الأنا والزمنالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-11-25 01:39:38

د. وليد فتيحي

في رحلتي بحثًا عن الذات سألت نفسي: هل هناك علاقة بين الزمن وبين الأنا والذات؟ بدأت أنظر حولي أبحث عن الإجابة في طريقة تفاعل وتعامل الناس مع الزمن، وأخذت أرقب هذا التفاعل في كل مكان أذهب إليه فوجدت الإجابة في الأماكن العامة التي يكون فيها انتظار، واكتشفت أن الناس يتفاعلون مع الزمن بطريقتين مختلفتين تمامًا.. فريق يتوقف الزمن بالنسبة له حين يكون في انتظار شيء، كانتظار نداء فتح باب صعود الطائرة أو وصول القطار الذي سيستقله أو دوره في إنهاء معاملة له.. عند هذا الفريق فإن لحظات الانتظار تصبح مجرد لحظات انتظار للوصول إلى هدف وغاية، أما الفريق الآخر فإنهم يشغلون لحظات الانتظار بأعمال بناءة في قراءة كتاب أو أعمال يدوية أو ذهنية.. رأيتهم لا يبالون إن طال الانتظار فهم منهمكون بتلك الأعمال، فلحظات الانتظار لم تعد لحظات انتظار بالنسبة لهم، بل أصبح لكل لحظة من هذه اللحظات قيمة ذاتية يجد كل واحد منهم نفسه فيها، لم تتوقف حياتهم انتظارًا لحدث معين قادم، تخيلتهم كأنهم يحملون ساعة داخلية عقاربها دائمًا تشير إلى قراءة واحدة (الآن).. تذكرت كتابًا كنت قد ضممته لمكتبتي منذ أعوام، لكني لم أقرؤه  وظل اسمه عالقاً في ذاكرتي.. (قوة الآن)، عدت إلى مكتبتي أبحث عنه فوجدته بين أكوام الكتب المتراكمة في زوايا مكتبتي (قوة الآن)  لإيكارت توللي وبدأت أقرأ فيه ولم أجد نفسي إلا وقد غصت معه في رحلة عميقة مع الزمن.

يقول إيكارت توللي: لا شيء يحدث في الماضي، وإنما يحدث دائمًا في لحظة تسمى اللحظة الراهنة أو الآن، وما الماضي إلا ذكرى للحظة من لحظات الآن التي مرت وقضت وانتهت، وبذلك فالماضي ليس له في الحقيقة وجود إلا في ذكرى له تنشأ في مخيلتنا وعقولنا وتحدث كذلك في لحظة الآن.

وكذلك لا شيء يحدث في المستقبل، فالمستقبل هو صورة ذهنية تخيلية لما يمكن أن يحدث في لحظة من لحظات الآن المستقبلية التي عندما تأتي ستكون دائماً بصورة واحدة فقط تسمى (الآن)، وبذلك فإن الماضي والمستقبل ما هما إلا انعكاس لحقيقة واحدة، ألا وهي حقيقة اللحظة الراهنة، حقيقة لحظة الآن، لا شيء يوجد خارج الآن. فالماضي والمستقبل يمكن تشبيههما بالقمر الذي ليس له ضوء بذاته وإنما هو انعكاس لضوء الشمس. الآن هي ضوء حقيقة حياتك الوحيدة.

توقفت وتساءلت في نفسي: ولكن للماضي فوائد عظيمة، فمنه نتعلم من أخطائنا وبه تصقل تجاربنا.. أكملت قراءتي لأجد الإجابة: نعم هناك نوعان من الماضي، ماض نستخلص منه تجارب وخبرات تعيننا على حسن استثمار لحظة الآن، وماض من نوع آخر يحمل في طياته الآلام والأحزان، وأدركت أن هذا الماضي هو الذي يرهق كاهل الإنسان عندما يعيش هذا الماضي في داخله حيًّا على شكل ذكريات فيصبح له كيان، ليحبسه في سجنه ويصبح عقل الإنسان الذي يحيي هذه الذكريات هو السجّان.

في تلك اللحظة استحضرت قول الله تعالى (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) أي لا تحزنوا ولا تفرحوا بالماضي.

أما المستقبل فهو كذلك نوعان، مستقبل نخطط له بعقولنا، ونستثمر وضوح رؤيتنا في التركيز على لحظة الآن، والتي بها لا بغيرها يمكن أن يتحول وهم خيال المستقبل إلى حقيقة، والتي ستأتي بصورة الآن عندما نصل إليها في يوم من الأيام.

وهناك مستقبل من نوع آخر يحمل في طياته الخوف والرهبة والترقب والهم ممَّا هو آت، وما هو في حقيقته إلا تخيل ووهم من صنع عقل الإنسان، وهذا هو المستقبل الذي يستنزف الطاقات ويفقد التركيز على الحقيقة الوحيدة في يد الإنسان وهي لحظة الآن.

توقفت.. تساءلت: وهل يهم الإنسان أكثر من رزق غد  فاستحضرت الحديث القدسي (يا ابن آدم، لا تطلب مني رزق غد، لأني لم أطلبك بعمل غد)، وتذكرت حديث رسول الله (لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا) وفجأة تذكرت وردي اليومي، أليس همُّ المستقبل وحزن الماضي هما اللذان استعاذ منهما رسول الله (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن).. تيقنت في تلك اللحظات أني لا أستطيع أن أجد نفسي بالعودة إلى الماضي، ولا أستطيع أن أجد نفسي في تخيل المستقبل، نعم لا يستطيع الإنسان أن يجد نفسه إلا بحضوره وتواصله مع لحظة الآن، هذا الحضور هو الوعي الذي يعي ويدرك ويرى ويرقب الأفكار والمشاعر التي يمر بها الإنسان، فلا يسمح للصوت الذي برأسه والأفكار الشاردة أن تسرق منه لحظة الآن.

معظم الناس يعيشون في الماضي أو المستقبل ولم أكن إلا واحدًا منهم أعيش في الماضي بأحزانه أو أفراحه أو هم وتخيل ما يمكن أن يحدث في المستقبل من محزن أو مبهج، وبذلك كنت أتنكر دون أن أشعر بنعمة لحظة الآن، وأحرم نفسي من الحقيقة الوحيدة في حياتي والتي بها لا بغيرها يمكن أن يتغير الإنسان.

 ولكن لماذا فعلت أنا ولماذا يفعل الناس ذلك؟ إنها الأنا هي التي تفعل ذلك، إنها الأنا التي تستخدم الأفكار المتكررة المستمرة لتعيش بها في الماضي أو المستقبل وتهمل لحظة الآن.. إنه اللاوعي الذي تعيشه معظم البشرية. الأنا تريد أن تهرب من لحظة الآن إلى ماض أو مستقبل، لأن وعيي بلحظة الآن يعني الحضور ويعني السكون ويعني الكينونة، يعني أن أترك مساحة كافية للوعي فيَّ أن يستيقظ، أن أسمح لذاتي الحقيقية أن تعي وأن تراقب أفكاري ومشاعري. هذا الوعي معناه أني قد بدأت في سبر أغوار أعماق نفسي وأن أقترب من المصدر، من الروح التي فيَّ وهي من نفخة الرحمن.. ومن هنا يستقى الإلهام منبع كل إبداع، فالإبداع يأتي من عالم الإلهام، عالم آخر ليس من هذا العالم، ومن خلال بحثي وجدت أن هذا ما يؤكده جل العلماء والباحثين والمخترعين، فكل الاختراعات والابتكارات كان منبعها إلهام في ساعة صفاء ذهن وحضور نفس وسكون، لا ساعة صخب أو تفكير في مستقبل أو ماض.

تيقنت أن الوعي والحضور والسكون فيها علاج الأنا التي فيَّ، الأنا لا تستطيع أن تعيش فينا دون شرود الأفكار للماضي أو المستقبل، قد تظهر الأنا في صورة قصتي الحزينة التي أحملها معي أينما ذهبت من أحزان الماضي وإخفاقات الماضي وحسرات الماضي، وهي تحمل معها طاقة سلبية تلوث نظرتي للحظة الآن، فأراها بعين أحزان الماضي، فألبس اللحظة من الأحزان ما ليس فيها، وبذلك يتزايد حمل تراكمات العبء النفسي للماضي الحزين، وقد تظهر الأنا في صورة وهمية وخيال من صنع عقلي لحدث معين سيحدث لي في المستقبل، وعندها ستبدأ حياتي الحقيقية، أو هكذا أظن، وعندها فقط  سأحصل على الهناء والسعادة  والأمان والراحة، وكلها صور من الأنا تحرمني نعمة لحظة الآن، فعندما تغيب الذات الحقيقية فإن حالة اللاوعي تجعل الأنا تسيطر علينا والأفكار تسرح بنا بين الماضي والمستقبل.

الأنا تريدني أن أدمن على الأفكار المستمرة المتكررة التي تعيش في الماضي أو المستقبل لتصبح هويتي هي ما حدث لي في الماضي أو ما أنتظره في المستقبل، وكلاهما بعيد كل البعد عن هويتي وذاتي الحقيقية.

أليس هذا هو عمل الصلاة عندما نؤديها حق أدائها فنخرج من الدنيا إليها، فنتصل بها مع خالقنا من خلال الروح في لحظة (الآن)، فنقتل بها وفيها صوت الأفكار الشاردة، نقتل بها وهم (الأنا) المتمثلة في الصور والأشكال والأفكار، وبذلك نفرغ وعاءنا من تلك (الأنا) التي كانت تملؤه وكانت تحول بيننا وبين ذواتنا الحقيقية أن تكون، وبطرد وقتل (الأنا) التي فينا في الصلاة يمتلئ الوعاء بالروح فيحدث فرح الكينونة ونذوق طعم أفراح الروح.

هوية الأنا تعيش في تأنيب وحسرة وألم ومعاناة الماضي أو خوف وترقب وقلق على المستقبل، وعلى قدر ما أعطي الماضي من أهمية، على قدر ما أمده من طاقة ليصبح الماضي هو أنا وأُعرِّف نفسي من خلاله لأصبح أسيره.

كم من الناس يعيشون وهم يحملون على ظهورهم العبء النفسي الثقيل لأحزان الماضي، وكم من الأمراض والأسقام جلبت هذه الأحمال النفسية الثقيلة على حامليها وحرمتهم السعادة والهناء والسكينة والحب والسلام، وكل ذلك من صنع أيدينا عندما تركنا الأنا تتمكن منا دون رقيب من ذات واعية.

وفي أثناء بحثي وجدت دراسة قام بها باحثون من جامعة غرناطة “University of Granada” وشارك فيها خمسون رجلاً وامرأة قدمت لهم جملة من الأسئلة تتضمن مشاعرهم تجاه الماضي أو المستقبل وعن صحتهم الجسدية والنفسية ونوعية وجودة الحياة التي يعيشونها، مثل: كم عدد المرات التي يفكرون فيها عن أشياء في الماضي كان يجب أن يفعلوها بطريقة غير التي فعلوها؟.. وهل يعيشون حياتهم يومًا بيوم أم أنهم قلقون على المستقبل؟ وقد أظهر تحليل الإجابات أن الأشخاص الذين يسهبون في التفكير في الأمور السيئة التي حدثت لهم في الماضي وينظرون لأحداث الماضي بعين الحسرة والندم على فرص أضاعوها أو مرارة طريقة تعامل الناس معهم، هم أسوأ صحة وأكثر عرضة للإصابة بالأمراض، وكذلك هم أكثر قابلية للإحساس بالألم، وبشكل عام فإنهم يعيشون نوعية وطبيعة حياة سيئة.

وقد وجدت الدراسة أن أهم عامل للصحة هو طريقة النظر للماضي، وأن الذين ينظرون إلى الماضي نظرة سلبية ينظرون كذلك لأحداث الحاضر بسلبية أي أن نظرتهم السلبية للماضي تحرمهم من أن يروا إيجابيات الحاضر، بل هم أقل قدرة على القيام بالمجهود الجسدي في نشاطهم اليومي.

ووجد أن تركيز الأشخاص على المستقبل لا يؤثر سلبًا على الصحة ولكنه يحرمهم من الاستمتاع بما يملكون في حاضرهم، وتبين الدراسة أن أكثر المشاركين سعادة وصحة هم أولئك الذين يملكون القدرة على الاستمتاع باللحظة الراهنة ويقدرونها، وفي نفس الوقت هم قادرون على التعلم من الماضي والتخطيط للمستقبل، وقد نشرت الدراسة في مجلة “Universitas Psychologica” في 24 مارس 2012م.

إن إزالة أعباء الزمن من وعيي معناه إزالة الأنا، إزالة هم المستقبل وحزن الماضي، وهما اللذان استعاذ منهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن" وبذلك يصفو تركيزي على لحظة الآن التي بين يدي والتي فيها خلاصي ونجاتي وفوزي وفلاحي.

أخذت كتاب (قوة الآن) بين يدي وابتسمت في قلبي وقلت: "ما أحرى أن يكتب الدعاء الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقدمة هذا الكتاب.

هذه اللحظة التي بين يدي هي الحقيقة الوحيدة التي كانت وسوف تكون، فاقتنعت وقررت ألا أضيع حاضري بين ماض قد مضى لن يعود إلا كذاكرة هي أشبه بحلم قد انتهى، أو هم وهم مستقبل لا يأتي حين يأتي إلا بصورة الآن. أدركت أن لحظة الآن هي أجلُّ نعم الله عليَّ.. فقررت أن آخذها بقوة وأن أستثمرها خير استثمار، فهي أغلى ما أملك، وهنا فهمت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "إِذا قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا" فله بذلك أجر.

إنها اللحظة.. إنها الآن.. إنها حقيقتي وحقيقتك.. وإنها حياتي وحياتك، فعزمت أن أحسن استثمار لحظتي وأن أحسن غرسي فيها، فقد تكون آخر لحظة في حياتي..

فـــ (دقات قلب المرء قائلة له    إن الحياة دقائق وثوان).

 


عدد القراء: 7879

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-