ملحمة التيه ومساءلة الواقعالباب: مقالات الكتاب
د. عتيقة هاشمي أستاذة باحتة بكلية الآداب جامعة محمد الخامس – الرباط |
الكتاب: "تضاريس التيه"
المؤلف: مريم التيجي
الناشر: دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان.
عدد الصفحات: 118 صفحة.
توطئة:
أن تعيش الواقع، وان تكون جزءًا من أحداثه، تتفاعل مع شخصياته، وتتقلب عبر أمكنته وأزمنته، يبدو أمرًا هينًا ومألوفًا، لكن أن تقرأه رواية أو مجموعة قصصية، يصبح الأمر مختلفًا، فأنت تشعر حينها بالامتعاض من هول ما تتمتم به شفتاك، وربما بالتقزز من مرارة الصور التي تتبدى أمامك، وأحيانًا أخرى ترثي ذاتك عبر ما يجتاحك من أحاسيس وانت تقرأ ما بين السطور تحاول استكناه المغلق علك تصل إلى العكس أو تجعل من الكاتب مجرد مدعي.
الأحداث:
إن قصص (تضاريس التيه) صرخة وجع ساخرة، تعبر عن النتوءة القابعة في أركان مجتمع يدعي المدنية والتحضر، يتضح ذلك من المتن الحكائي للقصص، فهي تبني قيمًا وتهدمها، تعبيرًا عن احتجاج صريح اتجاه انسان العصر الذي يدوس بكلتا قدميه القيم الإنسانية التي تميزه عن باقي المخلوقات. من هذا المنطلق تأرجحت تضاريس التيه بين قصص قصيرة وأخرى قصيرة جدًا وبين جملة من التدوينات أو بالأصح شذرات قصيرة، إلا أن عمق دلالتها وروعة سردها تجعل القارئ يتجاوز النهاية التي رسمتها الكاتبة ليشرع في بناء عوالم تنتمي إليه. إن المتصفح لفهرس المجموعة القصصية لابد أن تثيره عناوين كثيرة منها: (وُلِدَ مَيِّــتـًا)، فالكاتبة هنا تعري عن الواقع الاجتماعي الذي يصادف لحظات المخاض والولادة، والمعاملة المزرية التي تتعرض إليها المرأة المغربية الفقيرة في المستشفيات العمومية التابعة لوزارة الصحة والتي تخلو من أبسط الشروط الصحية، ناهيك عن العبارات الجارحة التي تصدر من الممرضات أو (معلمة الصف) كما سمتها الكاتبة، لِتَتَلَقَّى الأم في النهاية الخبر الفاجعة، وهو ولادة الطفل ميتًا. هذا الموقف يضطرنا إلى الوقوف لحظة للتأمل، ذلك أن القهر الذي تتعرض له المرأة من أجل أن تأتي بحياة جديدة إلى هذا العالم ينتهي بكارثة، بل باللاوجود. لم تكتفي مريم التيجي بهذا بل تجرأت على النبش في جسد العلاقة بين الرجل والمرأة من خلال قصتها (بيت الطاعة) التي تتعرض فيها للعنف الزوجي، هذا العنف الذي يجعل من المرأة أسيرة الإقصاء، أسيرة قرار اتخذه الوالدان، وعليها ان تدفع ثمنه غاليًا من حريتها.
الشخوص والأفضية:
تورد مريم التيجي شخصياتها مغلفة بنظرة مستاءة للعالم، ويرافق هذه النظرة التوظيف الساخر من الكاتبة، فالشخصيات تكاد تكون لا انسانية بفرط ما تحمله من قيم سمجة سخيفة، وبالنظر إلى ما تتحمله من آلام لا تقوى على حملها . يظهر ذلك جليًا في استعانة الكاتبة باللغة العامية التي تستدركها بما يشبه ترجمة باللغة الفصحى وفي هذا تشكيل فني لرؤيتها.
إن المتأمل جيدًا في المؤشرات اللغوية الدالة على الفضاء سيلحظ انها لا تخرج عن أفضية ذات مرجعية مغربية حيث الضجيج والصراخ والازدحام ..، أفضية أضفت عليها الكاتبة الحيوية والحركية وهو ما أكسبها سمات المكان الإبداعي المتخيل.
الرؤية السردية:
توزع الحكي في هذا النص بين راوٍ مشارك في الأحداث وآخر محايد، وأرى أن كليهما واحد، فهو عندما يود كشف الذات ليقترب من عالمها أكثر يوظف ضمير المتكلم، وعندما يود الارتقاء لينظر إلى العالم الذي يحكي عنه يستعمل ضمير الغائب، وفي كلتا الحالتين ينم الأمر عن دقة في التصور الفني والخطابي.
خلاصة:
قد يبدو للقارئ أن موضوعات (تضاريس التيه) جاهزة ومستهلكة، غير أنها فعلاً عبرت عن قلقها الذي بدا جليًا على مستوى الشكل والمضمون، فالكاتبة تمكنت في جراءة كبيرة من كسر الطبوهات اللفظية في عدد من قصصها وفي ذلك مغامرة منها، أو ربما هي رغبتها في تجلية عفونة الواقع المأساوي للمرافق العمومية، فأحداث قصص المجموعة مستوحاة من وقائع حقيقية أثارت اهتمام الكاتبة فاستلهمت منها مادتها الأدبية حيث أبطالها أناس يعانون تفسخ القيم السمجة والتناقضات المجتمعية، وهو ما ساهم في تعميق المأساة، ولعل القارئ يستشفها انطلاقا من رؤيته الخاصة لأحداث المجموعة القصصية.
تظل (تضاريس التيه) تمردًا صارخًا على الأوضاع الاجتماعية المزرية، وتحسرًا على ضياع القيم الإنسانية الإيجابية التي لم يعد لها وجود. لذلك أدعو القراء إلى الاستمتاع بالتيه في مساءلة للواقع.
تغريد
اكتب تعليقك