الجمال والفن بين المنظورين الغربي والإسلاميالباب: مقالات الكتاب
د. صبري محمد خليل أستاذ مشارك (تخصص فلسفه القيم الإسلامية) قسم الفلسفة – كليه الآداب- جامعه الخرطوم |
أولاً: مفهومي الفن والجمال في المنظور الفلسفي الغربي
الجمال تجلي الفكر عبر وسائط حسية (هيجل)
الفلسفة المثالية الموضوعية: تناول هيجل مفهوم الجمال من خلال فلسفة مثالية موضوعية والمثالية كفلسفة لا تعني الالتزام بالمثل العليا (كما يوحي اسمها بل هي مشتقه من المثال عند أفلاطون وهو الفكرة، وهي تعني أولوية الفكر على المادة والمقصود بالأولوية هنا أن للفكر وحدة الوجود الحقيقي أما المادة فمجرد تجلي أو انعكاس للفكر ليس له أي وجود حقيقي (ومثالها الجسم وصورته في المرآة) غير أن المثالية انقسمت إلى مثالية ذاتية تقصد بالفكر الفكر الإنساني ومثالية موضوعية تقصد به الفكر المطلق (الفكر الكلي أو ما يقابل الإله في الدين).
المنهج المثالي الجدلي: كما تناول الجمال من خلال منهج مثالي جدلي أي منهج قائم على أن الفكر المطلق يتطور من خلال الجدل والجدل يعني أن التطور يتم من خلال صراع المتناقضات عبر ثلاثة لحظات (الدعوى ونقيض الدعوى وجامع الدعوى ونقيضها). فهذا الفكر المطلق يتطور عبر ثلاث مراحل هي:
المرحلة الذاتية: وتتضمن اللذة والعاطفة والفضيلة وهي تقابل لحظة الدعوى.
المرحلة الموضوعية: وتتضمن الأخلاق والعرف والقانون وهي تقابل لحظة نقيض الدعوى المرحلة الجامعة للذات والموضوعية أو المرحلة المطلقة: وتتضمن الفن والدين والفلسفة وتقابل لحظة جامع الدعوى ونقيضها.
تعريف الفن: وبناءًا على هذا يرى هيجل أن الفن يمثل لحظة الدعوى في المرحلة المطلقة من مراحل تطور الفكر المطلق ويعتبر آخر مظهر من مظاهر تجلي الفكر المطلق يتجلى فيها عبر وسائط حسية ويترتب على هذا أن الفن ليس تقليد للطبيعة وفق القول المنسوب لأفلاطون بل هو كشف أو تعبير عن الفكر المطلق في صورة حسية كاللوحات أو التماثيل.
تاريخ الفن (التقسيم الثلاثي للفن): وتطبيقها للمنهج المثالي الجدلي على تاريخ الفن يخلص هيجل إلى تقسيم ثلاثي للفن:
1/ الفن الرمزي: ويمثله فن السيارة في الفن الشرقي فالفكر هنا يحاول أن يعبر عن ذاته بطريقة غير مباشرة أي عن طريق الرمز (مثلاً الأهرامات كرمز للخلود).
2/ الفن الكلاسيكي: ويمثله فن النحت الإغريقي وفيه تقترب الصورة (الشكل) من الفكرة المضمون) غير أن الشكل هنا (المادة المستخدمة في النحت أو الحجر) يعجز عن إعدادنا بالصورة الحقيقية للفكر.
3/ الفن الرومانتيكي: ويمثله الفن الحديث وهو أرقى تجلى للفكر المطلق في لحظة الفن وله إشكال عديدة.
الموسيقى: وهي تعبر عن الانفعالات الذاتية باستخدام الصوت غير أنها قاصرة لأنها تعبر عن انفعالات لأفكار ولأنها تحتمل تأويلات عديدة. (1)
الشعر وهو الفن الذي يبلغ مرتبة الكمال لأنه تعبير بالقول المعقول وهو نوعان:
1/ غنائي: وهو الذي يعبر عن الذات (العواطف والأفكار الذاتية) لذا فهو ناقص.
2/ درامي: وهو الذي يعبر عن الذات والموضوع (الذات والتاريخ والطبيعة) لذا فهو كامل.
الشكل والمضمون: وباستخدام هيجل لمنهجية في شكله العلاقة بين الشكل (المادة المستخدمة في العمل الفني كالحجر في النحت أو الصوت في الغناء أو الألوان في الرسم) والمضمون في الفن الرمزي فهو يمثل لحظة الدعوي بينما يغلب الشكل على المضمون في الفن الكلاسيكي فهو يمثل لحظة النقيض بينما يتميز الفن الرومانتيكي بتوازن الشكل والمضمون، فهو يمثل لحظة جامع الدعوي ونقيضها.
تقــويم:
مرحلية الفن: رغم أن الفن له هذه المكانة السامية في فلسفة هيجل إلا إنه مجرد لحظة من لحظات الفكر المطلق في مرحلته المطلقة يجب أن يتجاوزها إلى لحظة تالية هي الدين والسبب في ذاته أن الفن عنده عاجز عن التعبير عن الفكر المطلق بصورة كاملة بسبب صورته (إلى الوسائط الحسية المستخدمة في الفن وهي المادة).
إلغاء الجمال الطبيعي: كما نلاحظ أن الجمال عنده مقصور على الفن ويتجاهل الجمال الطبيعي لأن الفن نتاج الوعي فهو أرقى من الطبيعة.
إلغاء دور الإنسان (الفنان): كما أن فلسفة هيجل ألغت دور الإنسان الفنان في الإبداع الفني لأن الفن عنده تجلى الفكر المطلق الذي هو غير فكر الإنسان.
الفن خبرة (البرجماتية عند جون ديوي):
نظرية المعرفة البراجماتية: تناول ديوي مفهوم الجمال من خلال نظرية معرفة ذات أساس براجماتي ترفض الفصل بين الذات (المعرف) عن الموضوع (المعروف) استنادًا إلى تعريف الخبرة بأنها. "تفاعل حيوي بين الإنسان وبيئته" هذا التفاعل يتم خلال الانتقال من الصراع بين الإنسان وبيئته (الحاجة) إلى التوازن بينهما (الإشباع) وهكذا.
تعريف الجمال: والشكل الأولي للخبرة الجمالية نجده في الإيقاع الناشئ عن الانتقال من حالة الصراع مع البيئة (الحاجة) إلى حالة التوازن بين الإنسان وبيئته (الإشباع) فالإحساس الجمالي إنما هو في طبيعته كأي تلذذ أخر نتذوق بقضاء أي موضوع عادي من موضوعات الحياة الاستهلاكية لأنه ثمرة لضرب من المهرة أو لذكاه في طريقة تعاملنا مع الأشياء الطبيعية بحيث نتمكن من زيادة ألوان الإشباع التي تحققها لنا تلك الأشياء فنجعلها أشد وأنقى وأطول.
الخبرة العادية والخبرة الفنية: والفرق بين الخبرة العادية والخبرة الفنية أن الخبرة العادية عندما تصبح من درجة أعلى تصبح خبرة فنية فالفنان يمتاز عن غيره من الناس بالمهارة والحساسية.
الفن والمنفعة: كما يربط جون ديوي بين الفن والمنفعة لذا يرفض الفصل بين الفنون الجميلة والفنون التطبيقية (النافعة).
الجذور التاريخية بين الفنون الجميلة والتطبيقية: يرى أن التفرقة بين الفنون الجميلة والتطبيقية نشأت عن ظروف في المجتمعات الغربية الحديثة أدت إلى ظهور فكرة المتحف باعتباره مكان الأعمال الفنية وبالتالي فإن الأعمال الفنية ليست قائمة بذاتها ومستقلة عن الحياة اليومية ويرى الفنون الجميلة لها قيمة تربوية تتمثل في أثرها التربوي على النفس كما أن الفنون التطبيقية تنطوي على قيمة جمالية حين تجئ إشكالها متلائمة مع استعمالها.(2)
تقــويم:
الربط بين الفن والحياة: وهكذا فإن جون ديوي قد نجح في تأييد الارتباط بين الفن والحياة.
إحالة الفن إلى مجرد نشاط أداتى: إلا أنه تطرق في هذا التأكيد إلى درجة إحالة الفن إلى مجرد نشاط أداتي لخدمة غايات أخرى حيوية أو اجتماعية فتحول عنده إلى مجرد إدراك حسي نافع.
الفن وعي خيالي الوجودية عند سارتر:
تعريف الوجوديه: الوجودية هي فلسفة تذهب إلى أن ما يميز الإنسان عن باقي الكائنات الأخيرة تسبق ماهيتها (صفاتها) وجودها، فالنجار يكون في ذهنه فكرة عن صفا المنضدة أولاً ثم يوحدها ثانيًا أما الإنسان فهو الكائن الوحيد الذي يسبق وجوده ماهيته، أي يوجد أولاً ثم يختار صفاته بأن يكون طيبًا أو شريرًا غني أو فقير .. لذا فهو الوحيد الحر لأنه يختار صفاته بينما كل الكائنات الأخرى يتم تحديد صفاتها قبل أن توجد.
تحليل سارتر للوجود: وإسنادًا إلى الفلسفة الوجودية قام سارتر (في المرحلة الأولى من مراحل تطوره الفكري) بتحليل الوجود (الإنساني) حيث يذهب إلى أن هناك نوعين من أنواع الوجود:
1/ الوجود لذاته: وهو الوعي ويتصف بالتغير المستمر خلال التحرر من الماضي والنزوع إلى المستقبل.
2/ الوجود في ذاته: وهو موضوع الوعي ويتصف بالثبات.
والعلاقة بينهما علاقة انفصال واتصال فهي انفصال الوعي متمايز عن موضوع إدراكه. كما أنها علاقة اتصال إذ موضوع الوعي ليس منفصلاً تمامًا إذ هو يقع في مجال الوعي.
موضوع الإدراك الحسي وموضوع الخيال: ويرى ساتر أن هناك تعارض بين موضوع الإدراك الحسي حيث هو موضع موجود قبلاً يلتقي به الوعي، وموضوع التخيل وهو موضوع يوجده الوعي. فالتخيل هو سلب للإدراك الحسي وفي ذاته الوقت فإن الإدراك الحسي هو الأداء لقيام الخيال بدوره ويضرب سارتر مثالاً بلوحة مكتب عليها اسم شخص فالوعي حين يقصد هذا الاسم يصبح هذا الموضع متخيل أما الخطوط شيء مادي فليس لها أهمية بالنسبة لي.
الوعي الخيالي: فالوعي الخيالي الذي هو أساس الفن عند سارتر يتميز بأن موضوعه لا واقعي وغائب ولكنه ذي ذات الوقت يستعين بموضوع مادي واقعي، ففي لوحة شارل لكي يظهر شارل فإن نسيج اللوحة الواقعي يجب أن يختفي.
تعريف الفن: وبناء على ما سبق فإن سارتر يعرف الفن بأنه خلق وسيط مادي (وجود في ذاته) يعمل كمعادل لموضوع جمالي متخيل لا واقعي. والتذوق الفني هو تأمل لهذا الموضع المتخيل من خلال هذا الوسيط.(3)
تقـــويم:
إبراز دور الخيال: نجح سارتر في إبراز دور الخيال في الفن والتذوق الفني والجمالي.
الفن للفن: إلا إنه لم يخرج عن إطار مذهب الفن للفن الذي يفصل القيمة الجمالية عن القيم الأخرى (الأخلاقية والدينية) وعن الواقع المادي والاجتماعي إذ الأفكار التي يثيرها الفنان بالعمل الفني عنده مصدرها الذات العارفة وليس الواقع الموضوعي. وقد حاول سارتر في مرحلة تالية أن يصحح هذا المذهب بالدعوة إلى الالتزام في الفن.
ثانيًا: مفهومي الفن والجمال في المنظور لإسلامي
المفاهيم الكلية للمنظور الجمالي الإسلامي: يستند المنظور الجمالي الإسلامي إلى المفاهيم القرآنية الكلية: التوحيد والتسخير والاستخلاف.
مفهوم التوحيد: ينطلق المنظور الجمالي من اعتبار أن الجمال صفه ألوهية: قال الرسول(صلى الله عليه وسلم) «إن الله جميل يحب الجمال» (صحيح مسلم من رواية عبدا لله بن مسعود ج1، ص93 كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه باب 39. ومسند أحمد عن أبي ريحان, ج4، ص133-134). وبالتالي فان أولى نتائج تطبيق مفهوم التوحيد (توحيد الألوهية تحديدًا) هو إفراد الجمال المطلق لله تعالى، أي أن المنظور الجمالي الإسلامي قائم ابتداء على التمييز بين المستوى المطلق للقيمة الجمالية، الذي ينفرد به الله تعالى، والمستوى المحدود لها، الذي يختص به الإنسان.
الظهور الصفاتى والذاتي: وللجمال المطلق الذي ينفرد به الله تعالى شكلين من أشكال الظهور: ظهور ذاتي في الحياة الآخرة، وظهور صفاتي في الحياة الدنيا، يقول ابن القيم ومن أسمائه الحسنى الجميل وفي الصحيح عنه (إن الله جميل يحب الجمال)، وأتمهم معرفه من عرفه بكماله وجلاله وجماله سبحانه ليس كمثله شيء في سائر صفاته، ولو فرضت الخلق كلها على أجمل صورة وكلهم على تلك الصورة ونسبت جمالهم الظاهر والباطن إلى جمال الرب سبحانه لكان أقل من نسبة سراج ضعيف إلى قرص الشمس، ويكفي في جماله أنه لو كشف الحجاب لأحرقت سبحاته ما انتهى إليه بصره من خلقه)(4)، كما أن للأخير شكلين:
أولاً: شكل تكويني: يتمثل في الكون "الموضوعي" والفطرة "الذاتية" كمصدر للمستوى المحدود للقيمة الجمالية، والدال على المستوى المطلق لها: قال تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) (الملك: 5)، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) (ق:6)، وقال تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (النحل: 8). يقول ابن القيم (ويكفي في جماله تعالى أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا والآخرة فمن أثار صنعته).
ثانيًا: شكل تكليفي: يتمثل في الوحي كدال على المستوى المطلق للقيمة الجمالية.
مفهوم التسخير: ومضمونه أن سائر الأشياء والظواهر التي لها درجة التسخير تظهر صفات الله تعالى (ومنها الجمال كصفة الألوهية) على وجه الإجبار، فهي بتضمنها للمستوى المحدود للقيمة الجمالية، دائمًا آيات داله على المستوى المطلق للقيمة الجمالية. هذا المستوى المحدود للقيمة الجمالية قائم على أن أي ظاهرة في الكون عبارة عن مجموعة من العلاقات التي تربط مفرداتها خلال تتابعها خلال الزمان، فالظاهرة الجمالية هي نسق (مجموعة من العلاقات التي تربط مفرداتها سواء كانت ظاهرة جمالية كونية أو ظاهرة جمالية إنسانية الفن)، وهذا التعريف السابق يمكن أن نستخلصه من لفظ نسق في اللغة العربية (النسق من كل شيء ما كان على طريقه نظام واحد عام في الأشياء يقال نسق الدر ونسق كتبه ونسق الكلام عطفه على بعضه ويقال جاء القوم نسقا وزرعت الأشجار نسقا)(5) وهو ما عبر عنه القرآن بمصلحات عدة كالوزن والتسوية والتقدير: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (الحجر: 19)، (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الانفطار: 6-7)، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر 49).
مفهوم الاستخلاف: ومضمونه إظهار الإنسان لربوبية وألوهية الله تعالى في الأرض على وجه الاختيار، بالعبادة والعبودية، وهو ما يكون على المستوى الصفاتي، بإظهار صفات الله تعالى (ومنها الجمال كصفة الألوهية)، أي أن مضمونه هنا إظهار الإنسان للمستوى المطلق للقيمة الجمالية في واقعة المحدود بالزمان والمكان على وجه الاختيار، وهو ما يتحقق منهجيًا عندما يتخذ الإنسان الجمال كصفه ألوهية قيمه مطلقه يسعى الإنسان لتحقيقها في الأرض، دون توافر له إمكانية التحقيق النهائي لها يقول الإمام الغزالي (فإن كمال العبد وسعادته في التخلق بأخلاق الله تعالى، والتحلي بمعانيه وصفاته وأسمائه بقدر ما يتصور في حقه .. لان استعظام الصفة واستشرافها يتبعه الشوق إلى تلك الصفة، وعشق لذلك الجلال والجمال، وحرض على التخلي بذلك الوصف إذا كان ذلك ممكنًا... وبذلك يصير العبد ربانيًا أي قريبا من الرب تعالى)(6).
وللاستخلاف طبقًا لهذا المستوى المنهجي وجهان:
وجه سلبي: يتمثل في تحرير الإنسان من إسناد المستوى المطلق للقيمة الجمالية لسوي الله تعالى، وعلى هذا الوجه يمكن أن نفسر النصوص التي فهم البعض منها تحريم بعض الفنون، فالمقصود من هذه النصوص ليس تحريم المستوى المحدود للقيمة الجمالية كدال على المستوى المطلق لها، بل تحريم إسناد المستوى المطلق للقيمة الجمالية لسوي الله تعالى.
الوجه الإيجابي: يتمثل في أن إفراد المستوى المطلق للقيمة الجمالية لله تعالى، يمد الفرد والمجتمع بإمكانيات غير محدودة للتطور الجمالي لأنه لا تتوافر لهما إمكانية التحقيق النهائي له فضلاً عن تجاوزه. لذا وردت جملة نصوص تفيد الإباحة المقيدة للتصور الجمالي إبداعًا وتذوقًا. ولا يترتب على الاستخلاف على الوجه السابق بيانه إلغاء تصور الإنسان للقيمة الجمالية، بل تحديده وذلك باتخاذ مقتضى صفة الجمال ضوابط موضوعيه مطلقة لتصوره القيمة الجمالية.
التمييز بين الشكل والمضمون: غير أنه يجب التمييز هنا بين الأفكار التي يريد أن يثيرها الإبداع الجمالي، والتي يقال لها محرك العمل الفني (المضمون)، والأفكار التي يصوغها الإبداع الجمالي في العمل الفني (الشكل).
المضمون: فالنوع الأول من الأفكار هي غاية الإبداع الجمالي وهي بالتالي التي تخضع للقاعدة السابقة، أي اتخاذ مقتضى صفة الجمال الإلهية التكويني والتكليفي كضوابط موضوعية مطلقة لها. يتعلق بمقتضاها التكويني فإن هناك سنة إلهية نوعية تضبط حركة الإنسان وهي أن حركته تتم عبر ثلاث خطوات (المشكلة، الحل، العمل)، وبناءا على هذا فإن هذا النوع من الأفكار إنما تريد أن تثير فكرة مشكلة، أو فكرة حل، أو فكرة عمل، أو أن تثير فكرة تتصل بالعلاقة بين هذه العناصر أي (فكرة منهج)7. أما فيما يتعلق بالمقتضى التكليفي للجمال كصفه ألوهية، فقد قررنا سابقًا انه يتمثل في مجموعة من القواعد التي تحدد للإنسان نوع المشاكل التي يواجهها، وطريقة العلم بها، ونمط الفكر الذي يصوغ هذه الحلول، ونمط العمل اللازم لتنفيذ الحل في الواقع. وبالتالي فإن هذا النوع من الأفكار هي غاية الإبداع الجمالي ومضمونه يجب أن يكون محدودة بهذه القواعد.
التزام لا الزام: غير إنه يجب تقرير أن كل ما سبق من حديث يقع في إطار الالتزام لا الإلزام، لأن اتخاذ الله تعالى غاية مطلقة، واتخاذ صفة الجمال الإلهية، مثل أعلى مطلق يتعلق بالعبادة القائمة على الالتزام الذاتي لا الإلزام الموضوعي. فخضوع غاية الإبداع الجمالي لمقتضى صفة الجمال الإلهية التكويني والتكليفي يكون بعد الالتزام المبدع بالله تعالى كغاية مطلقة وصفة الجمال الإلهية كمثل اعلي مطلق.
الشكل: أما النوع الثاني من الأفكار التي هي وسيلة الإبداع الجمالي وشكله، والتي هي معادل موضوعي للأفكار الأولى، فهي تشكيل خيالي غير قابل للوجود أصلاً، ولكل مبدع فنه الخاص في كيفية تركيب وترتيب مفردات الموضوع الجمالي. فالإبداع الجمالي على هذا الوجه لا يمكن أن يتطابق مع المقتضى التكويني لصفة الجمال الإلهية (الواقع والسنن الإلهية التي تضبط حركته) لأننا عندما نلزم المبدع (بأن تكون أدوات تعبيره مستمده من الواقع أو مطابقة لها لا نفعل أكثر من تحويله إلى رجل شرطة يكتب محاضر دقيقة ووافية بالأحداث المكلف برصدها)(8) . وهو الخطأ الذي وقعت فيه الواقعية الاشتراكية.
الحياة الآخرة والظهور الذاتي للجمال الإلهي المطلق: والوجود في المنظور الوجودي الإسلامي غير مقصور على الوجود الشهادي (الحياة الدنيا)، بل يمتد فيشمل الوجود الغيبي (المتضمن للحياة الأخر)، والحياة الآخرة في المنظور الإسلامي قائمة على ظهور ذاته تعالى، فهي قائمة على ظهور المستوي المطلق للقيمة الجمالية في درجة وجوده الذاتي، وقد أشار ابن القيم إلى هذه الدرجة فقال (وجماله سبحانه على أربع مراتب، جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال وجمال الأسماء. .. أما جمال الذات وما هو عليه فأمر لا يدركه سواه ولا يعلمه غيره ونسبته عند المخلوقات منه إلى تعريفات تعرف بها إلى من أكرمه من عباده فإن تلك مضمون عن الاغيار محجوب بستر الرداء والإزار كما في قوله (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري)، وفى الحياة الأخر يكون جزاء الإنسان على إظهاره أو كتمانه لصفات الله تعالى (ومنها الجمال كصفه الوهية)، ويشمل الجزاء بالإضافة إلى النعيم أو العذاب، نصيب الناس من هذا الطهور الذاتي "التجلي" إذ إنه ليس شاملاً لجميعهم، فمن أظهر صفات الله تعالى (ومنها صفة الجمال الإلهية)، كان له نصيب من هذا الظهور الذاتي، ومن كتم صفات الله تعالى في الدنيا كان محجوبًا عنه، والناس يتفاضلون في درجات هذا الظهور أو الاحتجاب الذاتي في الآخرة كما تفاضلون في درجات إظهار أو كتمان صفات الله تعالى في الدنيا. كما ورد وصف الجنة في القرآن والسنة بما يدل على الجمال المطلق، كما ورد وصف النار بما يدل على القبح المطلق قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 32)، فالآية تشير إلى إباحة التمتع بالقيمة الجمالية المحدودة "الزينة بالتعبير القرآني" في الدنيا، وإن المؤمنين سيستمتعون بالقيمة الجمالية المطلقة "الزينة الخالصة بالتعبير القرآني" في الآخرة.
الهوامش:
(1) - د. زكريا إبراهيم، هيجل، مكتبه مصر، القاهرة ص95.
(2) - د. أميرة حلمي مطر، فلسفه الجمال، دار الثقافة، ص100.
(3) - د. زكريا إبراهيم، فلسفه الفن في الفكر المعاصر، ص232.
(4) - ابن القيم، بدائع الفوائد، ط 2، 1973، ص181-182
(5) - صالح الشامي، الظاهرة الجمالية في القرآن، المكتب الإسلامي، بيروت، ص 130.
(6) - الغزالي، المقصد الأسنى، دار الكتب العلمية، ص20-21.
(7) - عصمت سيف الدولة، إعدام السجان، دار المسيرة، بيروت، ص100.
المراجع والمصادر:
1. ابن القيم، بدائع الفوائد، القاهرة، ط 2، 1973.
2. أميرة حلمي مطر، فلسفه الجمال، دار الثقافة، القاهرة، 1957.
3. الغزالي، إحياء علوم الدين، المجلد الثاني، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ
4. الغزالي، المقصد الأسنى، دار الكتب العلمية، بدون تاريخ.
5. زكريا إبراهيم، هيجل، مكتبه مصر، القاهرة 1967.
6. عصمت سيف الدولة، إعدام السجان، دار المسيرة، بيروت، 1975.
7. مصطفى عبد الرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، دار الكتاب المصري – دار الكتاب اللبناني، 2011م
8. صالح الشامي، الظاهرة الجمالية في القرآن، المكتب الإسلامي، بيروت 1978.
تغريد
اكتب تعليقك