الفنون جنون!الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-03-20 18:39:47

عماد أحمد العالم

النخب هم مرآة الأمم وسمعتها (وثيرموميتر) تقدمها وازدهارها. لطالما افتتنت الشعوب بهم وبإنجازاتهم الأدبية والفنية والثقافية, هم من تقام لهم المعارض والمؤتمرات والأماسي لتخليد ذكراهم والتمتع بإبداعاتهم. تكتب عنهم الدراسات وتؤلف الكتب التي تسجل سيرتهم الذاتية, فيما ينال بعض الباحثين والدارسين الدرجات العلمية العليا في حديثهم عن انجازاتهم وأعمالهم. بعضهم والحديث هنا عن المبدعين، قد قضى مشرداً مهملاً من مجتمعه ومن حوله, لكنه وبعد سنين طالت أو قصرت تم تكريمه بعد أن حان الوقت ليكتشف أحدهم إبداعه الذي تغافل عنه من كان في زمنه, ليمسي ما تركه محل بحثٍ ورغبةٍ في اقتناء من معجبٍ مستعد لكي يدفع في الحصول عليه ما لا يمكن أن يتوقعه مبدع العمل نفسه. على هذه الشاكلة عرفنا العديد من الكتاب والرسامين والفنانين, لكن للقاعدة شواذها وإن كثر عددهم, فآخرين نالوا ما استحقوا وأكثر في حياتهم بما لا يحظاه سوى العظماء من القادة والرؤساء والمحررين.

الرغبة في معرفة المزيد عنهم تُلهم بعض الكتاب لينشر عنهم ما قد يثير فضول المعجبين, في كتبٍ فيها من الخيال والاختلاق أكثر من الواقع أحياناً. تصف حياتهم الشخصية, وأسلوب معيشتهم, ونمط تعاملهم وتفاعلهم مع المجتمع والآخرين. تسرد أسراراً لا يمكن التأكد من صحتها عن حياتهم الخاصة, وعن غرامياتهم ومغامراتهم, عما عانوه من مشاكل نفسية أو صفاتٍ مستهجنة عانى منها المقربون منهم. يتلقف معجبيهم المعلومة بشغفٍ أكبر سعياً في معرفة المزيد. بعضهم تحول لأسطورة ورمز للشباب والمحبين, آخرين خُلدوا كأيقونةٍ للكفاح والنضال الوطني والشعبي ومناهضة الاستعمار والاقطاعية والحكم الديكتاتوري كتشي جيفارا.

وصل الجنون ببعض معجبيهم أن تداولوا عنهم ما لا يصدقه العقل, لكنه جموح هوى النفس حين يتحول إعجابها إلى حبٍ خرج عن إطار السيطرة, وتعلق بالخرافات كي يرضي حبه ونهمه لسماع ما يسعده عن من هو معجبٌ به.

أحدهم كان الفيس بريسلي وهو أحد النجوم اللامعة الذين تمكنوا من احتلال قمة المجد الفني في تاريخ الموسيقى العالمية، أشتهر بلقب ملك (الروك أند رول) وكان عامل إبهار للشباب عبير تحفيزهم في موسيقاه للتعبير عن رغباتهم ومشاعرهم. قضى بجرعة مخدراتٍ زائدة, لكن العديد من معجبيه دأبوا القول أنهم شاهدوه في أماكن عدة, مؤكدين عودته مجدداً.

لم يمنع ما عانوه بعض المشاهير من نوبات اكتئابٍ حادة وأمراض نفسية أن ينطلقوا بنا لما لا يمكن لنا العيش بدونه أو تخيل حياتنا سواه. وُصف ابداع بعضهم بتزامنه مع ما اُطلق عليه الجنون المؤقت!

يروي الرسام والكاتب المصري المهاجر جورج بهجوري حكايةً طريفةً حدثت معه ويقول: دعيت لإسبانيا للمشاركة في مسابقةٍ للرسم الكاريكاتوري؛ أعطيت فيها للجنة التحكيم رسمةً لم أكملها بعد, وأصدق ما يمكن أن أصفها به هو (خربشة مجنونة), لكنها كانت سبباً في أن أنال عليها الجائزة الذهبية الدولية للرسم الكاريكاتيري!

عموماً وإن كان البعض يبالغ بتصويرها, إلا أن للكثير من الرسامين ما يسمى (بلزماتهم), التي تظهر على هيأتهم وطريقة لبسهم وتصفيف شعرهم وأسلوب معيشتهم. تلحظ ما قد يُظن سرحاناً أو ابتعاداً عن الواقع وانفصالاً عنه. بعضها تصرفات شاذة غير مقبولة كما فعل الرسام الهولندي الشهير فينسنت فان غوخ المصنف كأحد رسامي الانطباعية حين قطع جزء من أذنه اليمنى ليهديه لمن يحب. هو الذي عرف عنه أيضاً معاناته من نوبات متكررة من المرض العقلي الذي أثير حوله العديد من النظريات المختلفة. في ظروفٍ ومكان وزمانٍ آخر عما عاناه فان جوخ في حياته, نال رسامٌ إسباني عزا ورفاهاً  وشهرة لم ينلها سواه في حياته ولعقودٍ طويلة بعد رحيله. هو بابلو بيكاسو، الرسام والنحات والفنان التشكيلي الذي يُعد أحد أشهر الفنانين في القرن العشرين وينسب إليه الفضل في تأسيس الحركة التكعيبية.

كان مستوى بيكاسو المدرسي بطيئاً, فقد كان يرفض القيام بأي عمل سوى الرسم حتى كان بالكاد يقرأ ويكتب حين أخرجه والده من المدرسة وهو في العاشرة من عمره, مما دعى أبوه للتوسط له للانتظام في كلية الرسم والفنون التي نجح بتفوق في امتحان الدخول إليها, لكنه هجرها لشعوره بالملل والضجر, ليبدأ بعدها بدراسة الرسم في مدريد وباريس مكافحاً حتى دمغ بصماته الخالدة على الفن العالمي.

الحديث عن الرسم والرسامين والفن شيق ولا يُمل منه, قد يكون بسبب ما متعنا ولا زال به, وقد يرجع إلى ما أثار استهجاننا أو تندرنا بسبب شرود مبدعيه واختلافهم عنا، لكنه وبجمع الأحوال يبقى من أجمل ما يسعدنا ويثري حياتنا ويضفي عليها رونقاً لا نرى للمتعة سبيلاً دونه حتى وإن تحقق فيه القول: الفنون جنون!


عدد القراء: 3951

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-