جنود الثورات المجهولون.. كتّاب زرعوا أدباً وحصدوا «ربيعاً عربياً»

نشر بتاريخ: 2016-08-25

فكر – الرياض:

حظي الأدب والأدباء بدور بارز في التمهيد لمعظم ثورات أممهم في العصور السالفة والمعاصرة، واقترن بتلك الثورات شعراء وخطباء محرّضون؛ على شاكلة الكاتب "فولتير" خطيب الثورة الفرنسية (1789–1799) ومؤجج جذوتها.

ورغم أن الأدب الثوري العربي قدْ لا يشير إلى شخصية بعينها وقفت خلف الثورات التي اندلعت في عدد من الدول العربية في الأعوام الأخيرة، والتي أطلق عليها "الربيع العربي"، لكن ذلك لا ينفي الأدوار التي لعبتها نماذج أدبية كثيرة في تعبئة المتلقّي وتجهيزه فكرياً نحو التمرد بوجه واقعه المرير طيلة عقود مضت.

خمسة بلدان عربية شهدت خلال السنوات الخمس الماضية، ثورات انطلقت جميعها في النصف الأول من العام 2011، لتبدأ من تونس، تبعتها في ذلك مصر، ثم ليبيا، فسوريا، وختاماً باليمن، لتكتسب تلك الثورات اسم "الربيع العربي"، وخلافاً لذلك جنح فريق من المراقبين، إلى وصفه بأنه "خريف بلون الورق الأصفر المتساقط"، ويظل وجه الاتفاق بين الفريقين، على أنه "حركات احتجاجية ضد أنظمةِ حكمٍ موصوفة بالفساد والاستبداد والفشل في تلبية احتياجات ومطالب شعوبها".

وفي الحالة الراهنة، قد لا يظهر أثرٌ يُذكر للأدب والأدباء في التحريض المباشر على الاحتجاجات إلاّ على نطاق محدود؛ لكنّ ذلك لا ينفي أنّ ثمة دورٌ ما لعبته تلك الفئة في التحريض على الثورات طيلة عقود سابقة، من خلال تذكير المتلقي وتوعيته بمفاهيم الحرية والكرامة، وزرع بذور الرغبة في كسر القيد، بل والتضحية.

ويرى مراقبون، أن فئات الكتّاب والأدباء تنوعوا عقب انطلاق الثورات المعاصرة، بين من أنتج كتابات تحرّض على خلقِ حالةٍ ثوريةٍ قادرة على الخروج من قُمقم الخنوع إلى مواجهة الاستبداد؛ وآخرون عاشوا حالةَ يأسٍ فشلوا في كتمانها، وأخرجوها إلى الملأ بكل مكنوناتها، وفريق آخر رفض التغيير بعد أنْ ألف حياةً نمطيةً لعقودٍ أربعة في ليبيا، ومثلها في اليمن، وستة عقود في مصر، وخمسة في سوريا، وعقود مختلف عليها في تونس.

أمّا الفئة الأولى، فقد استقت التجربة من الشاعر التونسي، أبو القاسم الشابي، الذي ألهب حماس أبناء شعبه قبل سبعة عقود خلال حقبة الكفاح ضدّ الاستعمار الأجنبي، وظل حاضراً في الوعي الجمعي العربي.

وكأن قدر "الشابي" أن تقود بلاده الحراك الجماهيري العربي الذي انطلق منها (عام 2011)، وأنشدت الجماهير التونسية بيته الشهير في الميادين كما فعلت قبل عقود: "إذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياة.. فلابُدَ أنْ يستجيبَ القدرْ"، لترد عليها الجماهير المصرية بهتاف موحّد: "الشعب يريد إسقاط النظام".

وإذا كانت شرارة الثورة التونسية (أطاحت بزين العابدين بن علي في يناير/كانون ثاني 2011) قد أشعلها شابٌ بائعٌ للخضار (محمد البوعزيزي) أحرقَ نفسه في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، محتجاً على وضعٍ معيشي متردي، فقد شهدت مصر مقدمات من هذا النوع، تمثلت في حالات انتحار لمواطنين بسطاء، هرباً من قسوة الظروف وفقدان الأمل، لتنذر تلك الحالات بإرهاصات ثورة انطلقت شرارتها يوم 25 يناير/كانون ثاني 2011، لتطيح بنظام الرئيس السابق حسني مبارك الذي اعتلى سدة الحكم طيلة ثلاثة عقود (1981- 2011).

وتلتقي الشعارات الأولى للحركات الجماهيرية في البلدان الخمسة، عند مشتركاتٍ جامعة في المضمون، حتى وإنْ اختلفت في اللغات المَحْكِية؛ لكنْ ثمّة ما يشير إلى همٍّ جامع التقى عليه الأدباء بعيداً عن التعريفات الجغرافية السائدة؛ إذْ ينبري الشاعر السعودي "عبد الرحمن العشماوي" مشاركاً بقصائده ما يجري على امتداد البلدان العربية بحماسةٍ وتحريض، وإنْ كانت سوريا أخذت حيزاً أكبر من اهتماماته، بما يُفهمُ منه حجم ما تعرض له السوريون من قتلٍ قياساً بغيرهم، فيقول في إحدى معنوناته متحسراً:

إذا قيلَ: المحبةُ والوئامُ

تلألأَ في خيالِ المجد شامُ

ولاحتْ في أصالتها دمشقٌ

ورفرفَ فوقَ غوطتها الحمامُ

ويكتمل مشهد دمشق في مخيلته، بعد سنين من الثورة المستمرة، مُستدراً رموزها التي أبتْ أنْ تغادرَ مخيلة الأدباء رغم طول اغتراب الشام:

كأنّ الجامع الأموي فيها عظيمُ القومِ بايعهُ العظامُ

ويبرزُ " قاسيون" كشيخِ قومٍ يحدّثهم وفي يده حسامُ:

لقد طالَ اغترابُ الشام عنّا وغيّب وجهها الصافي القتامُ

بدوره عبّر الشاعر العراقي "أحمد مطر"، من منفاه الاختياري في لندن بلغةٍ رمزيةٍ عن بلدان خمسة، شهدت حراكاً جماهيرياً ضد حكامها الذين وصفهم بـ "الأشرار" في عنوان قطعته الشعرية المعنونة بـ "خمسة أشرار"؛ ومن منطلقِ فهمه لتوصيف الجماهير لحكامهم، انتقل "مطر" ليصف كلاً منهم حسب التسلسل الزمني لانطلاق الحركات الاحتجاجية ضدّهم:

الأولُ يبدو سباكاً

والثاني ساقٍ في بار

والثالثُ يعمل مجنوناً

في حَوْشٍ من غير جدار

والرابع في الصورة بشرٌ

لكنْ في الواقع بشار

أما الخامس يا للخامس

شيءٌ مختلفُ الأطوار

ويبدو حسب الترتيب، إشارة الأبيات إلى الرئيس التونسي المخلوع، زين العابدين بن علي، والرئيس المصري المتنحي، حسني مبارك، والزعيم الليبي المطاح الراحل، معمر القذافي، ورئيس النظام السوري القائم، بشار الأسد، الذي لم يستجب لإرادة شعبه في التخلي عن الحكم، وأخيراً الرئيس اليمني المقال بالتوافق، علي عبدالله صالح، الذي ترك مقعد الرئاسة لكنه لم يترك الحكم، كما يرسمُ "مطر" بأبياته نهاية "الخمسة أشرار"، مع حسم حالات الحكام الثلاثة ونهايتهم المعروفة، والإبقاء على حالتي الحاكمين الرابع والخامس بنهايات لمْ تحسم بعد.

بدوره عبّر الشاعر المصري "فاروق جويدة" عن خيبةِ أملٍ من ثورةٍ لمْ توفر لشبانها فرصاً للعمل، ولمْ تنقلهم من العدم إلى حياة تبعث في نفوسهم الأمل؛ وفي بُكائيةٍ عميقةٍ، يرثي جويدة مجموعةً من الشبان هربوا من مصر إلى أوروبا بحثاً عن سُبلِ عيشٍ كريمٍ، وفرص عمل تتيح لهم البقاء أحياء بكرامة قبل أنْ تبتلعهم أمواج المتوسط قبالة شواطئ إيطاليا، بعد عامين ونصف على ثورة يناير؛ فيقول بأسى من لا زالت صورةُ الجلادِ ماثلةٌ أمام عينيه:

لا شيء يبدو في السَّماءِ أمامنا

غيرُ الظلام ِوصورةِ الجلاد

هو لا يغيبُ عن العيون ِكأنّه

قدرٌ.. كيوم ِ البعثِ والميلادِ

وتستمر حكايته عن حشودِ الموت، وعن العمر الذي يبكي والحنين الذي ينادي:

ما بين عُمرٍ .... فرَّ مني هارباً

وحكايةٍ يزهو بها أولادي

عن عاشقٍ هجرَ البلاد وأهلها

ومضى وراء المال والأمجاد

كلّ الحكاية .....أنّها ضاقتْ بنا

واستسلمت للصِّ والقواد

غير أنّ شاعراً آخراً عايش ميدان التحرير وسط العاصمة المصرية القاهرة أياماً وليالٍ مثل "هشام الجخ" يختلف مع "جويدة"، ويبتعد عن أجواء الآخرين الذين رأوا ضمناً أنّ "الثورة لمْ تعدْ ثورة، وأنّ الاستبداد ارتدى قميصاً آخراً"؛ بل رأي "الجخ" ثورةً بلغت منتهاها حين امتلكت قرارها وقالت قولها في خطابٍ إلى أُمِّه مصر:

فأنا ابنُ بطنك

وابنُ بطنك مَنْ أراد ومَنْ أقالَ ومَنْ أقرَّ ومَنْ نهى

صمتتْ فلولُ الخائفين بجبنهم

وجموعُ مَنْ عشقوك قالتْ قولها

وإنْ كانت قضية فلسطين وتحريرها ومسجدها الأقصى الشغل الشاغل لأدباء مرحلةٍ تعارفت الأجيال على تسميتها "مرحلة المدّ القومي"، فإن هذه القضية كانت محركاً لكثير من الأدباء والشعراء العرب، الذين أدركوا أنّ الاستبداد وتسلط الأنظمة الحاكمة جزءٌ من ديمومتها (القضية الفلسطينية) المقترن بغياب الحرية ولم يذهب بعيداً الأديب السوري "محمد الماغوط" حين دعا الشعوب العربية:

"جربوا الحرية يوماً واحداً لتَرَوا كم هي شعوبكم كبيرة، وكم هي إسرائيل صغيرة".

وهو ما جاء في مقالٍ له من سلسلة مقالات ضمَّنها كتابه الموسوم "سأخونُ وطني"؛ وهو دائمُ الشكوى من الركون العربي إلى الاستسلام، وقد انتابته نوبةٌ من اليأس متسائلاً: "ماذا أفعل أكثر من ذلك لأُثير نخوتهم وغضبهم ومخاوفهم؟".

 

المصدر: الأناضول


عدد القراء: 2661

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-