إشكالية التعريب في اللغة العربية الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-06-05 03:12:13

أ.د. عبد الله بن محمد الشعلان

قسم الهندسة الكهربائية - كلية الهندسة - جامعة الملك سعود - الرياض

تتجلى عظمة اللغة العربية وسموها ورفعتها أنها في المقام الأول اللغة الوحيدة التي اجتباها وخصها وشرفها رب العزة والجلال بأن تكون لغة القرآن الكريم، وذلك يتبدى في آيات كريمة وردت في عدد من السور، منها قوله تبارك وتعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فصلت:3. وقوله عز من قائل: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا) طه:113، وقوله عز وجل: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يوسف:2، وقوله أصدق القائلين:

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء: الآيات 193 - 195.

ولقد تمكنت اللغة العربية منذ الأزل من أخذ مكانتها اللائقة بين اللغات العالمية الحية لمكانتها السامية التي أحرزتها وتبوأتها عبر تاريخها الطويل في مجالات العلوم الدينية والشرعية، ناهيك عمّا وصلت إليه في ميادين الشعر والأدب والتاريخ والجغرافيا والرياضيات والفلك والطب والكيمياء والصيدلة، كما أفادت اللغة العربية من الترجمة والتعريب مما زادها توسعًا وانتشارًا وعالميةً وثراءً، حيث إن اللغة العربية لغة مرنة وطيعة تقبل الألفاظ الأجنبية والمصطلحات التقنية وذلك لسهولة النحت فيها والتصريف والاشتقاق والقياس.

ولقد فسّر بعض العلماء قول الله تبارك وتعالى: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) البقرة: 31، بقولهم أن الله سبحانه منح آدم القدرة على تسمية الأشياء، وأورث ذلك لبنيه، ومن هنا يمكننا فهم كيف كان اختلاف الألسنة ومسيرة اللغات ومواكبتها للتطور، ولعل تلك القدرة هي التي تفسر لنا الظاهرة التاريخية في استيعاب اللغة العربية لمفاهيم الدين ومصطلحاته من فقه وصلاة وعبادات وزكاة وشرك ونفاق وأنفال، إلخ، كما يفسّر لنا قدرة اللغة العربية على استيعاب النقلة الحضارية الهائلة في العهدين الأموي والعباسي التي تمثلت في الكم االزاخر من المصطلحات السياسية والإدارية والقانونية والاقتصادية والعلمية، إلى غير ذلك مما عجّت به الكتب في الميادين العلمية المتعددة. كما يمنحنا القدرة على تصور الجهد العظيم الذي بذلته المجامع العربية المعاصرة في توليها لغتنا شطر التراث البلاغي العربي للتناسخ في جسد الثقافة التقنية المعاصرة ويستحيل فيه نماءً وعنفوانًا وإثراءً واصلين بذلك حاضر هذا التراث البلاغي العربي بماضيه العظيم إلى جانب العمل نحو كبح جماح المصطلحات الغربية بالمئات من المصطلحات العربية ذات المعاني الجديدة مثل: السيارة والطيارة والثلاجة والحافلة والشاحنة والجوال... وغيرها، حتى وصل الأمر إلى ظاهرة تزاحم المصطلحات للشيء الواحد تبعًا لاختلاف الدول والمصطلح السائد والمتعارف عليه بها، ومن أمثلتها: الجوال والمحمول والنقال والخليوي لجهاز الاتصال المعروف، مما يشير إلى خصوبة اللغة العربية وقدرتها الهائلة على التوليد واصطناع المصطلحات الجديدة. وكما قلنا: "الحضارة هي مجرد قرار! حيث إن الكثير من أصحاب اللغات الميتة اتخذوا قرارًا بإحياء لغتهم من الموات فكان لهم ما أ رادوا ومن ذلك اللغة العبرية لغة المحتل الذي اتخذ قرارًا جريئًا بجعل العِبْرية لغته الأولى على الرغم من اندثارها واعتمدها لغة للعلوم، واستطاع أن يبعثها للحياة، لأنه أدرك أهمية اللغة لهوية الأمة! واستطاع أهل اللغتين الإنجليزية والفرنسية بعثهما إلى الدرجات الأولى في لغات العلم بعد أن كانتا من اللغات الركيكة والضعيفة التي يخجل ملوكها من التعبير بهما حيث كانوا يعبرون عن إراداتهم الملكية والسياسية باللغة اللاتينية القديمة! وما ذكرنا ذلك إلا من باب الرد المنطقي على من يتبنون اعتماد المصطلحات الغربية ويسخرون من اعتماد المصطلحات العربية الجديدة معتقدين بأن ذلك جهد كبير ومتعب لا داعي له، أما أنه متعب فليس الأمر كذلك لأن التسمية خصلة فطرية في الإنسان يمارسها الأطفال والكبار بعفوية، وأما أنه لا داعي له، فلهم أن يتخيلوا حجم المصطلحات الغربية المتدفقة دون تعريب بعد سنوات قلائل حيث ستغلب المصطلحات الغربية على كلامنا وتندثر العربية –لا سمح الله- بشكل تدريجي ونحن نتفرج عليها!

إن وسائل التوسع اللغوي من أبسط المهام الفطرية التي تمارسها اللغة العربية، مع يقيننا بأن باب الاشتقاق هو البوابة الأرحب والأوسع لذلك التوسع المقصود به صناعة مصطلحات جديدة يتم توليدها من اشتقاقات متعددة بناء على معطيات المسمى الجديد، مع الاعتماد جزئيًا على وسائل التوسع اللغوي الأخرى، وفي مقدمتها النقل المجازي، ثم النحت، ثم الإدخال والتعريب، مع ضرورة التضييق في البابين الأخيرين وعدم اللجوء إليهما إلا في حالات الاضطرار في الألفاظ العلمية والفنية التي يعجز عن وجود المقابِلات العربية لها ويمنع الإدخال والتعريب في الألفاظ الأدبية. ونود فيما يلي عرض شيء من وسائل التوسع اللغوي في اللغة العربية من خلال التعريب الذي أفادت منه اللغة العربية مما زادها توسعًا وانتشارًا وعالميةً وثراءً، حيث إن اللغة العربية لغة مرنة وطيعة تقبل الألفاظ الأجنبية والمصطلحات التقنية وذلك لسهولة النحت والتصريف والاشتقاق والقياس فيها، ومع ذلك فلا يتم القيام بعملية التعريب إلا عند الحاجة والضرورة. لذا يستحسن عند تعريب الألفاظ والمصطلحات الأجنبية أن يراعى ما يلي:

1) يفضل التغيير في شكل المصطلح حتى يصبح موافقًا للصيغة العربية ومضاهيًا لها، فمثلاً عندما ترجمت كلمة: تلفزيجن إلى العربية وأصبحت (الرائي) لم تجد هذه الكلمة العربية قبولاً مستساغًا فكان لا بد من تعريب الكلمة الأجنبية مع بعض التغيير الذي يضاهي العربية فأصبح لدينا كلمة: تلفاز (وإن كانت غير مستخدمة على نطاق واسع)، كما نجحنا في تعريب التلفون ليصبح: الهاتف (وإن كانت الأولى لا تزال مستخدمة كلفظها الأصلي) وكذلك: كمبيوتر إلى حاسب آلي أو حاسوب وكذلك راديو إلى مذياع. وعند تعريب المصطلح العلمي يمكن كتابته باللغة العربية بصيغة أو بناء يوافقه ويضاهيه مع المحافظة على معناه ولفظه قدر المستطاع، فمثلاً كلمة: فيزيكس عربت فيزياء، وكذلك تكنولوجي أصبحت: تقنية وماستر صارت ماجستير وكوليج: كلية، وبتروليوم: بترول، وموتور: محرك، وفاكسميلي: ناسوخ وباسيكيل دراجة وموتر: سيارة وتليجراف: البرقية والباص: الحافلة، وقابس بدلاً من كلمة الفيش وهي مصدر التيار الكهربائي، وهكذا.

2) يجب اعتبار المصطلح المعرب عربيًا بحيث يخضع لقواعد اللغة ويجوز فيه الاشتقاق والنحت والتصريف وتستخدم فيه أدوات البدء والإلحاق مع مواءمته للصيغة العربية، وهذه بعض الأمثلة:

بروتون: يمكن جمعها جمع مؤنث سالم فتصبح: بروتونات.

إلكترون: يمكن إلحاقها بأل التعريف فتصبح: الإلكترون.

أكسيد: يمكن جمعها جمع مؤنث تكسير فتصبح: أكاسيد، يمكن اشتقاق فعل منها فتصبح: يتأكسد.

دكتور: يمكن جمعها جمع تكسير فتصبح: دكاترة.

3) يحب تصويب الكلمات العربية التي حرفتها اللغات الأجنبية واستعمالها باعتماد أصلها الفصيح، فمثلاً كلمة: syrup  أصلها العربي: شراب، وكلمة: alcohol أصلها العربي: الكحول، وكلمة: gas أصلها العربي: غاز، وكلمة: arsenic أصلها العربي: الزرنيخ.

4) ثمة كلمات أجنبية دخيلة (وما أكثرها) اخترقت لغتنا العربية عنوة أو أقحمت إقحامًا فاستباحت ساحتها وفرضت نفسها عليها واحتلت مكانًا بين مفرداتها، ويُعدُّ هذا أحد عيوبنا في السماح لها والترحيب بها ومن ثم استخدامها طوعًا دونما وعي أن في العربية معان ٍ ومترادفات تحل محلها وتغني عنها، فخذ على سبيل المثال: لوجستي: عتاد، إثني: عرقي، برستيج: فخامة، كاريزما: جاذبية، ماراثون: سباق، كود: نظام أو رمز، لوبي: تأثير، كلاسيكي: تقليدي، رومانسي: عاطفي، دراما: مشكلات نفسية وعاطفية، كوميديا: مرح وترفيه، تراجيديا: مأساة، كنترول: تحكم، تكنولوجيا: تقنية، بروتوكول: اتفاقية أو معاهدة، أكاديمي: علمي، سوشيل ميديا: الوسط الإعلامي. فوتوفولتيك: كهرضوئية، كما أن لكل مفردة عربية مترادفات متعددة. وثمة كلمات أخرى مستجدة لا مندوحة  من إيجاد تعريبات لها مثل: مول وجاليريا وبلازا، إلخ، كما أن الزائر لأسواقنا الراقية الجديدة يلحظ بكل أسى وأسف أن الكلمات والمسميات الأجنبية أضحت طاغية على معظم إن لم يكن كل اللافتات والإعلانات.

خاتمة

لقد قيل أن اللغة (أي لغة) تشبه الكائن الحي تموت منه خلايا قديمة وتحيا فيه خلايا جديدة وهذا بالطبع يتأتى من أن العالم أصبح قرية صغيرة تقاربت فيه الشعوب وامتزجت فيه الحضارات وتبودلت فيه العلوم والتقنيات، وهذا يفسر مسيرة اللغات واتساعها ومواكبتها للتطور لما يترى ويستجد من المخترعات والابتكارات مما جعل التعريب لهو القاعدة الأصلب والبوابة الأوسع لصناعة مصطلحات جديدة يتم توليدها من اشتقاقات متعددة بناء على معطيات المسمى أو المبتكر الجديد مما يلزم معه التوسع ضمن السياقات المتعددة والتطورات المتلاحقة في صناعة المصطلحات الجديدة من خلال النحت والإدخال والتصريف والاشتقاق، كما أنه لا بد من العمل بقوة على الربط بين المصطلح العربي والمصطلح الأجنبي بحروف متقاربة مع عروبة المصطلح، كما أنه لا بد من السير على نهج العرب القدماء في تعريب اللفظ الأعجمي من خلال إحداث تغيير يجعله مجانسًا لألفاظهم جاريًا على قواعدهم منسجمًا مع نظامهم.

إنَّ اتصالنا بالحضارة الغربية، وَسعينا إلى تعريب ما نستطيع، أمرٌ تفرضه الضرورة؛ وذلك لحاجتنا إلى العلم والتقنية، ولا سيَّما أنَّ سِمَة العصر السرعة والتقدُّم في كلِّ المجالات، ولا خلاف اليوم على أنَّ اللغة العربية هي أقوى عوامل الوحدة والتضامُن، وأنها من أغْنَى اللغات وأوسعها اشتقاقًا وأوفرها تعبيرًا، وقد حقَّقتْ عملية التعريب في تشجيع الترجمة إلى العربية ونشْر الأعمال الإبداعية التي أفرزتها الثورة الصناعية التي تترى من كل حدب وصوب إلى جانب المستجدات الحديثة في العلوم الطبيعية والطبية والفيزياء والكيمياء، والجيولوجيا والفلك والرياضيات، والمطلوب اليوم إنشاءُ مؤسَّسة عربية مختصة تشرِف على كلِّ أعمال التعريب في الأقطار العربية كافة، وأنْ تهتمَّ بالترجمة كنشاط يحتاج إلى رعاية وتنسيق، وتخطيط وتنظيم، وغزارة علميَّة عالية لنقْل أحدث المؤلَّفات في مجال العلوم والتقنية في عصر العولمة والحواسيب، ووسائط المعلومات، وهذا أمرٍ تحتِّمه الظروف؛ لكي نواكِبَ ظروف العولَمة وآليَّات السوق المستجدة والمتلاحقة.


عدد القراء: 6241

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-