«تين بكتو» في التراث الإسلامي الإفريقي الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-06-16 02:26:33

د. أشرف فؤاد عثمان أدهم

باحث في الحضارة الأفريقية ومقارنة الأديان

مقدمة

تمبكتو مدينة في مالي، وهي من أهم العواصم الإسلامية في غرب أفريقيا. سُميت قديمًا "تنبكت"، وتلقب "بجوهرة الصحراء المتربعة على الرمال"، وهي بوابة بين شمال أفريقيا وغرب أفريقيا، وملتقى القوافل البرية للقادمين من النيجر وليبيا، وكذلك "تجار الملح" القادمين من تودني(1)، أنجبت العديد من الفقهاء والعلماء، وازدهرت فيها الحركة الثقافية، وتعاقب عليها الغزاة وآخرهم الفرنسيون, الذي قاومته قبائل المنطقة بقيادة "محمد علي الأنصاري".

واحة تمبكتو هي حاضنة الإسلام في الصحراء الكبرى ومنارة للعلم فيها ومجمع العلماء وهي من أشهر المدن في غرب أفريقيا خاصة منذ القرن الثالث عشر، وسكانها جميعهم مسلمون وأشهر القبائل التي تقطن المنطقة هم "قبيلة الأنصار", التي ظهر فيها "محمد علي الأنصاري" والذي اغتيل في عام 1897، و"قبيلة السنغاي"(2) ذات الأغلبية السكانية, وكذلك القبائل المتفرعة من "الأشراف الأدارسة"(3) الذين أشتروا منطقة شمال النهر من أحد ملوك مالي السابقين وبعض القبائل ذات الأصول العربية "الطوارق والبرابيش وغيرهم".(4)، (5)

أصل التسمية

يجمع المؤرخون على أن معنى كلمة تمبكتو هي حافظة الأمانات وهو مأخوذ من اسم امرأة من الطوارق(6) اسمها (تن بكتاون) أي حافظة الأمانات، كانت تقطن في الموقع الذي تأسست عليه المدينة فيما بعد, وكانت هذه المرأة تحفظ للسكان الرحل الأمانات والودائع والأمتعة فاشتهر بها المكان وغلبت التسمية على المدينة بعد ذلك. وإذا كان الطوارق قد سموا تمبكتو بهذا الاسم لارتباطها عندهم بالعجوز بكتو حافظة الأمانات، فإن القواميس الإنكليزية تفسر هذه التسمية بأنها المكان القصي الذي لم تطأه قدم البشر ولم يدركه بصر(7), (8).

الموقع ومميزات المدينة  

 تقع المدينة على نهر النيجر, وكانت تتميز بأشجار السافانا التي اختفت جراء التصحر اليوم، فهي لا تنبت فيها الأعشاب نظرًا لانعدام الأمطار، كما تميزت المدينة برحلات الركوب على الجمل والتي كانت تعتبر من الرحلات الشاعرية الرائعة التي تتميز بها تمكبتو, وما يميز تمبكتو بيوتها الطّينيّة التي شُيّدت من الرّمال المجبولة من المحيط الصحراوي الذي تتواجد فيه، وقد «صُنّفت مساجد الطّين في تمبكتو كإحدى معالم التراث الإنساني التي يجب الحفاظ عليها». إنّ درجات الحرارة في تمبكتو مرتفعة جدًّا، ممّا يعيق حركة المسافرين والسائحين، لذا تعتبر فترة ما بين أول ديسمبر وحتى نهاية يناير هي الفترة الأمثل لزيارة المدينة, حيث لا تتعدى درجة الحرارة العظمى 28 درجة مئوية.

وقد سلبت تمبكتو ألباب الرحالة الأوروبيين، كما أكدت ذلك الروايات التاريخية، لفترات طويلة حتى أن منهم من ضل الطريق إليها، ومنهم من أسعفه الحظ في الوصول إليها واستكشافها، وقرر البعض المكوث بين أهلها (9), (10).

السكان

تقطن مدينة تمبكتو قبائل زنجية ذات أصول متعددة وقبائل وبطون عربية قدمت إليها عبر هجرات متعددة الوجهات مقبلة من الجزائر وموريتانيا والمغرب تحديدًا, وأيضًا من القبائل العربية المهجرة من الأندلس، ومن سكان المدينة الطوارق, وهم أيضًا قبائل عدة. وبالنظر للتلاقح الحضاري، فقد «انصهرت في تمبكتو أعراق كثيرة» فأصبح سكانها مزيجًا بين العرب والأمازيغ والطوارق وقبائل السنغاي والفلان والبمبره, و«يتعايش الجميع على أرضها تمامًا كما تتعايش فيها رمال الصحراء وإبلها وحرها وقحولتها مع مياه نهر النيجر وعذوبتها والخضرة المحيطة بها والزوارق التي تمخرها كل يوم», وينشط سكان المدينة بنظام غريب, "فللعرب نشاط التجارة"، و"للطوارق" الترحال والرعي وتربية المواشي، و"للسنغاي" النهر والصيد والأسماك والزوارق ونقل المسافرين عبر النهر (11).

التطور والحضارة فى تمبكتو

كان القرن السادس عشر هو الذي بلغت فيه الحضارة الإسلامية أوجها في السودان الغربي وذلك عبر تطورات متلاحقة معتمدة على عنصرين أساسيين هما «التجارة والتعليم», وكانت المظاهر الحضارية في السودان الغربي تزداد ازدهارًا في كل حقبة على مستوى المدن التي تتلاءم مواقعها مع توارد قوافل الشمال عليها في الدرجة الأولى، وهو ما جعل من المدينة محطة القوافل الأولى في جميع بلاد السودان، فسكنها كثير من التجار «وقصدها جمع غفير من العلماء والطلاب، مما حولها إلى عاصمة للعلم والثقافة والتجارة في السودان الغربي الأفريقي كله(12)». و«وصفت مدينة تمبكتو في تلك الحقبة بأم مدائن السودانيين سواء في العلم والحضارة أو في العمران والتجارة»(13).

وخلال القرن السادس عشر, أصبح سكان تمبكتو، يزيدون على خمسة وثلاثين ألف ساكن، وربما لم تعد تفوقها آنذاك في كثرة السكان أي مدينة سودانية أخرى في غرب أفريقيا، غير مدينة غاوة "تقع شمال شرق مالي, وهى العاصمة السياسية للإمبراطورية السنغاوية" التي كانت تمبكتو آنذاك إحدى مدنها الكبرى.

وفي تلك الأثناء أصبحت تمبكتو العاصمة الثانية للإمبراطورية في ميداني الاقتصاد والثقافة معًا، حيث انتظمت شوارعها، وأحيطت بسور واق ومؤمن، أما المنازل فقد ازدانت نسبة كبيرة من مبانيها بواجهات في شكل زرائب أو حدائق صغيرة تربطها إلى حيطان البيوت سياجات, وقد احتوت في تلك الأثناء على ثلاثة مساجد كبيرة ما لم يتهيأ لغيرها من كبريات مدن السودان الغربي آنذاك وأخذت أسواقها طابعها الإسلامي، وشهدت تواردًا نشطًا للقوافل الكبيرة عليها ما زاد حركة التبادل.

وإذا كان القرن السادس عشر قد شهد نشاطًا كبيرًا لعلاقات تمبكتو التجارية مع بلدان المغرب ومصر، فإن ذلك القرن هو الذي أصبحت خلاله تلك المدينة أيضًا «مركزًا هامًا من مراكز الإنتاج الثقافي» ضمن ميدان الحضارة الإسلامية الفسيح. وهكذا لم يقتصر دور مدينة تمبكتو على مجرد التبادل مع جزء من العالم الإسلامي، وإنما تجاوز ذلك إلى «استيعاب ما أنتجه العالم الإسلامي ككل، والمشاركة في تنميته ونشره بين أمم السودان الغربي وشعوبه»(14).

عرفت تمبكتو، حسب المصادر التاريخية، خلال القرن السادس عشر نشاطًا كبيرًا لحركة التدريس، وقد ضمت مدارسها العديد من الطلاب والأساتذة, كما شهدت المدينة لأول مرة في تاريخ السودان الغربي اتساع التعليم الجامعي وتوارد عليها في تلك الأثناء عدد من علماء من بلدان المغرب الذين ساهموا في تنشيط التعليم وتعميقه, وفي تلك الفترة بدأ العلماء السودانيون في الإنتاج فكتبوا شروحًا لعدد من المؤلفات الهامة التي ألفت خارج السودان, وانقسم التعليم في تمبكتو خلال القرن السادس عشر إلى مراحل ابتدائية وثانوية وعليا.

ويقسم العلماء المدرسون أوقاتهم خلال النهار فيقدمون مثلاً في الصباح دروسًا لطلاب في المستوى الثانوي، ثم يجلسون بعد الظهر لطلاب المرحلة العليا أو العكس، ومن هنا يبدو الانتظام في المراحل التي يمر بها الطالب من حيث التدرج في مستويات التعليم بين المراحل ووجود منهج لكل مرحلة.

«وكانت أمكنة التدريس الأساسية هي المساجد والجوامع», وكان من أشهرها وأكثرها اكتظاظًا بجموع الطلبة والمدرسين خلال القرن السادس عشر جامع سنكرى الواقع في القسم الشمالي من مدينة تمبكتو, وقد بنته سيدة فاضلة ورد في الروايات أنها كانت من الموسرات، ثم جامع دنفريير, وكان قد بناه في الأصل لكانكان موسى سلطان مالي وهو من أهم زعماء إمبراطورية مالي، ثم ادخلت عليه تحسينات ووسعت مساحته مرتين خلال القرن السادس عشر وذلك ليتسع لجموع قاصديه من الطلبة والمصلين, ويبدو أن تكاثر الازدحام عليه هو الذي كان يدعو باستمرار إلى العمل على توسيعه, ويأتي بعد هذين مسجد سيدي يحيى وقد بني تخليدًا لأحد علماء المغرب الذين باشروا التعليم في تمبكتو خلال النصف الأول من القرن السادس عشر.

أوقاف وإعانات

يبدو أن «الأوقاف والصدقات كانت العامل التمويلي الهام في ازدهار حركة التعليم في تمبكتو خلال القرن السادس عشر»؛ فمعظم المصاحف والمخطوطات التي بقيت من تلك الفترة تحمل في طياتها ذكرًا بتوقيفها على الجوامع من طرف أشخاص كانوا يبتغون من وراء ذلك وجه الله؛ كما كان تعيين الأئمة والمدرسين وترتيب الجرايات «التغذية» لهم يتولاه القاضي وهو ينفق على ذلك من الأوقاف والصدقات التي كان يتلقاها بسخاء كبير من المحسنين(15).

كنوز الكتب و المخطوطات

تختزن مخطوطات تبمكتو حقبًا طويلة من تاريخ غرب أفريقيا، ومن علاقة المنطقة بالعالم العربي والإسلامي، وتكشف أن المدينة أنجبت علماء كتبوا في الفقه والعلوم الشرعية والفلسفة والعلوم والفيزياء والكيمياء والطب وعلم الفلك والأدب واللغة والتاريخ, ونشطت تجارة الكتب والمخطوطات وأدوات العلم في المدينة، خصوصًا في أوج عهدها الزاهر في القرن الـ16 الميلادي، حيث كانت ملتقى للعلماء والطلبة من عدة أمصار, وتقول بعض الروايات إنها آوت في فترة من الفترات نحو 25 ألف طالب علم يمولون كلهم من خزائن الأوقاف الإسلامية، وهو عدد كبير في ذلك الزمان، كما أنها كانت تحتضن ثلاث جامعات كبيرة ونحو 180 مدرسة قرآنية.

وأثارت مخطوطاتها بما تحويه من كنوز تاريخية اهتمام "مكتبة الكونغرس الأمريكي" و"جامعة هارفرد"، فنسخت منها الكثير، كما تأسست مراكز للبحث فيها وحفظها، وتعالت أصوات لصونها من التلف والاندثار والغزو, فتلك الكنوز من المخطوطات تختزن قرونًا من تاريخ غربي أفريقيا، ومن علاقة هذه المنطقة بالعالم العربي والإسلامي، وتكشف أن تمبكتو أنجبت علماء وآوت آخرين ألفوا وكتبوا في كل شيء، من الفقه والعلوم الشرعية إلى الفلسفة والعلوم والفيزياء والكيمياء إلى الطب وعلم الفلك والأدب واللغة والتاريخ… إلخ, ففي مكتبات تمبكتو يقبع نحو 700 ألف من المخطوطات المهددة بالاندثار، تقرضها الحشرات وتزحف عليها عوادي الزمن، وفي عام 1970 شكلت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة يونيسكو «هيئة للحفاظ على مخطوطات هذه المدينة، التي أدخلتها المنظمة في قائمة التراث الإنساني»(16), (17).

وقد أتى عنف الأصوليين في مالي على الأخضر واليابس، أينما مروا أشعلوا النيران في المكتبات ونبشوا الأضرحة وهدموا الآثار، وكان أهمها "معهد أحمد بابا للتعليم العالي والبحوث الإسلامية" الذي يضم بين دفتيه آلاف المخطوطات الإسلامية والأفريقية النادرة, ويقع "معهد أحمد بابا" المسمى باسم شخصية العلامة أحمد بابا التنبوكتي الذي نشأ في القرن السادس عشر، شمالي مالي على حدود الصحراء الكبرى بمدينة تمبكتو مدينة العلم والعلماء في العصور القديمة، وتزخر بعدد كبير من المخطوطات التي حافظ عليها أهلها منذ قرون توارثتها الأجيال.

ويعد "معهد أحمد بابا" أحد أهم المكتبات الثمانين في تمبكتو من بينها "مكتبة ماما حيدارة" و"مكتبة محمود كاتي"، وتحتوي جميعها على وثائق أثرية يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر ميلادي. أكثر من 100 ألف مخطوطة، كانت محفوظة مثل كنز نادر في "معهد أحمد بابا" في سراديب تحت الأرض، حتى لا تتآكل بفعل التراب والشمس(19).

المساجد في تمبكتو

تضم مدينة تُمبكْتُو مجموعة من المساجد العريقة التي ظلت على مدى قرون مراكز تعليمية إسلامية كبرى ومراكز تربوية مهمة, وأشهرها جامع تمبكتو الكبير الذي يعد من أقدم وأكبر مساجد المدينة التاريخية في غربي أفريقيا, وقد بني الجامع الكبير بصورة متواضعة تتناسب مع حجم سكان المدينة في تلك الفترة, وقد جدد بناءه السلطان المالي الحاج منسا موسى سنة (1332م)، وكان قد بنى صومعته بعد عودته من الحج سنة (1324م) وهو الوقت الذي ضم فيه مدينة تمبكتو إلى مملكته, وقد ظل هذا المسجد موضع عناية كثير من السلاطين والحكام الذين تعاقبوا على حكم مدينة تمبكتو, فقد مر بعدة إصلاحات من حسن إلى أحسن، كما عرف ترميمات وتَوْسِعات تقتضيها الظروف وزيادة السكان والثروات المتوافرة وتطور العمران, ويشتمل المسجد من الداخل على خمسة وعشرين صفًا من العمد، تمتد من شمالية إلى جنوبية، وعلى ثمانية صفوف ممتدة من الشرق إلى الغرب, وقد شُيدت أهم أجزاء المسجد بالحجر كالعقود، وشُيد الجانب الغربي والمحراب وبعض أجزاء الكساء الخارجي والسقف من الخشب المتين، وللمسجد صحنان، أحدهما واسع والآخر صغير متصل بالمئذنة، ويعتبر هذا المسجد الجامع من المعالم الأثرية البارزة لمدينة تمبكتو الإسلامية التاريخية.

وتضم أيضًا مسجد سَنكُري وهو حي من أحياء المدينة، كما تضم مسجد سيدي يحيى التادلسي, وكانت هذه المساجد الثلاثة بصفة خاصة معاهد تعليمية كبرى ومراكز ثقافية وتربوية مهمة، فكانت المرحلة العليا من التعليم فيها تشبه ما كان في الأزهر قديمًا وما هو كائن اليوم، إذ إن حلقات الدراسة ما زالت تُعقد في الجامع الأزهر وينتظم فيها طلاب معهد الدراسات الإسلامية الذين يُمنحون شهادة الإجازة العالية «الليسانس» تمامًا كزملائهم الذين يتخرجون في كليات جامعة الأزهر الحديثة المختلفة (19), (20).

أضرحة وترميم

حرمت تمبكتو خلال احتلالها من قبل تنظيم «القاعدة في المغرب الإسلامي» بين (أبريل/نيسان 2012 ويناير/كانون الثاني 2013) من جزء كبير من تراثها الثقافي وعدد من الأضرحة التي دمرتها الحركة, وتستعدّ مدينة الـ 333 ولي صالح (باماكو حاليًا)، بفضل مشروع كبير مموّل من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونيسكو» لاستعادة ملامحها القديمة، من خلال إعادة ترميم تراثها المدمر، حيث «قام المخرّبون من تنظيم القاعدة، خلال فترة احتلالهم للمدينة، بتدمير 14 من بين 16 ضريحًا للأولياء الصالحين» في المدينة التي أدرجت  من قبل اليونيسكو عام 1990 ضمن لائحة التراث العالمي للإنسانية, وتحمل الأضرحة رمزية كبرى في تمبكتو, ويزورها السكان أيام الاثنين والخميس والجمعة من كل أسبوع, ويعتريهم حماس كبير حيال عملية إعادة ترميم الأضرحة وإعادة فتح أبوابها أمام الزوار بالاشتراك مع الأجهزة العاملة في هذا الشأن من جانب الأمم المتحدة(21).

ونظرًا للأهمية البالغة للمساجد في "تمبكتو بدولة مالي" سنعرض بعض المساجد ذات الأثر التاريخي:

1 - مسجد جينيه الكبير

يقع هذا المسجد (الذى لا يماثله أي مبنى آخر على وجه الأرض) في دولة مالي بمدينة جينيه وسْمى نسبة لها, ويعد أكبر المباني المصنوعة من الطوب اللبن في العالم.

 بدأ بناء هذا المسجد في القرن الثالث عشر ولكنه هدم بعد ذلك, ثم تم إعادة بناؤه مرة أخرى عام 1907 عندما أمر مدراء المدينة الفرنسيين بإعادة بنائه مرة أخرى, وشُيدت جدران المسجد من الطوب اللبن، ومُغطاة بالطين المخلوط بالتبن, وتتميز هذه الجدران الطينية بأنها تقي الداخل من الحرارة طوال اليوم، وعندما يحل المساء والبرد تكون قد امتصت من الحرارة ما يكفي لتدفئته.

تمثل مدينة جينيه مركزًا مهما للأعمال التجارية, وتتفوق في الهندسة المعمارية والأحجار الكريمة, والمدينة مسجلة على قائمة التراث الثقافي العالمي لليونسكو, وتطلّ المدينة على نهر النيجر، وتبعد عن المدينة الأثرية تمبكتو بحوالي 400 كلم, و«شارك في تأسيسها وبنائها العربُ والطوارق والأفارقة حين كانت منارةً للعلم، ومركزًا لنشر الإسلام في غرب أفريقيا ووسطها».

أخذت مساجد مالي هيئتها من تراث القوم وأصولهم وفطرتهم، فكانت دليلاً على «العمارة الإسلامية الأفريقية العريقة»، وظلّ مسجد جينيه الطيني العظيم رمزًا شامخًا على روعة الفنّ البدائي الخالي من التعقيد، والذي «يعتبر أكبر مبنى طيني في العالم». وقد تكرّر ذكر مدينة جينيه ومسجدها الطيني في كتب الرحالة والجغرافيين. فالمؤرّخ الأفريقي عبدالرحمن السعدي، صاحب كتاب "تاريخ السودان"، والذي عمل إمامًا لمسجد جينيه الكبير في النصف الأوّل من القرن السابع عشر، وكان من مواليد مدينة تمبكتو، وقد أشار إلى دور المسجد الطيني العظيم الذي يؤمّه الأفارقة لتلقّي العلم وحفظ القرآن الكريم.

وتثير عمارة المسجد الدهشة والانبهار، فالطين هو المادة الإنشائية الأساسية لهذا المسجد، ولأنّ مادّة الطين ضعيفة وعرضة للتآكل والتأثّر بالأحوال الجوّية وتقلّباتها، فقد فرض استخدام الطين بوصفة مادّة البناء الرئيسة في استحداث المقوّمات المشكِّلة لعمارته، مثل اللجوء لفكرة الأكتاف (والأكتاف دعائم بارزة مهمتها إكساب الهيكل البنائي مزيدًا من المتانة والرسوخ والاستقرار), كما تساعد هذه الأكتاف التي تظهر على شكل نتوءات في جدران المسجد العمّال والسكّانَ في إنجاز عمليّات الترميم المتلاحقة سنويًا، كما تمنح جدار المسجد الخارجي منظرًا جماليًا فريدًا خاصّة مع ظلال الشمس.

وينهض المسجد على منصّة ترفع أرضيته إلى منسوب أعلى من مستوى الأرض الطبيعية لحمايته من فيضان النهر المجاور, وتُغَطَّى الجدران المشيّدة بالطوب اللبِن بطبقة الطين المخلوط بالتبن، ما يعطي المبنى مظهره الناعم الصقيل. وتراوح سماكة الجدران بين 16 و24 بوصة، تبعًا لارتفاع الجدار نفسه, فكلما ارتفع الحائط قلَّت سماكته، حتى يتسنّى لأساسه حمل ثقله. وميزة الجدران الطينية أنّها تقي الداخل من الحرارة نهارًا، ومع المساء تكون الجدران قد امتصّت من الحرارة ما يكفي لتدفئته حين يبرد الجو.

للمسجد 3 مآذن بارتفاع عشرة أمتار للمئذنة، وهي مآذن مربّعة تستند إلى 18 دعامة، كلّ منها ينتهي بالمخروط التقليدي الذي يحمل بيضة نعامة, وللمبنى فِناء يعادل مساحة المصلّى الذي يستند إلى 90 عمودًا من الخشب وتتخلّل سقفه نوافذ تفتح إذا ارتفعت درجة الحرارة, ويقع مدخل المسجد الرئيس في الجهة الشمالية بالإضافة إلى المداخل الثانوية الأخرى المنتشرة في جميع الجهات عدا الشرقية، وهناك برجان خارجيان في الجهتين الشمالية والجنوبية، ويتّسع لأكثر من 2000 مصلٍّ.

«يعود عمر المسجد إلى أكثر من 800 عام»، وتتعدّد الروايات حول تاريخ المبنى القائم حاليًا، والذي كان يُطلق عليه قديمًا اسم "كونبورو", ووفقًا لدراسات فرنسية واسعة، واستنادًا إلى الحكايات الأسطورية الشفهية التي عُنيت بالمسجد وتاريخه، هناك من يذهب إلى أنّ المسجد تعرّض للهدم والبناء مرّات عديدة، حيث تمّ تشييده مكان المسجد الأصلي، الذي بُني في القرن 13 واسمه مسجد "تانابو"، وهو اسم حاكم مدينة "جينيه" حينذاك, وبحسب مزاعم بعض الباحثين، فإنّ المسجد كان يحتوي على مكان مخصّص للوثنيين لأداء شعائرهم(22)، لذا قام أحد حكام المدينة المدعو "أزقيا محمد" بهدمه، لأنّه أصبح مخالفًا لتعاليم الدين الإسلامي وأعاد بناء مسجد "كونبورو" على أنقاضه سنة 1500 تقريبًا.

ويقال أيضًا إنه هُدم مرّة أخرى، وأُعيد بناء المسجد تانابو عام 1600 تقريبًا. ويخالف عبدالرحمن السعدي هذه الدراسات، مؤكدًّا أن مسجد كونبورو الأصلي هو ذاته المسجد الذي عاصره بل إنه كان إمام المسجد.

علاقة سكان "جينيه" بالمسجد

تشارك الغالبية العظمى من سكّان جينيه في عملية صيانة المسجد وترميمه من آثار الأمطار والشقوق التي يحدثها تغيّر درجات الحرارة والرطوبة، وذلك عبر احتفال سنوي يقام خصيصًا لهذا الأمر, وفي الأيام التي تسبق هذا الاحتفال الشعبي، يوضع الطين والتبن في حفر كبيرة، وتُترك مهمّة خلطها للأطفال الذين يلعبون في هذه البركة الطينية الكبيرة، من دون أن يعلموا أنّهم يقومون بمهمّة كبرى, كما يُقام، ضمن فعاليات الاحتفال، سباقٌ بين أهل المدينة لحمل هذا الطين إلى المسجد، يفوز فيه الرجل الذي يتمكّن من الوصول بثقله إلى عمال الصيانة قبل غيره.

وعلى الرغم من هجوم المدنيّة على المسجد من كهرباء الإنارة ومكبّرات الصوت، وتغطية بعض جدرانه بالقرميد، فقد «قاوم الأهالي أيّ محاولة لتحديثه، لأنّ ذلك من وجهة نظرهم يمثّل مزيدًا من التجنّي على قيمته التاريخية»، وهو أمر استحسنه بشدّة دعاة صون المعالم الأثرية في مختلف أنحاء العالم، وهو ما دفع اليونسكو سنة 1988 لوضعه على لائحة التراث العالمي، كما استحقّ أن يدخل قائمة عجائب الدنيا(23).

2 - مسجد سيدي يحيى

وقد تم بناؤه في عام 1400م على يد محمد ندي, وهو الاكثر صيانة من بين مساجد تمبكتو المدرجة في قائمة التراث العالمي.

3 - مسجد جينقري

وهو أول مسجد أُسـس في تمبكتو ويمثل لؤلؤة معمارية قام ببنائه إبراهيم أبو اسحاق الساحلي عام 1325م الذي تلقى من يد الإمبراطور كانجا موسى(24) 4 آلاف مثقال من الذهب وبنى بها المسجد ويوجد به منارتان وخمسة وعشرون صفًّا من الشمال نحو الجنوب وتسعة صفوف من الشرق نحو الغرب, ويعتبر مسجد جينقري بير الذي تم انشاؤه عام 1325 من أبرز معالم مدينة

تمبكتو ويمثل تحفة فنية نادرة في أفريقيا حيث يحظى المسجد بمشروع حماية خاص بإدارة مشتركة من مركز التراث العالمي لمنظمة اليونسكو ووزارة الثقافة في مالي.

 

المراجع:

(1) تودنى منطقة نائية تعرف بمناجم الملح في الإقليم الصحراوي الواقع شمالي دولة مالي، والمعروف بأزواد، تبعد 644 كم إلى شمال تمبكت (كتاب تاريخ السودان) لعبد الرحمن السعدي, ص 320

(2) مملكة نشأت في غرب الساحل الأفريقي .امتد حكمها من 1464 إلى 1591

(3) أول قادم على المغرب، من ذرية الإمام علي بن أبي طالب، هو المولى إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تبعه بعد قرون باقي أجداد الشرفاء المغاربة.

(4) https://ar.wikipedia.org/wiki

(5) Boston University Library, West African Islam, page 42-45

(6) الطوارق هم مجموعة من القبائل التي تسكن منطقة الصحراء الكبرى في شمال إفريقيا، وتتوزّع أماكن تواجد تلك القبائل في عدّة دول عربيّة وإفريقيّة بين وسط وجنوب تلك الصحراء. يعتبر الطوارق هم السكّان الأصليّون لمنطقة غرب الصحراء الكبرى، بالإضافة إلى العديد من القبائل البربريّة الأخرى الّتي دخلت في الإسلام مع الفتوحات الإسلاميّة لتلك المناطق بقيادة عقبة بن نافع، ومنهم: طارق بن زياد القائد الإسلامي الشهير في التاريخ.

(7) http://www.alquds.co.uk//

(8) Abd Allah M, Timbuktu: The Jewel of the Desert Resists Negligence and Struggles against Time, Jul. 2016

(9) http://mawdoo3.com/

(10) http://mawdoo3.com/

(11) http://www.alquds.co.uk/

(12) السودان الغربي اسم أطلقه الأوروبيون على منطقتي نهر السنغال والنيجر، بينما أطلق اسم سودان وادي النيل على المنطقة الواقعة جنوب مصر.

(13) دوارد بوفيل، الممالك الإسلامية في غرب إفريقيا وأثرها في تجارة الذهب عبر الصحراء الكبرى، ترجمة(13) رياض زاهر، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1968، ص: 10-71

(14) http://www.alquds.co.uk/

(15)http://www.bbc.com/arabic/worldnews/2012/04/120402_timbuktu

(16)www.skynewsarabia.com/web/video/726859/ مخطوطات-تمبكتو-كنوز-يهددها-التطرف

(17) http://alexlisdept.blogspot.com.eg/2016/05/blog-post.html

(18) قدمت ألمانيا مساعدة سرية عبر دبلوماسيتها، من أجل إنقاذ مئات الآلاف من الكتب والمخطوطات القديمة المكتوبة بخط اليد وحمايتها من أن تتلف على يد المتمردين الاسلاميين في مالي عملية الإنقاذ لتهريب 200 ألف مخطوطة إلى مكان آمن قبل إحراق المكتبة في تمبكتو على أيدي المتشددين، واستعان بخبراء ألمان وتمويل ألماني أيضًا لنقل المخطوطات والكتب وعددها 4000 كتاب.

(19) عبدالرحمن السعدي, كتاب تاريخ السودان, ص320

(20) http://studentshistory13.com/archives/1591

(21) http://weziwezi.com

(22) الوثنيّة، معتقدات وممارسات تتفق على عبادة الطبيعة.  قد تتخذ الوثنية عدة أشكال، منها وحدة الوجود (الإيمان بأن الطبيعة المادية هي الإله)، تعدد الآلهة (الإيمان بأكثر من إله)، مذهب حيوية المادة (الاعتقاد بأن الأشكال المادية في العالم هي الطاقة الإلهية وعبادة الأصنام وتقديسها .

(23)https://mmeabed.blogspot.com.eg/2015/01/blog-post_777.html

(24)حاجي كانجا مانسا موسى (توفي عام 1337م), أعظم زعماء امبراطورية مالي، ومن أشهر زعماء أفريقيا والإسلام في القرون الوسطى, خلف السلطان أبو بكر الثاني عام 1312م., كان عالمًا ورعًا إلى جانب حنكته السياسية, وفي عهده ازدهرت جامعة سانكوري كمركز للعلم في أفريقيا, وقد وسع دولته لتضم مناجم الذهب في غينيا بالجنوب. في عهده صارت عاصمته تمبكتو محط القوافل التجارية عبر الصحراء بالشمال, وقد ضع الكشافة الإسبان صورته ممسكا بالذهب في قلب أفريقيا على الخريطة* !


عدد القراء: 7330

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-