صنعاء .. تشرب قهوتها على صرح ممردالباب: مقالات الكتاب
عبدالرحمن مراد صنعاء - اليمن |
في الصباح الباكر وأنت تتنفس بهاء صنعاء ودفء أزقتها وحواريها وتغازلك نكهة قهوتها وبنّها وأصوات البائعين في باب اليمن وأسواقه التقليدية ذات التواشج مع حركة التاريخ تشعر أن الشمس التي عبدها السبئي القديم ماتزال تشرق من مباني أزال العابقة برائحة المكان والتاريخ. وكأني بها تحرق بخور معبدها بنكهة السبئي القديم, وبنكهة تُبّع الذي كسا الكعبة في الزمن الغابر, وهي تقف اليوم على ناصية الزمن كي تسامر ذلك الهدهد الذي وقف على شرفتها كي يعود إلى سليمانه بنبأ المحبة اليقين.
وأنت تغوص في تفاصيل صنعاء القديمة تشعر بجمال مبانيها الجذلى وشموخ مشربياتها الكحلى التي تغازل ظمأ روح الباحث عن سحنته في نشوة الماضي العريق لمدينة سام التي يتحدث عنها التاريخ كأول تجمع اجتماعي يشيده سام ابن نوح بعد الطوفان العظيم الذي طمر الأرض بعد أن بلعت ماءها وأقلعت السماء وغيض الماء واستوى نوح واتباعه على الجودي, وتذكر المصادر التاريخية أنها أضحت عاصمة للدولة السبئية في القرن الخامس تقريبًا, وصنعاء من المدن التاريخية المأهولة باستمرار في حقب التاريخ المختلفة, ويتحدث الباحثون أنها وردت في نصوص المسند بصيغة "صنعوا" وصنعوا كما يقولون مشتقة من "مصنعة" وتعني مصنعة عند عرب الجنوب الحصن, وهي بالنظر إلى موقعها الجغرافي كذلك, فالمدينة تحوطها الجبال وهي تربض على سهل فسيح يحميها نقم في لياليها الباردة, وقد اتسع مداها الأفقي لكن حديثنا عن صنعاء القديمة قصرًا وحصرًا وهي التي تمتد من جبل نقم شرقًا الى جبل عيبان غربًا والكثير يتحدث عن الحصن التاريخي القاطن في الطرف الشرقي من المدينة القديمة كنواة للمدينة القديمة وهو المكان الذي يعرف اليوم باسم "قصر السلاح" أو قصر غمدان, ويتحدث الباحثون أن الجبال التي تحتضن صنعاء بذراعيها وهي (نقم, حدة, عيبان, عصر) فقد ورد ذكرها في النقوش المكتشفة التي يعود تاريخها للقرن الأول لنشأة المدينة ويبدو أن المدينة قد اكتسبت أهميتها من خلال البعد السياسي الذي جعل منها عاصمة للدولة السبئية القديمة حيث أصبح لها سورًا دائريًا ما يزال قائمًا إلى اليوم, وللمدينة خمسة أبواب هي:
- باب اليمن: وهو باب ينفذ إلى الجهة الجنوبية لمدينة صنعاء القديمة وله أسماء أخرى لم تكتسب شهرة الاسم الأصلي وهي باب عدن – ويستخدم أهل اليمن أسماء الأماكن للدلالة على الجهات كعدن للجنوب والشام للشمال – وباب غمدان, وباب الحرية.
- باب شعوب: وهو حي وبابه ينفذ الى الجهة الشمالية للمدينة.
- باب ستران: وهو باب ينفذ إلى الجهة الشرقية باتجاه القلعة وجبل نقم وعرف باسم باب القصر أي قصر غمدان.
- باب خزيمة: وهو باب باتجاه الجنوب وهو تابع للسور الخاص بحي بير العزب, - وخزيمة مقبرة شهيرة بصنعاء وردت في شعر الأدباء المعاصرين والقدامى – والباب يؤدي إليها.
- باب البلقة: وهذا الباب لم يعد له من أثر وكان باتجاه الجنوب وكان يشكل جزءًا من السور الخاص بحي قاع اليهود وما يزال الاسم متداولاً لكن التطور العمراني الذي حدث بعد الثورة اليمنية في ستينيات القرن الماضي أحدث طمسًا كاملاً لمعالمه ولم يبق سوى اسمه.
- باب الروم: وهذا الباب باتجاه الشمال الغربي وهو يتبع السور الخاص بحي بير العزب.
- باب القاع: وهو الباب آخر لسور قاع اليهود, وقاع اليهود حي تم تخصيصه وتحصينه وسكنه اليهود دون غيرهم في الماضي.
أحياء صنعاء القديمة:
- حي بير العزب: هذا الحي يقع في شمال صنعاء القديمة بين حي القاع والمدينة وكان يفصله عن صنعاء القديمة السور الذي يحيط بها وما تزال بقاياه شاهدة على ذلك الزمن الموغل في القدم, وتقول المصادر التاريخية أن حي بير العزب نشأ في الزمن الأول للتواجد العثماني في اليمن (1538-1635م) وكان قبل ذلك حدائق وبساتين, وسكن حي بير العزب موظفو الدولة العثمانية, وقيل أن طابع الترف الذي مازج بين الطابع التركي والطابع اليمني كان بارزًا في الهندسة المعمارية حيث استحدث المفرج والنافورة التي تظللها الأشجار المثمرة وتحيط بها عرائش العنب, وكان حي بير العزب من أجمل أحياء صنعاء لسعة شوارعه وكثرة حدائقه وبساتينه, وقد كان الحي موضوعًا للأدب اليمني في فترات متفاوتة من التاريخ, فقد سطر الأدباء المقامات والقصائد في وصفه وفي المقارنة بينه وبين حي الروضة, ولهم في ذلك نتاج كبير يذهل العقل ويستثير النفوس كانوا يتسامرون به في مقائلهم ومناسباتهم الاجتماعية إنشادًا أو القاء أو غناء, وقد تركوا إرثًا فنيًّا ما زال يمد الحاضر بفيض تدفقه.
- حي الروضة: حي الروضة يقع شمال صنعاء القديمة, وقيل أن أول من بناها هو السلطان حاتم ابن أحمد الهمداني وهو من سلاطين دولة بني حاتم التي حكمت اليمن من 492 هجري إلى 569 هجري وسميت بروضة حاتم, وكانت متنفسًا حيويًا لسكان صنعاء لجمالها, وكثرة بساتينها, وشهرة عنبها من بين سائر المناطق, وكانت بيوتها من الطين تطل على بساتين وارفة الظلال, وقيل أن عنبها كان مفضلاً عند اليهود حيث كانوا يعصرون منه خمورهم وقد أشتهر ذلك عنهم.
والروضة وبير العزب من الأحياء التي تحضر في مادة الأدب في القرون الماضية, فالأدب كان الحامل الحقيقي لشهرة الحيين, كما كان التنافس والمقارنة التي عقدها الأدباء في قصائدهم ومقاماتهم بين الحيين دورًا في تخليدهما في ذاكرة الأجيال, وتذكر ماضيهما.
- حي حدة: يقع هذا الحي جنوب غرب صنعاء وكان مدينة آهلة ذكرت في النقوش اليمنية القديمة في القرن الأول الميلادي.
وكان منتزها مهما وهو من الأحياء الأكثر شهرة وأمتاز بأشجار اللوز والاجاص والتين وغيرها من أشجار الفاكهة, ويذكر المؤرخون أن أشهر مميزات الحي طاحونته التي كانت تطحن الحبوب باستخدام قوة اندفاع المياه الخارجة من البركة التي كانت تحت موقع "عين خميس" وقيل أن البركة تم إنشاءها خصيصًا للطاحونة, وأوثق المصادر تتحدث عن إعادة ترميم البركة والطاحونة في زمن العثمانيين الثاني (1872- 1918م) وبسبب نضوب ماء الغيل المسمى غيل خميس الذي كان يسقي البساتين ويشغل الطاحونة توارت هذه الطاحونة كما أن العمران اجتاح المنطقة حديثًا ولم يعد في المكان شيء من مظاهر الماضي سوى تلك القصص التي ما عالقة بذكرة الناس.
أسواق صنعاء:
من البديهي القول أن صنعاء كانت مركزًا اقتصاديًا مهمًا وكانت العرب تقصدها لشهرة سوقها وثقله وتنوعه وكانت تشكل مقصدًا للكبار تجار العرب في رحلة الشتاء ورحلة الصيف التي ذكرها الله في القرآن الكريم, ونظرًا لما تمثله صنعاء من مركزية اقتصادية في زمنها القديم فقد تعددت مناشطها وتبعًا لتنوع المناشط تنوعت المسميات وتخصصت الأسواق وفق نظام إداري متقن يلبي حركة المجتمع التاريخي في مستوياته الحضارية التي كان عليها لذاك نقرأ في المرجعيات التاريخية ما يربو عن 45 اسمًا لسوق متخصص مثل سوق الحطب, وسوق الملح, سوق العنب, سوق الحبوب, سوق الذهب, سوق باب شعوب, سوق الصرافة, وثمة أسواق بأسماء ذات دلالة محلية, وما تزال الكثير من المسميات للأسواق قائمًا إلى اليوم, وما يزال نشاطها مستمرًا كسوق الملح, وسوق الذهب, وسوق الزبيب وغيرها فقد اعتادها الناس فأصبحت جزءًا مهما من حياتهم اليومية والاسبوعية التي درجوا عليها.
الحرف اليدوية:
من الأقوال المشهورة التي يتداولها الوسط الثقافي في العديد من الكتب القول أن صنعاء سميت بهذا الاسم لكثرة الصناعة فيها ولذلك نجد في أشعار العرب الفخر بالمهند اليماني, وبالبرد اليماني, وبالرمح الرديني, وتعود فكرة الصناعة إلى نبي الله سليمان عليه وعلى نبينا السلام, فالزبورية أسست لفكرة لنشاط الانتاجي فشاعت في ثقافة أهل اليمن لإيمانهم بها في زمن الملكة بلقيس كما يتحدث عن القصة القرآن الكريم, ومن أشهر الصناعات المسوغات الفضية والتي ماتزال إلى اليوم وهي من الصناعات التي ظهر فيها الحس الإبداعي والفني للإنسان اليمني القديم وصناعة العقيق الذي أخذ شهرة عالمية كبيرة ويجد سوقًا رائجة لارتباطه ببعض المعتقدات عند بعض الجماعات والطوائف, ومن ثم صناعة النصال والجنابي وهذه الصناعة ترتبط بهوية الشخصية اليمنية التي تتمنطق الجنبية كجزء من مظهرها العام وتفاخر بها ولها مواصفات وتصل قيمة الواحدة منها الى ملايين الريالات.
النمط المعماري البديع:
تمتاز صنعاء بنمط معماري بديع وبرؤية هندسية تراعي حركة الشمس في فصولها الأربعة, وبطابع كاد أن يكون فريدًا في العالم, كما أنه يراعي الدفء الاجتماعي والبعد العسكري في البناء, وتكويناته القديمة تراعي خصوصية اقتصاد الاسرة اليمنية القديمة.
المقشامة:
هي مساحات خضراء تتوسط الأحياء كانت جزءًا من التكوين الهندسي للمدينة في مظهرها العام, وكانت تمد السكان ببعض الخضروات والفواكه وكانت بعض المباني تطل عليها, وكان في كل حارة "مقشامة" وبلغ عددها وفق احصاء إلى اكثر من 45 "مقشامة" تم تأهيل بعضها حين إعلان صنعاء كعاصمة للثقافة العربية عام 2004م للعودة للقيام بوظيفتها الاقتصادية والجمالية ولكن تعثرت الفكرة منذ نشب الصراع السياسي بين القوى الوطنية اليمنية (منذ عام 2007م إلى اليوم) وتنشط المقاشم في صنعاء في شهر رمضان وقد اتسعت فكرتها لتعم بعض الحياء الحديثة ويسترجع ذاكرته التاريخية من خلال ارتياده "للمقاشم" في صنعاء الحديثة.
مجالس صنعاء:
تشتهر صنعاء بمجالس الأدب والفن, وأهلها أكثر ميلاً إلى الهدوء وراحة البال, وأكثر انجذابًا للطرب الأصيل وللإنشاد الديني الأقرب إلى التصوف ولكنه ألا يستغرق نفسه فيه إذ يتعامل معه بروح صنعاء وليس باستغراق الصوفي في الحلول, وقد أشتهر في صنعاء فن المقامة في زمن ما قبل النهضة وظل إلى عقد الأربعينيات في القرن العشرين يحضر بقوة في المشهد وفي المجالس والمقائل وقد قيل أن أحد الفقهاء وأسمه أحمد ابن عمر المزجد (ت 930 هجري) كان إذا سئم القراءة والمطالعة استدعى بمقامات الحريري فيطالع فيها ويسميها طبق الحلوى, وكذلك ظل الحال في صنعاء وفي الحواضر اليمنية الاخرى مثل كوكبان, والمحويت, وحجة, وصعدة, وشهارة, وهي حواضر تاريخية ذات تواشج ثقافي في اليمن القديم.
من أبرز موضوعات المقامات التي كانت تزين مجالس صنعاء في تثاقفهم وتسامرهم المفاخرة بين البلدان وقد نالت "الروضة " و"بير العزب " الحظ الأوفر من تلك المفاخرات والتي بدأها الأديب عبدالله على الوزير (توفى 1147هجرية) بمقامة مشهور في التفاخر بين البر والروضة بعنوان (قراط الذهب في المفاخرة بين الروضة وبير العزب) وكانت مقامته فتحًا كبيرًا في عالم المحاكاة والنسج على المنوال, ومن الموضوعات الأخرى هي المفاخرة بين النباتات وأيضًا المفاخرة بين ما يستجد من اختراعات وبين ما يستخدمه الإنسان من أدوات في حياته اليومية, وكانت تلك الموضوعات مادة الثقافة في مجالس صنعاء الادبية بالإضافة إلى الإنشاد والألحان الشجية التي أصبحت تشكل هوية ثقافية لصنعاء وما جاورها من حواضر إلى اليوم.
في منتصف القرن السادس من القرن الماضي وبعد اندلاع ثورة سبتمبر 1962م كان حضور صنعاء حضورًا كبيرًا في مادة الأدب وكانت دلالتها في مادة الادب تتجاوز المكان الجغرافي بل انزاح ليشمل كل اليمن, وأصبحت مادة للتثوير وحضرت بدلالات شتى عند البردوني كشاعر ثوري بامتياز وبدلالة اجتماعية عند الشاعر المقالح.
صنعاء أغنية الزمن:
ما تزال صنعاء اليوم تبدع أغنيتها, وهي ترمق الأفق البعيد من "مفارجها" العتيقة في بير العزب وحاراتها القديمة, وما تزال تحتسي قهوتها المعتقة بنشوة الزمن والأدب والفن, وما يزال بوحها الصباحي يشعر زائرها بعبق الماضي التليد وببخور المساجد والمعابد والمجالس والمقائل, أنها صنعاء التي تزرع حنانها واشتياقها في كل قلب عربي زارها ذات يوم.
على صنعاء محبة الله وسلامه.
تغريد
اكتب تعليقك