عبدالرحمن رفيع .. أيقونة الشعر الخليجيالباب: وجوه

نشر بتاريخ: 2018-10-12 10:10:18

فكر - المحرر الثقافي

لم يكن الشاعر الكبير عبدالرحمن رفيع مجرد شاعر بحريني موهوب، وإنما سطع نجمه في دنيا الشعر، مقدمًا شعرًا يمتزج بلوحات كاريكاتيرية مضحكة تتعمد نقد مختلف الظواهر الاجتماعية بأسلوب سهل يسحر ألباب المتلقي. كما كان لطريقة إلقائه المسرحية المتميزة المعطوفة على لهجته البحرينية الأصيلة وقع السحر على المستمع، سواء في الأمسيات الشعرية المحلية أو في الفعاليات الثقافية الخليجية التي كان دومًا في طليعة مدعويها، بل كان نجمها المتألق.

ويعد الشاعر عبدالرحمن رفيع أشهر الشعراء البحرينيين على مستوى منطقة الخليج العربي وله مكانة مرموقة فيها، وتميز بالمزاوجة في شعره بين اللهجة العامية واللغة العربية الفصحى، ومحاكاته لواقع المجتمع الحديث مع القديم، وكان يأخذ في كثير منها الجانب الهزلي.

ولد عبد الرحمن محمد رفيع عام 1938 في المنامة، لعائلة محافظة وملتزمة دينيًا. ولهذا التحق على مدى أربع سنوات بكتّاب كانت تديره امرأة من نساء الحي (مطوعة)، حيث تعلم القراءة والكتابة والقرآن الكريم، قبل أن يلتحق بالمدارس النظامية.

الصدفة وحدها لعبت دورًا في مسيرة رفيع الأدبية، حيث أهداه أحد جيرانه العائدين من الدراسة في جامعة بيروت الأمريكية في منتصف الخمسينيات حزمة من الكتب الأدبية التراثية، كان من بينها «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني، و«العقد الفريد» لابن عبدربه وكتابي «البخلاء» و«البيان والتبيين» للجاحظ، فقرأها كلها بلهفة، الأمر الذي تفتحت معه مداركه على التراث العربي ومخزونه اللغوي والشعري الغزير. غير أن الرجل طلق التراث لاحقًا في مرحلته الثانوية وانساق نحو الاهتمام بعصر النهضة الفكرية الحديثة، وذلك بعد أن اطلع على كتاب أهداه له مدير مدرسته ومعلم اللغة العربية فيها الأستاذ جواد الجشي. ولم يكن هذا الكتاب الذي ساق شاعرنا بعد ذلك نحو الاطلاع على مسرحيات شكسبير وغيرها من روائع المسرح الغربي سوى كتاب «حديث الأربعاء» لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.

من بعد تخرجه من الثانوية ذهب رفيع إلى القاهرة في منتصف الخمسينيات لإكمال تعليمه الجامعي، لكن كان عليه قبل ذلك الحصول على شهادة التوجيهية التي نالها من «المدرسة السعيدية» بتفوق لافت بدليل حصوله على نسبة 85 بالمائة. في تلك المدرسة العريقة زامل رفيع الشاعر الدكتور غازي القصيبي، وتوطدت بينهما عرى الصداقة التي كان عاملها المشترك ليس قدومهما من بلد واحد فقط وإنما أيضًا شغفهما بالأدب والشعر وكتابة القصص القصيرة. ومن هذه المدرسة انطلقا ملتحقين بجامعة القاهرة لدراسة الحقوق.

ويجمع كثيرون أن رفيع هو عبدالرؤوف الذي وصفه القصيبي في روايته «شقة الحرية» (ص 72 ـ 78) بالطالب الخجول ذي الإمكانيات المادية المتواضعة إلى درجة أنه كان يعيش بأربعة جنيهات في الشهر (جنيه لإيجار الغرفة والباقي للأكل ولا شيء للمواصلات لأنه كان يذهب إلى المدرسة ويعود منها ماشيًا)، بل إلى درجة أنه كان يملك بدلة واحدة (من غير كرافتة)، ولا يملك ساعة إلى أن أهداه القصيبي ساعته الاحتياطية من نوع «ميدو».

ويقال إن رفيع، بسبب نشأته الدينية الأولى، كاد أن ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين. وإذا ما صدقنا أنه هو عبدالرؤوف المذكور في رواية «شقة الحرية» فإن الأدلة على ذلك كثيرة. ففي سنوات دراسته في القاهرة كان صريحًا - طبقًا للسرد الروائي للدكتور غازي القصيبي- في معاداته للاشتراكية وكل ما عداها من الأفكار والتيارات والأيديولوجيات السياسية التي كانت تموج بها الساحة المصرية في تلك الأيام ما عدا الأفكار الإخوانية. وآية ذلك أن عبدالرؤوف دخل في نقاش مع فؤاد الطارف (يعتقد أنه غازي القصيبي نفسه) حول الاشتراكية فما كان من الأول أن قال للثاني: «لا أؤمن بالاشتراكية لأني أؤمن بالإسلام». وحينما رد عليه فؤاد متسائلاً: «ما علاقة هذا بذلك؟ الإسلام دين والاشتراكية مذهب اقتصادي» كانت إجابة عبدالرؤوف هي: «الإسلام منهج متكامل. رؤية شاملة تنظم كل شيء. شؤون الاقتصاد وشؤون السياسة والسلوك الشخصي والعبادات. لا يمكن أن تنتقي من هنا وهناك مبادئ ونظريات. إما أن تكون مسلمًا أو تكون اشتراكيًا». (شقة الحرية ص104 وص105). أما حينما سأله فؤاد «هل تتعاطف مع الإخوان المسلمين»، فقد احمّر وجهه ولم يجب (ص 105).

وتتكرر مثل هذه الحوارات بين الرجلين في الصفحات 284 ـ 289 بل تتطور إلى حد اتهام عبدالرؤوف لفؤاد بأنه مخدر بدعاية جمال عبدالناصر وأن مصر ليست بلدًا مسلمًا، وأن نظامه الناصري يحارب الإسلام، الأمر الذي يرد عليه فؤاد بالقول: «وأنت مخدر بدعاية حسن البنا... وكلامك رجعي».

على أنه لا يوجد ما يثبت أن رفيع انضم رسميًا إلى تنظيم الإخوان المسلمين بدافع من التزامه الديني، مثلما لا يوجد ما يدلل على التحاقه بحزب البعث أو حركة القوميين العرب من خلال زمالته لغازي القصيبي وشركاء الأخير الثلاث في «شقة الحرية»، يعقوب وعبدالكريم وقاسم، الذين كانت تتجاذبهم التيارات السياسية المختلفة أثناء دراستهم في مصر. وفي اعتقادي أن ما مر به رفيع في تلك الفترة لم يكن سوى مراهقة سياسية شبيهة بما مر به غازي القصيبي في الفترة نفسها من انحياز للناصرية تارة وتعلق بالبعث تارة أخرى ونفور من الاثنين إلى حركة القوميين العرب تارة ثالثة.

قلنا إن علاقة صداقة قوية نشأت بين رفيع والقصيبي، لكنها لم تنشأ في القاهرة كما قد يعتقد البعض وإنما نشأت ابتداء في البحرين في خمسينيات القرن الماضي عندما كان القصيبي مقيمًا مع أسرته في المنامة وكان الرجلان زميلين في المدرسة الثانوية. وقد استمرت هذه العلاقة حتى وفاة القصيبي الذي رثاه الشاعر بقصيدة جاء فيها:

سأكتب عنه اليوم كي أظهر الفضلا

                                     ومن ذا الذي في فضله يدعي الجهلا

سأكتب عن غازي فتى الشعر هـائمًا

                                     بحب  (أوال)  ينشد  الـبـحـر  والنخلا

سـتـبقى  على  ثـغـر  الزمــان   روايــــة

                                     وتبلى  اللـيالي الـفـانـيات ولا  تـبلى

والمعروف أن رفيع كثيرًا ما تحدث في أمسياته الشعرية ومقابلاته التلفزيونية والصحفية عن تلك العلاقة مع غازي القصيبي، عارجًا على ما كان بينهما من مساجلات شعرية وطرائف أثناء زمالتهما في الثانوية السعيدية ثم في جامعة القاهرة. من هذه الطرائف قوله في أمسية أقيمت في صالون عبدالمقصود خوجة بجدة: «في أوائل أيام التحاقنا أقبلت فتاتان وجلستا أمامنا، فتساءلتُ لماذا اختارت هاتان البنتان هذا المكان؟ وكانت إحداهما كالحصان والأخرى صديقتها.. وكان غازي يكتب ما يعن له من الأبيات الشعرية خلال إلقاء الدكتور المحاضرة، ثم يعطيني إياها لقراءتها، وأقوم أنا بعد ذلك بالرد عليه. ومن تلك المحاورات هذه المقطوعات. كتب غازي:

                           إيـه  يا تافــهـــة  مــغـــــرورة

                                                أي  شَيْءٍ فيك يَدْعُو للغرورِ

                           أَتُراه  الْوجـه  إذ  غـطـيته

                                                 بدثــار من  صباغٍ  وعـطــورِ

                           أم   تراهُ  الشَعر يا آنستي

                                                إذ جعلتِ  منه أذناب  الحميرِ

فرددتُ عليه:

                           تلكَ حسناءُ على أهدابِها

                                              يرقصُ الشوقُ  وإعلاءُ  الصُقورِ

                          تركَتْ عقلك يهذي عندما

                                               تتراءى مثل شَـمـسٍ في بدورِ

                           أنت مهما قُلتَ في تقبيحها

                                                إنها  تـسْـطَع  كالـبدر المـنـيـرِ

وفي سياق ما كان بين الشاعرين الصديقين، لا بد أن نعرج أيضًا على قصيدة كتبها رفيع في عام 2003 للقصيبي، مهنئًا إياه بتعيينه وزيرًا للكهرباء والمياه في المملكة العربية السعودية. من أبياتها:

         وزير  المــاء  عشت  أبا ســهـيل

                                           كي تروي  لنا  القـفر  الفقيــرا

         أراني  لست  أدري  هل أهني

                                           أم أني أسكب الدمـع الـغـزيـرا

         أو يجدي  البكاء  على  عذاري

                                           ويرجــع  ماؤهـا  عـذبًا  نمـيـرا

         ولم يبقَ  بجوف  الأرض  ماء

                                           لكي  تمسي على مـاء وزيـرا

كتب الشاعر عبدالرحمن رفيع بالعربية والعامية ومال في بعض الأحيان إلى الشعر الساخر والهجائي وكانت له مكانته ودوره في إحياء الحركة الشعرية في البحرين.

واشتهرت قصائده على مستوى منطقة الخليج لما تتسم به مفرداته من البساطة والمباشرة ومن اشهرها قصائده «تذكرين» وقصيدة «سوالف أمي العودة» وغيرها من القصائد ليمتلك خلال الفترة الطويلة في خدمة المجال الأدبي والشعري قاعدة واسعة من الجمهور على المستوى الخليجي.

وطالما أتينا على ذكر شعره الفصيح منها قصيدته المعنونة بـ «من هنا الخليج»، وفيها يقول:

         من حقبة النفط يصحو مرة أخرى

         يثري الحياة كما من نفطه أثرى

         قفوا جميعًا له، إنه الخليج بدا

         من الجهالة، من أسمالها يعرى

         خمسون عامًا مضت

         شاد الأساس بها

         واليوم ينهض، حتى يدخل العصرا

ومن قصائده الفصحى الأخرى الجديرة بالذكر، تلك التي كتبها في الرباط في أغسطس 1993 وتحدى بها صديقه وزميله الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي حينما أعيتْ الحيلة الأخير (كما قال رفيع نفسه) عن الاتيان بقصيدة تنتهي بتاء مفتوحة. من أبيات هذه القصيدة:

                        أحـــورًا    ما   أراه   أم بـناتـا

                        فلم  أرَ  قبل  حسنهم  فتاتــا

                        إذا   قـامـوا لمشي أو  لرقـص

                        تـفـتـت قـلبي مـنهــم  فـتـاتـا

                        وبات  الليل يشكو من هواهم

                        ولـــم  يــك قــبــل ذلك  بـاتــا

                        لقد   ذبحوا  فؤادي ذبح شــاة

                        فرفقًا بي فـقـلـبي ليس شاتا

                        رأيتـهـمـو فـنحت على شبابي

                        وسيف في قد عـشق السباتا

                        وقلت من التحسر ليت شعري

                        لقد  ذهب  الزمان   بنا  وفـاتـا

                        أطـلعهـم فــأدعـوهــم بكـفـي

                        كما يدعـو الكبار الـطـفـل (تاتا)

                        ألا   ليت   الشباب  يعود يومـًا

                        ولكـــن الـشـبـاب الـيــوم مـاتا

وهناك أيضًا قصيدته الفصحى «الدوران حول البعيد» التي لا يمكن أنْ نمر عليها مرور الكرام دون أن نستعرض أبياتها الجميلة:

في آخر الليل البهيم

إذا أصاخ الساهرون

يتكلم الصمت البعيد ويصمت المتكلمون

رباه من أي المغاور والمكامن والحزون؟

هذي المشاعر هل أحس

ببعضهن الشاعرون؟

سيل من الأطياف والأفكار ليس له مدى

شيء بلا شيء يلوح وهمهمات كالصدى!

ووراء أعماقي هنالك حيث تشتعل البروق

تتفجر النبضات، نبضًا بعد نبض..

في العروق

وأظل مشدوها..

إلهي كل هذا في دمي!!

يا ليتني.. ويموت في فمي الكلام..

هذي الأعاصير الكظيمة كيف.

يعروها الفتور!؟

ويقول في قصيدة "موطن الخالدين":

             ليت  شعري  والعاشـقون ألوف

                                           هل  سأحظى  بوصل  يوم  فريد

             أتراني   أنال   بعض   رضاهــا

                                           وهو أقصى المنى وأشهى الوعود

             وأنا  لا   أزال   في  معبد  الـفـن

                                           صغيراً   لم  أعــد  طــور   الــوليد

             غير   أني   وقد   وضعت  هواها

                                           وتـمـشى  عطـاؤها  في  وريدي

             أجتلي   فيض  حسنها فإذا قلت

                                           فما  لي  فـضـل ســوى  الترديد

             موطني  مون  الجمال ومهد الـ

                                           عـبـقـريات  من سـحيـق العهـود

ربما لم يلقَ الراحل المكانة الشعرية اللائقة التي يستحقها على الصعيد العربي بسبب الطبيعة الحكواتية لشعره العامي الموجه أساسًا للجمهور الخليجي، والمستحضرة لهمومه وزمنه القديم (عصر ما قبل النفط ببساطته وتلقائيته وبدائية وسائله وعبق فرجانه). وفي هذا السياق قال في مقابلة قديمة مع الصحفي ميرزا الخويلدي من صحيفة الشرق الأوسط، أعاد الأخير التذكير بها في مقالة كتبها في الصحيفة نفسها بمناسبة رحيله (12/‏3/‏2015): «مشكلة شعري إنه مسموع أكثر منه مقروء.. وهذه مشكلة العامية، فشعري يعتمد على الإذن على طريقة الشعر القديم عند العرب في الجاهلية، حيث كانت الإذن سامعة والكتــّاب كانوا يُعدون على الأصابع، فكان الإنسان العربي يعتمد على حاسة السمع».

قدم رفيع عددًا من المجموعات الشعرية منها (أغاني البحار الأربعة) 1971، (الدوران حول البعيد) 1979، و(يسألني) 1981 توزعت بين موضوعات ومجالات عديدة: منها ما هو وطني ومنها ما هو قومي أو إنساني أو غزلي أو اجتماعي، إضافة إلى تلك القصائد الساخرة، الكاريكاتيرية التي كتبها في بعض القضايا. وكان آخر دواوينه التي أصدرها بعنوان (أولها كلام) العام 1991، كما حصل على عدد من الجوائز الأدبية.

وكان رفيع مبدعًا في كتابة القصائد، تنوع في استخدام المفردات العربية، كما أنه كان مدافعا عن عروبته، وانتماءاته الإسلامية.

وظل اسمه حاضرًا طوال العقود الماضية كأحد الأسماء الشعرية البارزة بحرينيًا وخليجيًا وعربيًا، من خلال نبرة صوته الشعري المتميزة. كما أنه شارك في الكثير من الأمسيات والمهرجانات والملتقيات الشعرية والأدبية، داخل البحرين وخارجها، في آن، بل إن بعض قصائده كانت من عداد الأعمال الشعرية الأكثر تداولاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي وذلك لحيويتها، ومقدرتها على تناول أسئلة المعنيين بها.

استطاع رفيع أن يرسخ حضوره في المشهد البحريني العام، وذلك من خلال جملة من الخصائص الشخصية التي كان يتمتع بها، من بينها بساطته، وطيبته، وروحه الإنسانية، وحرصه على خدمة من حوله بكل ما يملك، ناهيك عن سيرته العطرة في مجال عمله، سواء في تلك الفترة التي عمل فيها مربياً في مدارس بلده، أو تلك التي اشتغل فيها مراقباً قانونياً في وزارة التربية، باعتبار أنه كان يحمل شهادة الحقوق.

وفاته:

توفي الشاعر عبدالرحمن رفيع في 11 آذار/مارس 2015م عن عمر ناهز 79 عامًا.

فاز بمجموعة من الجوائز منها الجائزة الأولى في مسابقة (هنا البحرين) الأدبية.

المصادر:

- صحيفة الأيام، عبدالله المدني، شاعر «البنات» وصاحب «زمان المسخرة»، العدد: العدد 9840 ، 18 مارس 2016 http://www.alayam.com

- صحيفة الخليج، تاريخ النشر: 12/03/2015

http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/a08493b9-1b60-4a6e-b208-2d19cfcea153

- جامعة جازان. http://www.jazanu.edu.sa

- مركز معلومات مجلة فكر الثقافية.


عدد القراء: 6798

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-