جدلية التناص وتجلياته في القصة القصيرة المغربية: قراءة في مجموعة أحمد بوزفور (نافذة على الداخل)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2015-06-05 23:04:49

عزيز العرباوي

كاتب وناقد - المغرب

يعد التناص في مفهومه الشامل بأنه تفاعل أو تشارك بين نصين أدبيين أحدهما يستفيد من الآخر، حيث يعني في الثقافة الغربية والعربية ذلك «التواجد اللغوي لنص في نص آخر، أي كل ما يجعل النص في علاقة ظاهرة أو خفية مع نصوص أخرى»1. فالتناص حسب جيرار جينيت «هو ذلك الرق الذي أزيلت منه الكتابة الأولى لتحل محلها أخرى، ولكن العملية لم تطمس كليًّا النص الأول مما يمكن من قراءة النص القديم من وراء الجديد مثل ما يحدث في (التشفيف)، وهذه الحالة تبين أن نصًّا يمكن أن يستر نصًّا آخر، ولكن لا يخفيه كلية إلا في القليل النادر. فالنص في الغالب يتقبل قراءة مزدوجة، إذ يتشابك فيه على الأقل نص مشتق ونصه المشتق منه. وأعني بالنص المشتق كل الأعمال المتفرعة عن عمل سابق بالتحويل كالمحاكاة الساخرة أو التقليد أو كالمعارضة... ويمكن للنص على الدوام أن يجعلك تقرأ نصًّا آخر وهكذا دواليك حتى نهاية النصوص» 2.

تتجلى مغامرة الكتابة القصصية في مجموعة (نافذة على الداخل) للأديب الأستاذ أحمد بوزفور، في العين الراصدة للواقع ولتفاصيله الصغيرة ومآسيه ومآزقه المختلفة. فالكتابة في المجموعة تنشد تحقيق تنوع وتميز وذلك بتوظيف السخرية والمفارقة للدلالة على تنوع طرق هذه الكتابة وتقنياتها. وهكذا نجد أن المجموعة تحقق تلك المسافة بين الواقع والمتخيل حيث المواقف المتعددة التي تصور واقع الإنسان من خلال أفراحه وأحزانه وهمومه تحيل على الوفاء والتسامح في جانب معين، وعلى نقد الخيانة والحقد والكره في جانب آخر...

 نافذة على الداخل حيث الشفافية والوضوح والرؤية المتمعنة للأحداث والأمور والمشاعر، وحيث السلاسة في الحكي والسرد والتعبير... فتتعدد المواضيع التي يقاربها القاص في مجموعته من خلال حقل قصصي مفتوح على التأويلات، وغني بالأفكار والمواقف، وثريٍّ بلغة متعددة ومتنوعة تهدف إلى إبراز عمق المفارقة الإنسانية بانفتاحها وانغلاقها، بقسوة الحياة وموت القيم وغياب الأخلاق، وتجلي السخرية في أبهى صورها وأشكالها الشفافة والواضحة، سواء من خلال استحضار الشخوص التراثية المشهورة، أم من خلال استدعاء النصوص التراثية، أم من خلال الإفادة من النص الشعري الغني بالدلالات الثقافية والفكرية والأدبية المساعدة على إغناء النص القصصي...

التناص بالشخصيات:

يستدعي الأستاذ بوزفور في نصوص مجموعته العديد من الشخصيات المعروفة والمشهورة في سماء الأدب والثقافة والسياسة لها دورها الكبير في تطوير الحضارة البشرية بكل أنساقها ومجالاتها المتنوعة، حيث تتنوع مجال اشتغالاتها وحضورها وفعلها في الثقافة والحضارة الإنسانية، مثل: (الحسن البصري، أبو جعفر المنصور، عمرو بن عبيد، سكينة بنت الحسين، الحلاج، رابعة العدوية، أوفيليا، فرجينيا وولف، الأعشى، فولتير...). كل هذه الأسماء والشخصيات تحضر ضمن مجالها الخاص، حيث تستحضر معها أفكارها وانفعالاتها ومميزاتها... فتقترن في النص القصصي بالفكرة والأحداث من أجل إبداع  وإنتاج دلالة جديدة ورؤية مختلفة عن الذي تعنيه في موضوع مختلف...

إن أغلب هذه الشخصيات الموظفة في المجموعة القصصية (نافذة على الداخل) مستوحاة من التراث الفكري والديني والسياسي والأدبي... حيث التوظيف الجديد لها يختلف عن التوظيف العادي في مجالات تفاعلها. فأبو جعفر المنصور مثلاً بوصفه الخليفة العباسي القوي الذي أرسى دعائم الدولة  العباسية في بداياتها وكان شديد الحرص على اختيار مساعديه ومعاونيه في الدولة، وكان يشك في كل شيء وفي كل شخص يراه ويسمعه، ويدرك ببديهته وحدسه القوي أنه طمَّاع أو منافق أو صاحب مصلحة... وأما سكينة بنت الحسين التي عرفت في التاريخ بحكمتها وقدرتها على معرفة الناس، وهي ابنة حفيد رسول الله ... والشيء نفسه عند الحلاج المتصوف الشاعر المعروف في تاريخ التصوف الإسلامي، الذي اكتسب صدىً طيبًا واحترامًا عند أهل التصوف... ورابعة وأقوالها في حب الله وعشقه وأشعارها الخالدة في هذا العشق الرباني العظيم... ثم فرجينيا وولف الأديبة والكاتبة المشهورة في الأدب الغربي تقف علامة أدبية متميزة وتحرك بكتاباتها الجماد والماء الراكد من أجل إيقاظ الضمير الإنساني المغيب... والأعشى بتفوقه الشعري على العديد من شعراء عصره وبإبداعه الجميل بوصفه من الطبقة الأولى في الشعر، وبخلوده في سماء الشعر العربي... كل هذه الشخصيات التراثية أسهمت بحضورها في نصوص المجموعة لتضخ دماء لغوية جديدة في الكتابة القصصية للأستاذ بوزفور.

حضور النص الصوفي:

يشكل التراث الصوفي العربي، سواء كان شعرًا أم نثرًا، حقلاً معرفيًّا غنيًّا بالأفكار والمواقف والآراء في أدبنا العربي الحديث والمعاصر، ومجالاً غنيًّا للاقتباس والمحاكاة والنقل عنه، والأستاذ أحمد بوزفور واحد من المبدعين الذين ينهلون من هذا الزخم الثقافي الكبير، فنجده في بعض نصوصه يستحضره ويقتبس منه مقولات لبعض المتصوفة في مثل قول الحسن البصري الذي جاء في قصة المكتبة:

«لا أعرف يقينًا أشبه بالشك ولا شكًّا أشبه باليقين من الموت»، يقول الحسن البصري في أحد تناسخات الكتاب3.

في هذه المقولة لا تأتي الدلالة منها أن الكاتب يريد فيها أن يجعل اليقين هو الموت، وإنما يقصد منها أن كتاب (المكتبة) هو أفضل كتاب يعبر عن هذه المقولة، بحيث عمل على تحويل دلالة مقولة البصري إلى مقولة جديدة لها دلالة مختلفة تستحضر ألفاظ المقولة الأولى بينما تعني شيئاً آخر مخالف لمعنى الأولى، مع تغيير لفظة/ كلمة واحدة فقط، يقول الأستاذ بوزفور:

«أما أنا فلم أعرف يقينًا أشبه بالشك ولا شكًّا أشبه باليقين من هذا الكتاب» 4.

استدعاء النص الشعري:

يحضر الشعر، بوصفه الجنس الأدبي الأكثر قراءة عند أغلب الكتاب والمبدعين، في نصوص المجموعة، فيتفاعل مع المتن السردي في إطار إنتاج الدلالة والمعنى، وينفتح النص القصصي على الشعري، ضمن رؤية إبداعية مختلفة، فيتم استحضار أبيات شعرية تخدم السياق والمعنى ولا تقوم إلا بتكسير تلك السيرورة السردية المتوالية، لتحقق نظامًا قصصيًّا مختلفًا عن الأنظمة القصصية والسردية الكلاسيكية، حيث السرد المتواصل الممل.

يستحضر القاص نصًّا شعريًّا للشاعر قيس بن الملوح، يقول فيه:

فأصبحتُ منْ ليلى الغداةَ كقابضٍ

                           على الماءِ خانتْهُ فروجُ الأصابعِ

هذا التفاعل النصي الجميل يمنح المتلقي إمكانية إعادة التفكير في قراءة التراث الشعري وتذوقه، مما يجعل من القارئ والمبدع معًا يعيدان استثمار التراث وذاكرته الغنية بمنطق جديد ومختلف، وهذا الأمر يسهم في إعادة بناء الشكل في القصة الجديدة وتنويع مضمونها باستحضار النصوص التراثية...

إن استحضار النص الشعري في قصص الأستاذ بوزفور لم يكن من أجل الترف الإبداعي أو من أجل تسجيل نقطة في مجال التجريب في هذا الجنس الأدبي، وإنما كان استحضاره مخططاً له في عملية مباشرة الكتابة كما يظهر من بداية كل قصة تتناص مع النص الشعري، حيث يتجلى الحديث عن الموسيقى والشعر والأدب، فيرتقي الكلام إلى مستوى الشعرية دون النمطية في الكتابة القصصية.

ومن الشعراء العرب الكبار الذين تركوا بصماتهم في شعرنا العربي نجد الأعشى باعتباره مدرسة شعرية استمرت عبر الزمن إلى يوم الناس هذا، حيث يستحضر القاص له بيتًا شعريًّا جميلاً، يقول فيه:

وكأْسٍ شربْتُ على لذَّةٍ      وأخْرى تداويْتُ منْها بها

هنا يتناص النص القصصي مع الشعري ليدل على شيء واحد وهو شرب كأس خمر على لذة، لكن الفرق الوحيد بين الأول والثاني هو أن القاص قد شرب كأسه في خياله فقط وليس حقيقة (وكأسٍ شربتها في خيالي وأنا أقرأ بيت الأعشى)، أما الثاني فقد يشرب حقيقة كأسه ليساعده على الشفاء من حبه لمحبوبته...

أو باستدعاء بيت شعري للشاعر قيس بن ذريح يقصد به الدلالة على الشفاء والبلاء والهم، فيتناص النص الشعري مع القصصي في هذه الدلالة المعنية بالحزن والألم يقول:

«قلْ ضُربتُ به... بُلِيتُ به... شُقِيتُ به

أقضِّي نهارِي بالحديثِ وبالمُنى

                                     ويجمعُنِي والهمَّ بالليْلِ جامعُ»5 

استحضار المثل الشعبي:

يساهم المثل في إغناء النص السردي، فيصير جزءًا منه يغني دلالته ويوسعها ويقويها، ويكون توظيف المثل في النص القصصي في مجموعة (نافذة على الداخل) بطريقة عفوية لا تحتاج إلى جهد كبير من أجل إيجاد صيغة معينة لتوظيفه أو لتغيير ألفاظه حسب السياق... فالمثل العربي، والمغربي على الخصوص، له مقولات محددة في الثقافة الشعبية التي تتميز بثراء الحكي، ومن ثم فإنه لا يصعب على القاص أن يستمد من هذه الثقافة الغنية بعض أنماطها الإبداعية لتوظيفها في نصوصه القصصية.

فتوظيف المثل الشعبي والأقوال المأثورة يأتي لشرح قول معين أو للزيادة في توسيع المعنى، أو لتقوية الكلام بالاستشهادات التي تدفع القارئ للعمل أكثر على تحليل النص بطرق مختلفة جديدة. فمثلاً هذا المثل أو القول المأثور الذي يقول: «ما عدَّكْشْ ما خَصَّكْشْ»، هو تفسير لكلام سابق عليه في النص، وآخر لاحق. حيث يقول القاص قبل المثل: «نشرت على الأرض أوراق اللعب، وبدأت تتفقد صورها بأصابعها المحناة»6، فالمرأة الشوافة التي قصدها كانت تحاول قراءة مستقبله وحياته فاختصرتها بهذا القول المأثور لتدل على فقره وحاجته وخصاصته. بينما الكلام اللاحق على المثَل فيقول فيه: «هذه هي النتيجة المختصرة لقراءتها في (مكتوبي): يمكن ما عديشْ، لكنْ خاصْنِي شِي حاجَة» 7، هنا تختلف الدلالة المقصودة من المثل، حيث إنه لم تكن دلالته مطابقة للقول اللاحق إلا في الجزء الأول (ما عدَّكْشْ)، أما الجزء الثاني فإنه يختلف عنه في القصد والدلالة، بمعنى أنه إذا كان لا يحتكم على شيء وليس عنده أي شيء، فلا يعني أنه لا يحتاج لشيء بل هو في حاجة إلى المال وإلى ما يقيه الفاقة والحاجة والفقر...

إن (نافذة على الداخل) تفجر في مساحات بلا تخوم لكنها تصطدم في النهاية بمرافئ المفارقة والسخرية من موقف إلى آخر فتبحث عن موطئ قدم داخل حقل الكتابة الملغوم أمر يميز  الكتابة والكاتب معها هو كون النصوص تحتفل بملامح شخوص يتقاسم معه سارد  المجموعة أشياء كثيرة  وتجمع بينهما أوجاع موحدة ومتعددة.

 

 

 

 

الهوامش:

1 - محمد الأمين ولد أحمد عبد الله، (التناص مفهومه ومعناه)، عن موقع ألف لام، بتاريخ: 7/7/2011،

http://www.aleflam.net/index.php?option=com_content&view=article&id=664:2011-07-07-01-07-39&catid=62:2010-01-18-14-55-43&Itemid=102

2  - المرجع نفسه.

3 - أحمد بوزفور، نافذة على الداخل، قصص، منشورات طارق، الدار البيضاء، 2014، ص. 8.

4 - المصدر نفسه، ص. 8.

5 - نفسه، ص. 62.

6 - نفسه، ص. 55.

7 - نفسه، ص. 55.


عدد القراء: 6300

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-