دمشق يا بسمة الحزن .. ثورة شعب ومذكرات امرأةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-02-03 04:35:30

حمزة شباب

ناقد فلسطيني

تدخل دمشق ساحة الربيع من أوسع أبوابه عبر مذكرات المرأة العربية السورية ، وتتبختر الدار في ذاك الربيع المسائي يزوقها فنان أهوج بعثر الألوان في كل زوايا البيت، حيث أزهار البنفسج التي تنحدر على الجدران، والنفنوفة الحمراء تتسلق قوس الليوان، أما الياسمينة فتسطو على الدالية وتنسج فوق العريشة مظلة موشاة بالأصفر والأخضر، والبحرة تحتضن القمر تتوسطها نافورة تردد أغنيتها الرتيبة الموزونة، وزهر الليمون والنارنج ينشر عبق الاسترخاء اللذيذ، يجمع نيسان كل هذه اللحظات من النشوة والتجلي في مذكرات امرأة تنتصر لشعبها فتكون ضحية تورّث الآمال للأجيال.

"دمشق يا بسمة الحزن" رواية للأديبة السورية ألفت الإدلبي، صدرت في الثمانينيات من القرن الماضي وسطّرت واقعًا عربيًّا ملموسًا في الانتصارات الشعبية والأدب النسوي الثوري في الدفاع عن الحقوق، وعبّرت عن رفضها للسلطات الذكورية في جوهر محدد من كتابة مغايرة تنجزه المرأة العربية في استيحائها لذاتها، كما خلّدت ذكرها في ميدان الأدب حاملة لكلماتها المستوحاة من أنوثتها لتخلطها بصليل السيوف في واقعها، وضاربة عرض الحائط ذاك المجتمع الذي يضعها فضلة في سياق الأحداث.

ومن الجدير بالذكر أن الرواية تحولت إلى عمل درامي، أضاف رصيدًا وافرًا للدراما السورية بما يخص كلاسيكيات الأدب السوري تحت مسمى "بسمة الحزن"، حيث عمل على تشييد السيناريو الناقد السوري رفيق الصبّان أستاذ مادة السيناريو في معهد السينما بالقاهرة، والحاصل على وسام الفنون والآداب الفرنسي برتبة فارس، والذي يوصف بأنه صاحب بصمة واضحة في تاريخ الأدب والسينما العربية بسبب مسيرته الطويلة في قطاع إنتاج السينما العربية، كما عمل على تكييف المشاهد الدرامية المخرج السوري لطفي لطفي بما يمتلكه من مهارة محافظة على أحداث الرواية سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، المسلسل من إنتاج عام 1992م أي بعد عشرة أعوام من كتابة الرواية تقريبًا.

تحوم رحى الرواية في فلك ذاك الربيع النيساني الملطّخ ببراثن الانتداب، وتحكي خصوصيات أسرة دمشقية كلمتها سهام الواقع في الاستعمار الجاثم على قلوبهم، وأسرتها العادات والتقاليد في تفنيد المرأة ذاتًا وروحًا، وإن كانت نبوءة لما يحدث في دمشق وما حولها من ثورات تماثل نظيرتها التي قام بها شباب الغوطة وحي الميدان بنص الرواية إلا أن استمرار بعض الثقافات في تحديد دور المرأة العربية يجعلنا في إطار الصندوق الأسود الذي ما نزال نجهل كثيرًا من خفاياه وإستراتيجيات البحث عنه، فصبرية لجأت إلى مذكراتها في لحظة كانت تمنع فيها من معاشرة الصديقات، مما جعلها تكتب مآلات المرأة في تكوينها للربع المعروف باليابسة على هذه الكرة الأرضية، فالأغلبية الذكورية طاغية على الساحة في كل مجالاتها، ولم تترك لها عملاً سوى أعمال الداية الواحدة لكل ثلاث أو أربع حارات، وهي الوحيدة على ثلاثة إخوة تصارع من أجل البقاء، فتفقد ثالوثها المقدس في أعنف الأحداث وأشدها قسوة، ويعتصرها الحزن في فناء أخيها سامي بئر أسرارها الذي استشهد في الثورة الشعبية ضد الاحتلال، وسمعت بمكر أخيها راغب الذي رغب عن سعادتها في تعاونه مع الاحتلال في قتل عادل الشاب المثقف الثوري الذي نجا من العيون الاستخباراتية لتلاحقه النيران الصديقة بعد معرفته بالعلاقة الغرامية القائمة على نوع من الثقافة مع أخته، فكان كرواية أهداها إليها فقرأتها ولم تنسها بعد، ثم رحلت نيرمين حبيبة أخيها سامي مع رجل سبعينيّ أغرقها بهدايا الترف، وبعد وفاة والدتها تبقى في رعاية والدها المجذوم بقية حياتها، وتنتحر بعد إقامة الطقوس الشعائرية الخاصة بوفاة والدها وعزم إخوتها على بيع منزل العائلة مع الربيع الذي رسم معالمه فيه أعوامًا عديدة.

تناولت الكاتبة في روايتها جانبًا من سيرتها الذاتية وسيرة المجتمع الذي ضمها، حيث تلقت تعليمها في المدرسة القريبة من مكان سكنها، وتزوجت في سن السابعة عشرة من عمرها لطبيب لم تره في حياتها شأنها في ذلك شأن الفتيات جميعًا في تلك الثقافة المغلقة، واتخذت من مرضها فرصة انتهازية لإشباع هواياتها في القراءة والكتابة، وأخذت تنهل من ينابيع الأدب حتى وصلت مبلغًا عاليًا في شهرتها بترجمة أعمالها إلى ما ينيف عن عشر لغات، ففي عام 1947م فُتحت لها بوابة الأدب عن طريق الفوز بجائزة أفضل قصة في الوطن العربي من هيئة الإذاعة البريطانية، وبين هذا الانفتاح وتلك السياسات المغلقة في مجتمعها نشأت هذه المنارة الثقافية.

تقودنا الرواية إلى تمثل موقفين متلازمين في مجتمعاتنا العربية، وهما: تخلص الشعب من الاستبداد، وسعي المرأة الدؤوب في التخلص من العبودية ومساواتها بالرجل، فكانت ابنة الصالحية من نساء النهضة السورية وأحد أعمدة جمعية الندوة الثقافية النسائية اللواتي نهضن بالفكر العربي في دعواتهن للتحرير من التخلف والجهل، فعمدت في ملحمتها الذاتية إلى تكريس جهودها خدمة لوطنها أولاً وتركيبها الاجتماعي ثانيًا، فباحت بأسرارها في مذكرات تصف الثورة وتحمل همومها مقدمة حليّها فداءً لها، ومورِّثة كراسها الأزرق من العمة صبرية لابنة أخيها سلمى كي تصدِّر تجربتها التي ستجدد أحلامها عما قريب نصرة للمرأة ، وتحمل شعلة الانتصار في أحلام الشعب والمرأة ضد سياسات التهميش التي ترمي إلى حرمانها من حقها في الكتابة الإبداعية، فعندما تحصل على حظوظ المشاركة في الإنتاج الفكري والحقوقي سيصعب على القراء سمة التمييز بين صورة المرأة وقلم الرجل، مما يؤكد أن لديها تصورًا مختلفًا للمسكوت عنه بمقدار الفروق الفردية بين الجنسين، وطريقتها الخاصة في التعبير سالكة سبيل البوح بمكنونات الذات في مذكرات مرحلية لحياة أمة بأكملها، فتبدع البطلة في سلسلة من الأحداث المتصارعة لإحداثيات الطرح الإشكالي في تفصيل الرجل على المقاس النسائي، فتتجاوز مرحلة التسلية والتجسيد في دور شهرزاد المعهود.

سعت الكاتبة إلى الإكثار من السرد شأنها في ذلك شأن النمط الكلاسيكي القائم آنذاك، مع القليل من الحوار والمناجاة اللذين كشفا الأبعاد الأيديولوجية للمجتمع الواقع تحت سلطة الاحتلال، فكونت رواية منولوجية وأحادية الصوت من خلال مذكرات البطلة ومغامراتها مقصية الأيديولوجيات الأخرى التي تم تبخيسها فكريًّا والانتقاص منها عمدًا، وانطلقت من الموضوعين السابقين المشار إليهما، أي الشعب والمرأة لوضع تصورها العام المتطلع إلى المنظوم الأدبي، حيث سارت على خطى الجنس التعبيري في الرواية بوصفه جنسًا للحرية الذاتية والتعبير عن النزوات في أشكال زخرفية.

"دمشق يا بسمة الحزن" رواية تسير بنا نحو الماضي الذي كنا سندفنه دون دموع، وتتشح بالألم الملازم للحياة العربية دون هوادة، وتجعل من الموت لغة مخملية متداولة لمعنى النصر، وتعزز ثقافة الاستسلام، فها هي دمشق وما حولها تعيش في خضم الرصاص والبارود، تعيد نظرة التخلف للأعداد المتزايدة من النساء في طاحونة الحرب، وتعود بنا لوظيفة الداية في الكشف عن عذرية الفتاة بعد طغيان العصابات التي عاثت في حديقة دمشق فسادًا، فمن يهرب من جدل السياسة إلى فضاء الثقافة سيصاب بنوبة حزن على العاصمة وما حولها، فدمشق الآن – رمز لما حولها – تنام على سجادة من الأشلاء، ترويها ألفت الإدلبي في نبوءة ملهمة حملتها من جدها لأمها الشيخ محمد حلبي الداغستاني الذي عرف بنضاله في القوقاز ضد الاحتلال الروسي الملطخ حاليًا بدماء الأبرياء.


عدد القراء: 7737

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة شليم محمد رقادي من الجزائر
    بتاريخ 2017-03-09 22:54:02

    ـــ دمش ق بسمة الحزن .. ثورة شعب و مذكرات امرأة ـ صحيح أن المعاناة السورية اليوم ,هي صورة مصغرة لما يحدث في الضيعات العربية إن صح التعبير .ـ الدويلات العربية ـ التي تمر أنظمتها البالية بمرحلة الإنحطاط كحتمية تاريخية .و لأنّ الروائية أُلفت الإدلبي قد عاشت معانة المرأة العربية و كأنها كانت ممثلة للنساء العربيات منذ حقبة الثمانينات فإنها وضعت تصورا للواقع العربي آنذاك ـ فترة ثمانينيات القرن الماضي ـ فبينت لنا بأن الإستبداد الذي سببه الإستعمار الإنتدابي كان الدافع الرئيس أما إنهيار القيّم , و أن هذا الإنتداب أثر بشكل كبيرة على واقع المرأة السورية خاصة , هذه السيدة التي عانت القهر و التسلط الذكوري . فحاولت أن تتحرر بذاتها قبل أن تحرر وطنها ,لأنّ الأوطان تتحر حينما نتخلص من الإستبداد الذي هو أشدّ خطراً من مس الشيطان .. و استطاعت الكاتبة في روايتها أن تعيش الحالة التي تمر بها كل ـــ ست ـ عربية اليوم .. فالكاتبة عاشت لتكتب للوقت المعاصر..

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-