أسطورية عن الجزائر (بوابة الشرق الساحر) من خلال الأدب والرسم والصورة الفوتوغرافية، عوالم غريبة من اللوحات والصور تجسد المناظر العجيبة وتعكس انبهار الفرنسيين بهذا السحر والجمال، مشاهد في كثير من الأحيان تعج بالأهالي الخاضعين ونساء حبسن في بيوتهن ... ثم جاء القرن العشرين وجاءت معه السينما.

لقد تمحورت أهداف السينما الفرنسية ومنذ نشأتها على محاولة تأصيل بعض المفاهيم المغلوطة عن حقائق الصراع الدائر في الجزائر، إضافة إلى محاولة تقديم صورة هي أبعد ما تكون عن الحقيقة لملامح ذلك الصراع، معتمدة في ذلك على تقنيات التأثير السينمائي على ذهن المشاهد.

 

البداية:

عرفت الجزائر السينما مع بداية الاستعمار الفرنسي، بصفتها وسيلة من وسائل الأيديولوجيا الرامية إلى إثبات الشرعية الاستعمارية. فبعد عروض الفرجة التي أتحف بها  لويس لوميارLouis Lumières الفرنسيين في مقاهي باريس، كلف أحد أعوانه فلكس مسغش  Felix Mesguiche بالتوجه إلى الجزائر لالتقاط صور للأهالي والمدن الجزائرية، فكانت الأفلام الوثائقية الأولى، التي حملت عناوين توحي بالدونية والاحتقار.

ساهم الرعيل الأول من العسكريين في توجيه الأغراض الدعائية سعيًا لتجسيد الأفكار التي جاؤوا من أجلها، ويمكن اعتبار سنة 1905 البداية الفعلية للنشاط السينموتوغرافي في الجزائر، حيث كانت جل الأفلام المنتجة تتولاها شركتا "باتي" Pathé  و"غومون"Gaumont. ومنذ ذلك الوقت ظلت السينما الاستعمارية وإلى وقت الاستقلال سنة 1962 تاريخ آخر فلم استعماري زيتون العدالة   oliviers dela justice Les لجامس بلوJames Blue، تمارس كل أشكال الزيف والمغالطة من خلال الأفلام والأشرطة الوثائقية التي قاربت المئتين (200).

فموجات المخرجين الذين تدفقوا على الجزائر مع بداية القرن حاملين معهم معداتهم السنماتوغرافية كانت مؤشرًا واضحًا على بداية نشوء ظاهرة جديدة هي الفيلم الغرائبي Exotique الذي يتخذ من الطبيعة الجزائرية ديكورًا ومجالاً فنيًّا للتصوير السينمائي.

في المؤلف الرائد المخصص لهذه الحقبة من السينما والمعنون كاميرات تحت الشمس Caméras  sous le soleil  الذي نشر عام  1956 جاء في كتابات مؤلفيه: "وبالنسبة للسينمائيين والجمهور  أفريقيا وشمال أفريقيا على وجه الخصوص، بقيت على ما يبدو للوهلة الأولى كما كانت عليه: ديكورًا، خلفية لم نتمكن حتى من استغلالها بمهارة، أمام ذلك تأتي عرائس مسرح الشوارع لتعطي الانطباع على أنها متجددة".

في حقبة ما بين الحربين، ظهرت سينما خاصة متطورة، حدث ذلك في أوج الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، وقد صادف ذلك احتفالات فرنسا بمرور مئة عام على غزو الجزائر والمعرض  والاستعماري 1931والعالمي 1937. من نسختي لاتلانتيد L’Atlantide ، لجاك فيدرJ.Feyder  في عام 1921 والتي لجورج ولهم  G.willhem 1932 إلى منزل المالطي La maison du Maltais لهنري فسكور H.Fescourt عام 1928 ... من الأفلام الصامتة إلى الأفلام الناطقة بداية من عام 1929... ظل العمل على إعادة بناء ديكور أدى إلى ظهور "مناخ"، لعالم كولونيالي لم يعد له وجود الآن.

لقد علق في أذهان المشاهدين أفلام اللعبة الكبرى Le Grand Jeu لجاك فيدر ، بيبي لوموكو Pépé le Moko لجوليان دوفيفيي Julien Duvivier، ومن لا يزال يتذكر فيلم الذكرى المئوية لغزو الجزائر  البلدLe Bled، الذي صور في سطاوالي لجان رينوارJean Renoir أو أفلام مارسيل هربييه، Marcel L’Herbier الرجال الجدد Les hommes nouveaux أو الطريق الإمبراطوري La route impériale؟ وعناوين أخرى تذكر بالحقبة الاستعمارية، والتي تبدو أنها غارقة في الذكريات مثل الرمال المتحركة Sables mouvants لروبرت ميلز Robert Mills عام 1929، أو روح البلد L’âme  du Bled لجاك سفراكJacques Séverac 1927...

الأفلام الاستعمارية تستحق اهتمامًا خاصًّا، ففي إطار المشروع الاستعماري، ساهمت تلك الأفلام في إنتاج المتخيل الجمعي الفرنسي عن "الشرق الساحر"، فاعتبرت المرحلة النهائية من عملية بناء الصور التي ابتدئت باللوحة، الرواية والتصوير الفوتوغرافي. الأفلام الاستعمارية تظهر الآن كبقايا أثرية لحقبة ماضية في أوروبا التي تصورت أنها تستطيع أن تفرض بصورة نهائية هيمنة على العالم، وتعتقد أنها شرعية بحجة الحضارة. يمكننا محاولة تحديد الشكل الأساسي المشترك، الذي بني بواسطة القواعد السردية، التي عملت كشفرات ثابتة في تقديمها للفضاء الاستعماري. وبتحليلها يمكن ملاحظة أن كل عنصر يوفر تبريرًا للعملية الاستعمارية في شمال أفريقيا. يمكن التركيز على القضايا الرئيسية في بناء تصور خيالي في المنطقة المغاربية؛ مفهوم الفضاء المغاربي يتلخص في حضور الجندي الاستعماري (وخصوصًا جوقة الشرف)، وبعض الخصائص التقنية المستخدمة في إنتاج الفيلم الاستعماري. ولكن الملاحظ هو غياب "الأهلي" الذي ينظر إليه كأجنبي في بلده... من خلال العودة إلى عدد من الأفلام، والتي كانت تبث على الشاشات بين 1920 و1940.

إن الصورة التي رسمتها السينما الاستعمارية للبيئة الجزائرية، هي لوحة فلكلورية منمطة، فالسينمائيون الاستعماريون لم يثر انتباههم في الجزائر غير شمسها وهوائها، ومناظرها الطبيعية الخلابة، وكأنها مجتمع خال من الحياة الاجتماعية، فلا وجود لذلك الإنسان الجزائري المسحوق، المطرود من أرضه، لا فقر ولا انتفاضات، بل كل شيء  يوحي بالاستقرار. تجلت هذه النظرة الفلكلورية الاستعمارية واضحة من خلال مناظر فلكس مزقيش، فهو يقول عنها: "... ها هي الجزائر تتألق  تحت شمس الظهيرة... المسجد، القصبة، تلك الطرقات المتصاعدة، المنازل العربية، هنا أصور فترة شبابي وديكورها".

عرف هذا الاتجاه في السينما الاستعمارية تطورًا كبيرًا مع بداية العشرين، ففي سنة 1921 تم إخراج فيلم أبناء الليل Les enfants de la nuit لجيرار بورجواGerard Bourgois، ثم فيلم الأتلانتيد في السنة نفسها لجاك فيدر.        

غياب الأهلي:

منذ نشأتها، جعلت السينما الاستعمارية من المستعمر (بفتح الميم) في شمال إفريقيا، وبقية الإمبراطورية إنسانًا فاقد اللغيرية الطبيعية لدخول الحياة الأوروبية في المدار الاصطناعي للأنا. إنه مجرد شخصية بكماء، أو كمبارس يظهر في  الحالات "العجائبية" في أفلام مثل طارطاران ديطاراسكون Tartarin de Tarascon سنة 1934 لـبرنار ريمون Bernard Reymond وجوه محجبة، نفوس مغلقةVisage    voilées, âmes close روسيل هنري HenriRoussel عام 1931 وفي ظل الحريمDans   l’ombre du harem   لليون ماثو Léon Mathot عام 1928خاصة... فهو يفقد هويته واستقلاله، يقول المؤرخ عبدالغني مجربي في هذا الخصوص: "إن جنون المستعمر هو أكبر من الصورة المنعكسة بوضوح في مشروعه للهيمنة، حلمه إخضاع الآخر، والسيطرة عليه، وهو الذي فقد أرضه، ومن ثم، ينبغي أن يفقد روحه".

وبالنظر في الجوانب الرمزية للسينما الاستعمارية، فإنه من السهل أن نلحظ غياب الجزائري  الموجود فقط في علاقته مع السلطات الفرنسية. في مذكراته  التي نشرت في نهاية حياته، كتب جول روا Jules Roy الأسطر التالية، مبرزا غياب الأهلي: "وكان العرب في الوقت نفسه يمثلون تهديدًا  على المدى القريب والبعيد، نوع من سحابة عاصفة في الأفق يمكن أن تنهمر فجأة علينا. لم يخطر ببالي مرة واحدة أن أسأل نفسي كيف ولماذا كانوا هناك أبدًا، كانت مشكلة بسيطة، بكل بساطة احتلوا الجزائر قبلنا، وكنا هناك لأن حكومتهم أهانت فرنسا: حادثة المروحة، وانتقمنا لشرفنا، وكانت الحملة وكنا هنا، كما في كل مكان يرفرف فيه العلم الفرنسي... للوهلة الأولى بدا العرب مثل البشر ولكنهم يختلفون كثيرًا عنا لا يشربون ما نشرب، ولا يأكلون ما نأكل، لا يتحدثون اللغة نفسها، لا يعبدون الإله الذي نعبد، لا يفكرون في الأشياء بالطريقة نفسها. نحن الفرنسيين، نملك كل شيء تقريبًا؛ المنازل والأراضي الخصبة، الثروة الحيوانية، الآلات، الدرك، الكنائس، المدن، الأشجار السيارات، الخيول والعربات، الدراجات والسيارات. هم لا يملكون شيئًا، أو قليلاً؛ عجول هزيلة ماشية وأغنام  مريضة... ".

إن الأهلي يفتقر إلى أي توازن نفسي، إلى هوية تحدده كفرد، إنه يقدم كعنصر ديكور، أو داخل جماعة غير رسمية تلغي أي تجسيد له. لقد ساهمت التقنيات المستعملة، مثل الصورة المركزة جدًّا التي تشوه ملامح الوجه، في التعريف "بالأهلي".

هذا التقديم للجزائري، يتعارض مع توصيف الشخصية الفرنسية، التي كانت حاضرة بقوة في قلب الأحداث، وانعكست هذه الثنائية الضدية في عرض الأماكن؛ في الفضاء الجزائري البكر والخالي الذي يتعارض مع الفضاء "المتحضر" و"التاريخي" للمدينة الأوروبية، أو بمعنى أوسع، في جميع الأماكن في المستعمرة الفرنسية. تمثل الصحراء مركزًا طبيعيًّا في كثير من الأحيان لهذه الأفلام، مساحة فارغة، مفتوحة وخالية من أي وجود للإنسان. لا يزال الجزائري حاضرًا في بيئة طبيعية، تتميز بالجمود المطلق، وكذلك حالة من الارتباك والفوضى، على عكس الأوروبي فلم يتم إدخاله في مكان مغلق، كأن يكون المنزل أو مكان العمل. لقد اعتبرت الجزائر ومن ثم المغرب العربي من خلال رؤية عامة مفادها أنه ليس فقط الأفراد وحدهم الذين لا يلحظهم الآخرون، ولكن حتى الأماكن المختلفة حيث تجري الأحداث أيضًا.

الظاهرة الملفتة للانتباه التي يجمع عليها أغلب النقاد ومؤرخو السينما، أن السينما الاستعمارية أهملت الأهالي إهمالاً يكاد يكون مطلقًا، وإذا تطرقت إليه ففي قالب منمط للقفز فوق الواقع الفعلي الذي يحكم علاقته مع المستعمر، وغالبًا ما تتميز هذه النظرة بالسخرية والاستهزاء.

أولى الأفلام الاستعمارية تمسكت بهذا النهج، فيلم المسلم المضحك Le Musulman Rigolo1937  وعلي يأكل في الزيت Ali bouffe à l’huile، فمن خلال عنوان الفيلم يتبين المحتوى المبني على الإضحاك والسخرية من شخصية الأهلي.

هذا المحتوى نفسه يتكرر في فيلمين لكل من جورج بيسكو Georges Pescot وروني كلير RenéClaire سنة 1920 بعنوان اليتيم L’ Orphelin، حيث تظهر شخصية المزابي الكاريكاتورية من خلال تقديمها في صورة بهلوانية شوهت هذه الشخصية. ذات الصورة تتكرر في طرطران دي طرسكان، حيث تظهر شخصية "طرطاران" غريبة في طريقة ملبسها، ومن ثم أوجد مخادعة ساخرة، فبمجرد مشاهدة المتفرج لهذه الشخصية تأتيه إلى الذهن صورة الأهلي المضحكة.

إذن صورت السينما الاستعمارية الأهلي بصفته جزءًا بسيطًا من الديكور الكبير المؤلف من المناظر الغرائبية التي تقدم لتسلية الجمهور الأوروبي (القياد بنظرتهم الحادة، شيوخ القبائل الذين يقودون الغزوات، الوجوه الملتحفة عبر الظلال، الطرقات الضيقة، القوافل والنخيل...).

بعد أن عرفت الحياة الاستيطانية استقرارًا وتركزًا، وبعد أن أنشأ المستعمر محيطًا يعكس صورته ويلغي المحيط القديم، برزت أفلام تجسد هذا التشكل الجديد، أبرزها فيلم صراتي المرعب Sarati leterrible لأندري هيغون André Hugon الذي أخرج سنة 1937، يصور من خلال شخصية "صراتي" القيم الجديدة التي اكتسبتها التشكيلة الاستعمارية في المستعمرة، والقائمة على الجوانب المادية والانفرادية التي تعكس كيانًا وذاتًا منفصلين عما يحيط بهما، الأمر الذي أنتج أيديولوجية قائمة على العنصرية والقوة.

شخصية "صراتي" توحي ببروز عالم القيم المصطنعة والرخيصة في المستعمرة، القائمة على الكبرياء واحتقار الأهالي، يرافقهما عدم الارتياح النفسي بسبب تأنيب الضمير المتذبذب بين الانضباط والنظام والميل للبذخ والمتعة والتهور.

فالمستعمرة تحوي الثروة والغنى والحب والحياة السعيدة والمستقبل مضمون، وهي قائمة على العنف وقانونها هو قانون القوة والخوف.

المهمة التحضيرية !!!

هذا التمثيل للطبيعة  الجزائرية في السينما الاستعمارية، قدم واقعًا بلا حراك، ودون تاريخ وثقافة وسكانًا قدامى. مثل هذه الحال تجعل من الجزائر، على المستوى الأيديولوجي مكانًا يهب نفسه للمؤسسة الاستعمارية، كمكان قابل للترويض و"للتمدين". في هذا السياق تبدو "المهمة التحضيرية" La Mission Civilisatrice ضرورية، مساعدة لازمة لشعب متخلف ومحروم !!!.

لا ننسى  أيضًا  أن الحركة الاستعمارية نفسها غالبًا ما قدمت على أنها غزو امرأةLa Conquête d’une femme، حيث يظهر الأوروبي نفسه كشخصية قوية ومتعافية، في حين تظهر الشخصية الجزائرية العنصر الأكثر ضعفًا و قهرًا. فكرة الاستعمار والغزو الغرامي انعكس في استخدام المفردات، فنجد في كثير من الأحيان استخدام مصطلحات محملة بالرموز الجنسية (على سبيل المثال الاختراق، تملك صلة، خصوبة وغيرها). بهذه الطريقة يتم تكوين متخيل يكون الفعل الاستعماري فيه عملية استيلاء وهيمنة، ويتم اختزال كفاح المستعمر في لعبة بسيطة من الإغواء. إن تجميع هذا الثنائية في كثير من الأحيان بين الجزائر و فرنسا يتم في صورة غريمين؛ امرأة فرنسية في علاقة بالجزائري في كثير من الأحيان، حيث تتخذ شكلاً أفلاطونيًّا، فتكشفت نبل وغنى الشريكين. الأكثر شيوعًا كانفي الجهة الأخرى من الزوجية (رجل فرنسي وامرأة جزائرية) حيث تؤول هذه العلاقة دائمًا إلى الفشل. في هذه العلاقة كان الرجل يتبنى وظيفة الحماية، الأمر الذي يذكر بفكرة "المهمة التحضيرية". إذا قاوم الزوجان أسباب الفشل فبفضل استيعاب الثقافة الغربية بواسطة العنصر الأنثوي. لكن غالبًا ما كان كسرها بسبب الخلافات السياسية في الميادين المتصلة بها في معظم الحالات، كاندلاع حرب أو ثورة، فيجبر الرجل على التركيز على مهمته على حساب المشاعر الرومانسية.

الأهلي والجندي:

تاريخيًّا ظهرت شخصية الجندي مع الغزو مباشرة، وكانت الأداة الأساسية في عملية الاحتلال. يمكن أن نلحظ حضور جندي الجوقة Le légionnaire، فغالبًا هو مركز الأحداث، ومحرك الخطابات الدعائية الاستعمارية. ظهر في أفلام مثل الراية La Bandera لجوليان دوفيفيي Julien Duvivier 1935 مع جون غبان  Jean Gabin، أفلام تمجد العمل العسكري الفرنسي. وأيضًا في فيلم الرقيب x LeSergent x سنة 1932 للمخرج فلاديمير ستريزوفسكي Vladimir Strizhevsky والذي صور بمنطقة سيدي بلعباس مركز جيش الجوقة، وأيضًا فيلم جوقة الشرف Légions d’honneur للمخرج موريس قليز Maurice Gleize سنة 1938 . كان جندي الجوقة شخصية ضائعة في كثير من الأحيان ، منفي أمن وطنه الأصلي، وصل إلى حالة البطل من خلال مروره بالمستعمرات، وفي لحظة الوفاة. مثل هذه البطولة تتحقق فقطفي التراجيديا الإغريقية، حيث الموت من أجل القيم الوطنية والمثالية. سمحت تجربته في المستعمرة من الوصول إلى موقف التفوق المادي والمعنوي من خلال تحويله إلى رجل عادي، وعادة نموذجًا. الطريقة التي حقق بها رغبة حقيقية لإعادة التجدد الروحي والاجتماعي، ساعدت جندي الجوقة على الخروج من هذه الضائقة التي شعر بها في المتروبول. في مواجهة مع هذا الجندي، مثل الأهلي تهديدًا كونه غير مرئي، وبدون إيديولوجية واضحة. عندما صعد الأهالي، استخدم المخرج خططًا واسعة للغاية، لتجنب التفرد، وإنشاء صورة  مشوهة عن الجزائر. وضعت الأفلام الاستعمارية في الحسبان بعد المسار الروحي الذي يتخذه البطل في المستعمرات، خاصة عند مروره بالصحراء، مكان الصمت والنقاء. في المواجهة بين الجندي والأهلي يتم وضع متخيل من الخوف، ينظم القانون غير المكتوب للفصل المكاني.

مساحات وجدت لدرء القلق من التهديد. الجنود والأهالي ينتمون كل إلى مجموعة، إلى مجتمع محلي. كل مجموعة تحكم دون النظر إلى الأخرى، لتتحول في نهاية المطاف بشكل عنيف ضد الأخرى التي لا تشعر بالتضامن. هذه القطيعة المشوبة بالخوف والتي تمنع التلاقي، تفسر صعوبة الاحتواء في تنفيذها باسم "المهمة التحضيرية" La mission civilisatrice.

وتكريسًا لمبدأ التجاهل والتحقير، سعت السينما الاستعمارية إلى تطبيق النموذج الهوليودي في علاقة العسكري بالأهلي، خاصة بعد أن قام الأمريكي وليم غريفيث WillamGriffith ببعث هذا النوع من السينما ممثلاً في أفلام "الوسترن"Western سنة 1910، حيث أنتجت أواخر العشرينيات والثلاثينيات عدة أفلام تتناول هذه العلاقة مثل الرقيب x وواحد من الجوقةUn des Légions وجوقة الشرف، وفيها يصور الأهالي على أنهم قطاع الطرق، مخادعون ومتعطشون للدماء، لكنهم ساديون منحطون أوغاد...مثل هذا التصوير يمكن ملاحظته ضمن النموذج الهوليودي كالآتي:

الهندي l’indien   =    الأهلي   =     شرير، بدائي، خارج عن القانون، متوحش.

 الكوبوي Cow boy  =     العسكري  =      شريف، متحضر، منضبط، شجاع

توثيق المتخيل:

من جهة أخرى وعلى المستوى الأيديولوجي، كان من المفترض أن تعمل هذه الصور على تشجيع الاستيطان في المستعمرات، والتي كانت تعاني في سنة 1930 من نقص في الجالية الفرنسية. شاركت السينما في هذا المشروع الرامي إلى تشجيع المعمرين على المجيء، ولاسيما خلال الاحتفال بالذكرى المئوية لغزو الجزائر، وقد صادف ذلك المعرض الدولي L’Exposition coloniale internationale الشهير في باريس حول المستعمرة في عام 1931، فظهرت مجموعة من الأفلام المدعومة مباشرة من قبل السلطات الاستعمارية، لإعطاء الصبغة "الرسمية" للصناعة السينماتوغرافية، وهو ما يفسر الوسائل التقنية الكبيرة التي سخرت لهذا العمل. نجد في هذه الأفلام بعدًا توثيقيًّا عرض تقريبًا لإعطاء مظهر الموضوعية، وخدمة لتبرير الشرعية الاستعمارية. هذا الموضوعية المفترضة تتجلى في تركيب البطاقات الجغرافية والطبوغرافية ، والنصوص القصيرة الصامتة التي تكمل الصور.

في بيبي لو موكو Pépé le Moko الفيلم الشهير والعنصري لجوليان دوفيفيي Julien Devivier الذي أنتج عام 1938، دائمًا مع جون غابان Jean Gabin الذي يتحول من بطل عسكري إلى شرير بقلب كبير، تظهر القصبة في الفيلم مرتعًا للمشردين والمغامرين. فيلم يحاول أن يعطي الانطباع على تحري الواقع والحقيقة. كل صورة من هذه الأشرطة في شكل حكاية، توفر معلومات حول المجموعة التي صدرت عنها (المتمثلة في مجموعة العسكريين الفرنسيين والأوروبيين). كل فيلم من هذه الأفلام - وقد نسي الكثير منها الآن – لا يظهر غير مجتمعه الخاص، الذي يذكره من خلال شاشات واجهات، ومن خلال تخريجات تاريخية ومكانية. إنها تعبر (الأفلام) كل واحد بطريقته الخاصة عن التاريخ، بمظهر النشط والمكتشف اجتماعيًّا وثقافيًّا فيما يتعلق بحقبة الاستعمار: عنف العلاقات الإنسانية أو الانفصال المجتمعي. إذا كان المشاهد في تلك الحقبة يرى بأن سمة الغرائبية تسمح خصوصًا بعمل يلغي  الواقع ، والهروب  إلى فضاء حالم، متخيل تمامًا فإن هناك بعدًا آخر يرى.

خاتمة:

معظم هذه الأفلام (مأساوية وعنيفة في بعض الأحيان) مأخوذة عن روايات لكتاب تلك الحقبة الاستعمارية كألفونس دودي (طارطاران دي طراسكان) بيار بونوا (الأطلنتيد) جون قينيو(صراتي المرعب) جون ماكيس (جوقة الشرف) لوسيان برنار (في ظلال الحريم) جون بيليغري (زيتون العدالة).... أفلام غارقة في الزيف والمغالطة والبعد عن الحقيقة. تداخل الأماكن، والمعلومات يفتح باب المقارنة مع الغرب البعيد Far West بفضاءاته الواسعة العذراء، وبحدوده الممتدة، الأهالي والغزاة.... الاستيلاء على الأراضي الواسعة، ولادة أمة.

الفيلم الاستعماري يحاول بناء دائرتين؛ دائرة الممثلين للمتروبول (جنود ، مستوطنين، ومبشرين) ودائرة الأهالي المستعمرين، وبطبيعة الحال فإن الدائرة الأولى هي التي تهم صناع السينما، دائرة المستعمر الذي يتمتع بوضع إيجابي ومريح. الأهلي المستعمر في المقابل، يتحرك، لا يجد الراحة مطلقًا. ولكن إظهار "البطل الكولونيالي "الواثق من نفسه والأهلي المتوحش، الذي لا يعرف الاستقرار يشير إلى أن وراء الكواليس، تتراءى أعراض زوال الاستعمار. هذا البعد المغيب في الخطاب السينمائي سنوات ما بين الحربين، يعلن عن مزيد من الاضطرابات، إنها نهاية الامبراطورية...

 

ببليوغرافيا  الدراسة:

1 - بتقة سليم، السينما الجزائرية نصف قرن من المعالجة الاجتماعية، جريدة العرب، يومية تصدر في لندن، الخميس 03/07/2008

2 - شرايطية عيسى، الريف في السينما الاستعمارية، الصورة والأيديولوجيا، رسالة ماجستير، إشراف د. زهير إحدادن، معهد علوم  الإعلام و الاتصال، جامعة الجزائر، 1993، ص: 116و 134

3 - الكسان جان، السينما في الوطن العربي، عالم المعرفة، العدد 51، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت، مارس 1982، ص 21

4-Bataille, Maurice-Robert et Veillot, Claude, Caméras sous le soleil, Ed Alger, 1956, 221 pages.

5-Benali, Abdelkader, Le cinéma colonial au Maghreb, préface de Benjamin Stora, Paris, Ed Cerf, 1998, 370 pages.

6-Bensalah, Mohamed, « Image, imaginaire et colonisation en terre algérienne avant 1954 », in Actes du colloque Image, imaginaire et histoire, Sétif, 12-13 janvier 2008, pages 9 à 14.

7-Ferro, Marc, Cinéma et Histoire, Paris, Ed Folio, histoire, 2003, 287 pages.

8-Maherzi, Lotfi, Le cinéma algérien, Alger, Ed Sned, 1980, 414 pages.

9-Megherbi, Abdelghani, Les Algériens au miroir du cinéma colonial, Alger, Ed SNED, 1982, 279 pages..

10-Stora, Benjamin et Gervereau, Laurent (sous la direction), Photographier la guerre d’Algérie, Paris, Ed Marval, 2004, 190 pages


عدد القراء: 12352

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-