ألبير كامو: فرنسا، الجزائر، والسياق الاستعماريالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-02-05 13:29:23

د. سعيد بوخليط

مراكش - المغرب

بقلم: إدوارد سعيد

ترجمة: د. سعيـد بوخليـط

تقديم: قُرئت أعمال ألبير كامو غالبًا باعتبارها نصوص ذات حمولة كونية .لكن، بالنسبة إلى إدوارد سعيد، يرتبط الكٌتّاب بذهنية عصرهم، لاسيما إذا كانت كولونيالية. وقد أوضح هذا الأمر في عمله ''الثقافة والإمبريالية''، بحيث وقف إلى جانب نصوص أخرى على رواية "الغريب".

تبدو جلية الموازنة بين ألبير كامو وجورج أورويل: لقد أصبح الاثنان على التوالي نتيجة ثقافتهما وجهين مثاليين بحيث تتأتى أهميتهما من سياقهما الأصلي المباشر، والذي يبدو أنهما يتجاوزانه. يرتبط هذا باكتمال صياغة حكم حول كامو حدث تقريبًا عند نهاية إزالة الغموض الحاذق عن الشخصية التي انكب عليها كونور كريز أوبريان، ضمن كتاب يشبه كثيرًا الدراسة التي أنجزها رايمون ويليامز عن جورج أورويل وصدرت ضمن نفس السلسلة المسماة بـ:"Modern Masters".

كتب أوبريان عن كامو، ما يلي: «من الراجح، أنه الكاتب الأوروبي الوحيد الذي استطاع قياسًا إلى حقبته، التأثير بعمق على المتخيل وكذا الوعي الأخلاقي والسياسي سواء لأفراد جيله ثم الذي تلاه. لقد كان أوروبيًا بشدة لأنه انتمى إلى حدود أوروبا وكان واعيًا بتهديد ما. الحس الأخير، دفعه إلى أن يشرِّع عينيه. لقد رفض، لكن بشعور نضالي. لم يكن قط أي كاتب آخر، بما في ذلك جوزيف كونراد، مُجسِّدًا للاهتمام والوعي الغربيين حيال العالم غير الغربي. تتمثل المأساة الداخلية لعمل كامو في تطوير هذه العلاقة، وفق إيقاع ارتفاع الضغط والحزن».

يعتبر، أولاً، الاستعمار الغربي، الذي انكب أوبريان وجوزيف كونراد على وصفه بكثير من الألم، توغلا خارج الحدود الأوروبية وداخل كيان جغرافي آخر. ثانيًا، لا يحيل قط على ''وعي غربي'' مناهض للتاريخ "بالنسبة إلى عالم غير غربي": الأغلبية الساحقة من السكان المحليين الأفارقة والهنود لا يرجعون مصدر شقائهم إلى "الوعي غربي"، بل ممارسات استعمارية محددة جدًا مثل العبودية، التملّك، ثم عنف الأسلحة. هي علاقة تشكلت بعناء حيث ادعت فرنسا وبريطانيا تمثيلهما لـ"الغرب أمام الشعوب غير الغربية الخاضعة والمهيمن عليها، وفق أساس يتمثل في الخمول والتخلف.

أيضًا استعمل أوبريان وسيلة أخرى كي ينتشل كامو من الورطة التي وضعه فيها: يؤكد على أن تجربته الشخصية متميزة. وسيلة خاصة كي تلهمنا نحوه قليلاً من الانجذاب، لأنه مهما كان السلوك الجماعي للمستوطنين الفرنسيين في الجزائر، مؤسفًا جدًا، فلا يقوم أي مبرر يدعو إلى معاتبة كامو . التربية الفرنسية التي تلقاها كليًا هناك – وصفتها جيدًا السيرة الذاتية التي أنجزها هربرت آر لوتمان- لم تمنعه كي يصيغ قبل الحرب تقريرًا شهيرًا حول المآسي المحلية، المرتبطة غالبًا بالاستعمار الفرنسي. إذن، هاهو إنسان صاحب ضمير قياسًا إلى سياق غير أخلاقي، ثم الفرد مركز اهتمام كامو ضمن إطار مجتمعي: ينطبق هذا الأمر على نصوصه: "الغريب"، "الطاعون"، ثم "السقوط". قيم، تعكس الوعي بالذات، والنضج دون توهم، ثم الحزم الأخلاقي عندما يسوء كل شيء. لكن، على المستوى المنهجي، تُطرح ثلاث عمليات: 

أولاً، مساءلة ثم تقويض الإطار الجغرافي الذي خصصه كامو لروايتي الغريب (1942)، والطاعون (1947) ثم مجموعته القصصية (على قدر كبير من الأهمية) "المنفى والمملكة" (1957). لماذا الجزائر، بينما اعتبرنا دائمًا أن العملين الأولين المشار إليهما يحيلان خاصة على فرنسا، لاسيما فترة احتلالها من طرف النازيين؟. لاحظ الباحث أوبريان وقد ذهب أبعد من جل النقاد، أن الاختيار ليس بريئًا: بالفعل، شكلت العديد من عناصر تلك السرديات (مثلاً محاكمة مورسو في رواية الغريب) تبريرًا ضمنيًا أو لا واعيًا للهيمنة الفرنسية، أو محاولة إيديولوجية قصد تجميلها. لكن البحث عن تحديد استمرارية بين الكاتب كامو، حينما يُتناول فرديًا، ثم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، تقتضي منا أولاً معرفة، إن كانت تلك النصوص مرتبطة بأخرى فرنسية سابقة، إمبريالية بشكل صريح.

أما العملية المنهجية الثانية، فتقوم على نمط المعطيات الضرورية لهذا التوسع في المنظور، وكذا سؤال ملازم: من يؤول؟.

سيقول على الأرجح ناقد أوروبي مهتم بالتاريخ، بأن كامو يمثل ثانية الضعف التراجيدي للوعي الفرنسي في مواجهة أزمة أوروبا، مع دنو إحدى أكبر تصدعاته. إذا بدا بأن كامو قد أخذ في اعتباره إمكانية الحفاظ وكذا تطوير ساكنة المستعمرات بعد 1960(سنة وفاته)، فقد كان بكل بساطة مخطئًا تاريخيًا مادام الفرنسيون تركوا الجزائر سنتين فقط بعد ذلك، ثم تخليهم عن كل مطالبة بها.

حينما يستحضر عمل كامو بوضوح الجزائر المعاصرة، سيهتم عمومًا بالعلاقات الفرنسية- الجزائرية مثلما هي، وليس بتلك التقلبات التاريخية الكبيرة التي شكلت مصيرها عبر الزمان. فقط استثناء، فقد تجاهل أو أهمل التاريخ، ما يشعر به جزائري نحو الحضور الفرنسي باعتباره تعسفًا للسلطة اليومية، ولم يكن ليفعل. تمثل سنة  1962 بالنسبة للجزائري، تقريبًا نهاية حقبة طويلة وتعيسة دشنها وصول الفرنسيين سنة 1830، ثم تطلع حماسي نحو عهد جديد. تأويل روايات كامو بنفس وجهة النظر، يعني أن نرى فيها نصوصًا لا تخبرنا عن أحوال روح الكاتب، بل مجرد معطيات تأريخية للمجهود الفرنسي قصد الاحتفاظ بالجزائر والإبقاء عليها فرنسية.

ينبغي إذن مقارنة ادعاءات وكذا افتراضات كامو حول التاريخ الجزائري مع التواريخ التي دونها الجزائريون بعد الاستقلال، حتى ندرك تمامًا الجدال بين القومية الجزائرية والاستعمار الفرنسي. وسيكون صائبًا إعادة وصل عمله بظاهرتين تاريخيتين: المغامرة الاستعمارية الفرنسية (مادام يسلم بثباتها) ثم الصراع الضاري ضد استقلال الجزائر. يمكن فعلاً لهذا المنظور الجزائري "تفكيك" ما يخفيه عمل كامو، ينكره أو يتمسك به ضمنيًا كبداهة.

أخيرًا، هي أساسية منهجيًا إذا استحضرنا جانب الزخم الكبير لنصوص كامو، والاهتمام بالتفاصيل، والصبر، والإلحاح .منذ البداية، يضم القراء نصوصه تلك إلى الروايات الفرنسية حول فرنسا، ليس فقط بسبب لغتها وكذا أشكالها الموروثتين فيما يبدو من كتاب مشهورين سبقوه، مثل روايتي ''أدولف'' لـ"بنجامين كونستانت'' ثم "ثلاث حكايات" لـ"غوستاف فلوبير"، لكن كذلك لأن إطارها الجزائري يظهر طارئًا، دون صلة مع القضايا الأخلاقية الفظيعة التي تطرحها.  بعد ما يقارب نصف قرن على إصدارها، فقد قُرئت كصور عن الوضع البشري.

صحيح، قتل مورسو عربيًا، لكن هذا العربي بدون اسم ويبدو كأنه بلا تاريخ، وبالتأكيد بلا أب أو أمٍّ. طبعًا، هم أيضًا العرب الذين يموتون بسبب الطاعون في وهران (رواية الطاعون)، أيضًا بدون أسماء معينة، بينما سُلِّطت الأضواء أساسًا على ريو وتارو (شخصيتان في رواية الطاعون). ويلزمنا قراءة النصوص تحت وازع الثراء الذي تطويه، وليس جراء الوقوف على ما تم التغاضي عنه عَرَضيًا .لكن تحديدًا، أريد الإشارة إلى عثورنا بين صفحات روايات كامو على ما اعتقدناه سابقًا مُستبعدًا: إحالات على التوسع الامبريالي الفرنسي خاصة، الذي بدأ سنة 1830، ثم تواصل خلال حياة كامو، سياق عَكَسَه تركيب تلك النصوص.

لم يستلهم سعيه روح الثأر. لا أقصد أبدًا المؤاخذة على كامو بأثر رجعي كونه أخفى في رواياته بعض الأشياء حول الجزائر، لكنه سيبذل قصارى جهده  كي يشرح ذلك بإسهاب، في نصوص عديدة مثل: وقائع جزائرية. ينصب موضوعي على فحص عمله الأدبي، باعتباره عنصرًا لجغرافية الجزائر السياسية التي تشكلت منهجيًا من طرف فرنسا على امتداد أجيال عدة. كي يكون له أفضل انعكاس مؤثر على الصراع السياسي والنظري بحيث يكمن الرهان في إعادة تقديم لهذا الإقليم وامتلاكه، خلال لحظة دقيقة بعد أن غادر البريطانيون الهند. تقوم كتابة كامو على حساسية استعمارية متأخرة للغاية وبلا مفعول في الواقع، تنتج ثانية السلوك الإمبريالي، بتوظيفها لفن الرواية الواقعية، وقد قطعت أوروبا مع حقبتها الكبيرة، منذ فترة بعيدة.

لنتذكر تاريخ 1 نوفمبر 1954، الإعلان الرسمي عن انطلاق الثورة الجزائرية. ثم جريمة سطيف شهر مايو 1945، تلك المجزرة الكبيرة المتمثلة في قتل مدنيين جزائريين من طرف جنود فرنسيين. خلال السنوات السابقة، عندما كتب كامو رواية الغريب، فقد كانت الوقائع اليومية غنية بأحداث توثق لتاريخ المقاومة الجزائرية، الطويل والدموي. رغم أنه، حسب مختلف السير الذاتية المنجزة حول كامو، فقد ترعرع في الجزائر كشاب فرنسي، وكان باستمرار محاطًا بإشارات المقاومة الفرنسية الجزائرية. إذن، يظهر بشكل عام، أنه قد تفادى الحديث عنها، أو تُرجمت صراحة إبان السنوات الأخيرة، من خلال اللغة، وكذا الصورة والرؤية الجغرافية لإرادة فرنسية شاذة تنازع الجزائر في ساكنتها المسلمة المحلية. سنة 1957، أكد فرانسوا ميتران صراحة في كتابه: ''الحضور الفرنسي والتخلي''. إنه: «بدون وجود لإفريقيا، لن يقوم تاريخ لفرنسا إبان القرن العشرين».

في المقابل، وبهدف موقعة كامو ضمن الجوهري (وليس عند جانب صغير)، لتاريخه الفعلي، يلزم معرفة أسلافه الفرنسيين الحقيقيين، وكذا عمل الروائيين، والمؤرخين وعلماء الاجتماع والسياسة الجزائريين بعد الاستقلال. اليوم، يمكن أن نتبيَّن تمامًا تقليدًا مستمرًا يمركز أوروبا، يتم كبته دائمًا ضمن أي تأويل للجزائر، ما استبعده أيضًا كامو (وميتران) وكذا أبطال رواياته .خلال سنواته الأخيرة، حينما اعترض كامو علانية بل وبحدة على المطالبة الوطنية باستقلال الجزائر، فقد بادر إلى ذلك انسجامًا مع التوجه الذي تصور به المسألة الجزائرية منذ بداية مساره الأدبي، وإن عكست أقواله بحزن تلك اللغة المنمقة الرسمية الانجليزية-الفرنسية حول السويس.

مألوفة لدينا تعليقاته حول "الكولونيل عبدالناصر"، والامبريالية العربية والإسلامية، بيد أن الرأي السياسي الوحيد الذي يعكس حقًا تصلبًا مطلقًا حول المسألة الجزائرية، سيعبر عنه هذا النص الذي يبدو كخلاصة دون أدنى فارق تختزل جل ما كتبه سابقًا: «فيما يتعلق بالجزائر، يمثل الاستقلال الوطني وصفة عاطفية خالصة. لم يوجد قط وطن جزائري. بوسع اليهود، والأتراك، واليونانيين، والايطاليين، والبربريين، التشبث بنفس  حق التماس وجهة نحو هذا الوطن المفترض. حاليًا، لا يمثل العرب وحدهم كل الجزائر. تكفي أهمية وخاصة أقدمية الساكنة الفرنسية، لخلق مشكلة لا يمكن مقارنتها بأي شيء في التاريخ. يعتبر كذلك فرنسيو الجزائر وبالمعنى القوي للكلمة من أهل البلد .ثم تنبغي الإضافة بأن جزائر محض عربية لا يمكنها الوصول إلى استقلال اقتصادي يظل بدونه الاستقلال السياسي مجرد خديعة».

المفارقة، أن روايات وشروحات كامو، تحدثت في كل مكان، عن الحضور الفرنسي داخل الجزائر، بحيث جعل من ذلك، سواء موضوعة حكائية خارجية، وماهية تنفلت من الزمان والتأويل، أو كتاريخ وحيد يستحق أن يُروى باعتباره تاريخًا. فكم يختلف هذا الموقف ونبرته، عن ما ورد في كتاب بيير بورديو: سوسيولوجيا الجزائر، الصادر سنة 1958، أي نفس لحظة ظهور كتاب كامو: المنفى والمملكة. تدحض تحليلات بورديو، الخلاصات اللاذعة لكامو، وتوضح بصراحة الحرب الاستعمارية كنتيجة لصراع بين مجتمعين. هذا التعنت في الرأي لدى كامو، يفسر الغياب الكلي لزخم وكذا أسرة العربي الذي قتله مورسو، ثم لماذا وُجَّه تدمير وهران ضمنيًا قصد التعبير ليس على الأموات العرب (الذين، يؤخذون بعين الاعتبار ديمغرافيًا قبل الجميع)، بل الوعي الفرنسي.

نتوفر على توثيق ممتاز لمسلمات عديدة حول المستعمرين الفرنسيين، يتقاسمها قراء ونقاد كامو. دراسة مذهلة لصاحبتها ''Manuela Semidei '' حول الكتب المدرسية الفرنسية، خلال الحرب العالمية الأولى وغداة الثانية، أوضحت بأن تلك الكتب نظرت إيجابيًا إلى الإدارة الاستعمارية الفرنسية مقارنة مع البريطانية: يعني ذلك ضمنيًا، أن الممتلكات الفرنسية قد حُكمت بكيفية مغايرة للتعصب والعنصرية البريطانيين.

حين إشارته مثلاً إلى توظيف العنف في الجزائر، ستحيل صياغته على الاعتقاد بأن القوات الفرنسية كانت مضطرة لتبني مقاييس مقززة قصد التصدي لاعتداءات السكان المحليين: «مندفعين خلف حماستهم الدينية وكذا نزوعهم نحو النهب». مع ذلك، صارت الجزائر "فرنسا جديدة''، مزدهرة، حظيت بمدارس جديدة ومستشفيات ثم طرق. حتى بعد الاستقلال، بقيت صورة التاريخ الاستعماري لفرنسا بَنَّاءة أساسًا: نعتقد بأنها طرحت صلات روابط "أخوية'' مع المستعمر القديم.

لكن ليس لأن وجهة  نظر وحيدة بدت ملائمة بالنسبة لجمهور فرنسي، أو أن الدينامية التامة لترسيخ الاستعمار وكذا مقاومة الساكنة المحلية تضعف للأسف تلك الإنسانية الساحرة ذات التقليد الأوروبي الكبير، بالتالي يلزم اتباع مذهب التأويل هذا وقبول البناءات والصور الإيديولوجية. 

أذهب حد قول، بأنه إذا كانت أشهر روايات كامو تحتوي وتلخص، من نواحي كثيرة، ودون تسوية، مفترضة خطابًا فرنسيًا قويًا حول الجزائر المنتمية إلى لغة المواقف والمرجعيات الجغرافية الامبريالية الفرنسية، فإن ذلك يجعل عمله أكثر أهمية، وليس العكس. رصانة أسلوبه، ثم المعضلات الأخلاقية المقلقة التي كشف عنها، والأقدار الذاتية المؤلمة لشخصياته، التي طرحها على قدر من الذكاء والسخرية المضبوطة، كل ذلك تغذى من تاريخ الهيمنة الفرنسية على الجزائر، ثم بعثه من جديد، بدقة متقنة مع غياب مثير للمؤاخذات أو كذلك منطق الرأفة.

مرة أخرى، يلزم أن تنتعش العلاقة بين الجغرافية والصراع السياسي، عند الموضع المناسب، أو في الروايات، مٌتَسَتِّرا عليها كامو ببنية فوقية، وصفها سارتر بثناء، موضحًا أن ذلك يغمرنا بـ: "مناخ العبث". سواء مع رواية الغريب أو الطاعون، فقد انصبتا على أموات عرب، يسلطون الضوء ثم يغذون في صمت مشكلات الوعي وكذا تأملات عند شخصيات فرنسية.

البلديات، النظام القضائي، المستشفيات، المطاعم، الأندية، فضاءات الترفيه، المدارس، وكل بنية المجتمع المدني، التي يتم تقديمها بكثير من الحيوية، تظل فرنسية، مع أنها تدبر أمور ساكنة غير فرنسية .تجانس ما يكتبه كامو حول هذا الموضوع ثم مضمون الكتب المدرسية، يعتبر أمرًا لافتًا للنظر. تحكي رواياته وقصصه، آثار انتصار تحقق على حساب ساكنة مسلمة، مسالمة  لكنها تتعرض للإبادة، بحيث انتهكت حقوقها في امتلاك الأرض لتضييق شديد. هكذا، يؤكد كامو على الأولوية الفرنسية ويوطدها، دون أن يدين الحرب التي شُنَّت لأزيد من قرن تقريبًا ضدًا سيادة مسلمين الجزائريين، أو تبرِّئه من ذلك.

في مركز المواجهة، يبرز الصراع المسلح، حيث يمثل المارشال توماس روبير بيجو والأمير عبدالقادر عنصريه الكبيرين الأولين. الأول عسكري شرس أظهر قسوته البطريركية نحو أهل البلد، منذ سنة 1836، في إطار مجهود توخى تطويعهم ثم انتهى بعد عشر سنوات إلى سياسة للإبادة وكذا تملكهم العنيف. بينما الثاني، صوفي متزهد محارب لا يتعب، لا يسأم من سعيه إلى إعادة تجميع وتشكيل وتعبئة أتباعه ضد محتل أكثر قوة وحداثة.

حينما نقرأ وثائق الحقبة – رسائل، بلاغات، وكذا برقيات بيجو(جمعت وصدرت تقريبًا خلال نفس حقبة ظهور رواية الغريب)، أو طبع قصائد عبدالقادر الصوفية، أو إعادة البناء المدهشة لسيكولوجيا الاجتياح من طرف مصطفى الأشرف، أحد قادة جبهة التحرير الجزائرية وأستاذ في الجامعة بعد الاستقلال، انطلاقًا من جرائد ورسائل فرنسية سنوات (1830-1840)- سنلاحظ الدينامية التي حتمت لدى كامو التقليل من شأن الوجود العربي.

تقطِّر روايات وقصص كامو بدقة كبيرة التقاليد، اللغات والاستراتيجيات الاستدلالية للتملُّك الفرنسي للجزائر، ثم منحت تعبيرها الأخير الأكثر تهذيبًا، إلى: ''بنية المشاعر'' تلك الضخمة. لكن، من أجل إبراز هذه الأخيرة، ينبغي اعتبار عمل كامو بمثابة تحول للمأزق الاستعماري، يحدث في العاصمة: إنه المستوطن الذي يكتب من أجل جمهور فرنسي، ثم يرتبط نهائيًا تاريخه الشخصي بهذه المقاطعة الفرنسية المنتمية إلى الجنوب، أما الذي يحدث ضمن كل إطار آخر، فيبقى غامضًا.

لكن احتفالات الاقتران بالإقليم - المحتفل بها من طرف مورسو (رواية الغريب) في الجزائر، ومن لدن تارو وريو المحتجزين داخل أسوار وهران (رواية الطاعون)- تحثُّ القارئ بشكل مفارق للتساؤل حول ضرورة هذه التأكيدات المتكررة. حينما يستحضر عنف الماضي الفرنسي سهوًا، تصبح حينئذ تلك الطقوس مكثفة جدًا إلى أقصى حد، احتفالات تذكارية عن بقاء مجموعة دون منظور يقود إلى وجهة معينة.

مأزق مورسو أكثر جذرية مقارنة بالآخرين. لأنه، حتى ولو فرضنا بأن هذه المحكمة التي بدت خاطئة تواصل الوجود (فضاء مثير من أجل الحكم على فرنسي قاتل لعربي، يشير أوبريان على نحو صائب). أدرك مورسو نفسه بأن كل شيء انتهى أخيرًا، هكذا تجلى الانفراج من خلال التبجح: «كنت صائبًا، ولازلت كذلك، بل أنا محق دائمًا. لقد عشت بهذه الكيفية ولا يمكنني أن أحيا على نحو ثان. قمت بهذا ولم أفعل شيئًا آخر. لم أبادر إلى فعل هذا الشيء ثم فعلت شيئًا ثانيًا. لكن ماذا بعد؟ كنت كما لو أني انتظرت على امتداد الوقت إطلالة صغيرة للفجر حتى تتم تبرئتي».

ينتفي هنا أي اختيار أو بديل. طريق الشفقة مسدود. يجسد المستوطن في الوقت نفسه المجهود البشري الواقعي جدًا الذي ساهمت فيه جماعته ثم الرفض الذي يشلّ الحركة بالتخلي عن نظام غير عادل بنيويًا. الوعي الذاتي الانتحاري لدى مورسو، ثم قوته، وكذا صراعاته، معطيات لا يمكنها أن تتأتى سوى من هذا التاريخ وتلك المجموعة. في نهاية المطاف، أقر بوضعه كما هو، واستوعب أيضًا لماذا أمه، القابعة داخل ملجأ للعجزة، قررت أن تتزوج ثانية: «لقد راهنت على البدء من جديد …مع أن موعد موتها اقترب كثيرًا، فقد ألزمت نفسها كي تشعر بحريتها وأنها مستعدة كي تعيش كل شيء من جديد». لقد صنعنا هنا ما قمنا به، فلنفعله ثانية. يتحول هذا الإصرار البارد والتراجيدي إلى قدرة إنسانية على معاودة التجربة دون كلل. تعبر رواية الغريب، بالنسبة إلى قراء كامو، عن البعد الكوني لإنسانية حرة وجوديًا، تتعارض مع فلسفة رواقية متغطرسة غير مكترثة بالوجود وكذا قسوة البشر.

إعادة نص الغريب إلى الحلقة الجغرافية حيث نشأ مساره السردي، يعني أن نرى في هذه الرواية شكلاً تطهيريًا للتجربة التاريخية. تمامًا مثل أعمال وكذا وضعية جورج أورويل في انجلترا، فإن أسلوب كامو الواضح ثم وصفه البسيط للأوضاع المجتمعية، يخفيان تناقضات عن تعقد مريع، وتغدو مستعصية على الحل، مثل عدد من تلك الانتقادات، فإننا نجعل من وفائه للجزائر الفرنسية رمزًا للوضع البشري. أيضًا، شَكَّل ذلك أساس شهرته الاجتماعية والأدبية.

مع ذلك، لم يتوقف مسار آخر عن الوجود، أكثر صعوبة وتحريضًا، يتعلق بـ: محاكمة، ثم رفض الحجز الإقليمي وكذا السيادة السياسية لفرنسا، والتي تحول دون توجيه نظرة متسامحة نحو القومية الجزائرية .ضمن هذه الشروط، من الواضح أن حدود كامو كانت مزعجة، وغير مقبولة.

مقارنة مع الأدب المقاوِم للاستعمار خلال تلك الحقبة، سواء بالفرنسية أو العربية- جيرمان تيليون، كاتب ياسين، فرانز فانون، جان جنيه – فقد تميزت نصوص كامو بحيوية سلبية، حيث بلور زخم التراجيدية البشرية للمشروع الاستعماري، آخر توضيح كبير له قبل التواري. هكذا يصدر عنه شعور بالتورط والكآبة لم نستوعبهما بعد تمامًا، ولم نعمل ثانية على إعادة طرحهما كلية. 

مرجع النص:

Manière de voir :octobre-novembre 2000 ;pp :31-37.


عدد القراء: 6601

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-