معرض سويسري عن «العنف الخفي» الفرنسي ضد الثورة الجزائرية

نشر بتاريخ: 2017-05-29

فكر – المحرر الثقافي:

يُسلط معرض نادر للصور والأفلام يحتضنه حاليًا المعهد التقني العالي الفدرالي في زيورخ أضواء جديدة على "العنف الخفي" الذي شكلته مخططات عمرانية نفذها المستعمر الفرنسي في خمسينيات القرن الماضي لدى محاولته التصدي للثورة التحريرية الجزائرية. 

المعرض رابط خارجي الذي يستمر حتى الثالث من يونيو 2017 أعدته وأشرفت على إنجازه السيدة سامية هَنّي، وهي باحثة جزائرية تدرّس في المعهد وقد نالت فيه شهادة الدكتوراه في شهر سبتمبر 2016 على أطروحتها التي قدمتها بعنوان «التخطيط العمراني المضاد للثورة: الجيش الفرنسي في الجزائر 1954-1962».

أصل الحكاية..

«مليون جزائري خلف الأسلاك الشائكة».. «مليون جزائري مهددون بالمجاعة بسبب إجراءات الجيش».. «مليون جزائري في معسكرات كما في حالة حرب».. «آلاف الأطفال يموتون في مخيماتٍ في الجزائر».. تلك كانت بعض عناوين الصحف الفرنسية الصادرة في منتصف شهر أبريل 1959، وذلك بعد شهرين من تقريرٍ سرّي قدّمه الراحل ميشيل روكار- الذي كان يشغل آنذاك منصب المفتش المالي - إلى المفوض العام لحكومة الاحتلال الفرنسي في الجزائر بول ﭙـاول دولوفرييه، وأدان فيه الظروف التي يعيشها مليون جزائري، نصفهم من الأطفال، في «معسكرات التجميع وإعادة التوطين» التي يشرف عليها الجيش الفرنسي.

إلى جانب إعادة التنظيم الإداري التي فرضتها السلطات المدنية خلال الثورة الجزائرية (1954-1962) بهدف تعزيز سلطة الاحتلال، كان الجيش الفرنسي قد صنّف الجزائر المحتلة إلى ثلاث مناطق أسماها "مناطق العمليات" و"المناطق المسالمة"، و"المناطق المحرَّمة".

في مناطق العمليات تلقى الضباط أوامرهم باستخدام كل الوسائل لإعادة الأمن، وفي المناطق المُسالمة شن الجيش حملات نفسية ضد المدنيين الخاضعين للرقابة والسيطرة العسكرية وقام بعمليات «غسيل مخ» بهدف زعزعة قناعاتهم ودفعهم للتعاون معه، أما المناطق المحرمة فكانت مناطق إطلاق نار حر للقوات الجوية والبرية خُطط لها أن تكون خالية حتى من الحيوانات. من هذه المناطق أجلي المدنيون الجزائريون بالقوة للعيش في معسكرات أنشئت في «مناطق آمنة» بالنسبة للجيش الذي سمّاها «مراكز التجميع وإعادة التوطين»، لكنها في الحقيقة كانت "معسكرات اعتقالٍ" منعت سلطات الاحتلال تسميتها بذلك.

في عام 1957 انتهى العمل بـ «خط موريس» الذي أقيم بطول 450 كلم على امتداد الحدود مع تونس و700 كلم على الحدود مع المغرب، فأدى ذلك إلى زيادةٍ كبيرة وسريعة في إنشاء معسكرات مماثلة، وفي العام 1958 أدّت خطة الجنرال «شال» في تدعيم خط موريس بالأسلاك المُكهربة وحقول الألغام ونقاط التفتيش إلى تكثيف عمليات الإجلاء من المناطق المحرمة، فازدادت بذلك أعداد المعسكرات مرّة أخرى.

في هذه الأثناء أصبحت الجزائر تخضع لشبكة مُحكمة من حواجز التفتيش والنقاط العسكرية وأبراج المراقبة وتحصينات الحدود وحقول الألغام والجدر المكهربة التي تهدف إلى جعل الإجراءات والعمليات العسكرية المضادة للثورة ممكنة.

حتى صدور تقرير روكار، أي بعد مرور أربع سنوات على انطلاقة الثورة، بقيت المعسكرات، بكل ما تحمل من مآسٍ للجزائريين، بعيدة عن أعين الرأي العام الفرنسي والدولي. بعد تسرب التقرير والفضيحة الإعلامية التي أدى إليها، جرى التخطيط لتحويل هذه المعسكرات إلى «قرى»، فأُشرك مهندسو التخطيط العمراني الفرنسيون مباشرةً في ذلك كما في التخطيط لإقامة مواقع جديدة، حيث أطلق دولوفرييه بإشراف الجنرال ديغول، وكإجراء لتخفيف غضب الرأي العام الفرنسي، مشروع طوارئ لإقامة ألف «قرية» لإعادة التوطين.

عنف استعماري خفي

هذا الفعل «الهندسي» الاستعماري المضاد لثورة الاستقلال الجزائرية كان صُلب معرض الصور والأفلام الذي افتتح يوم 12 أبريل الماضي، وسيستمر حتى الثالث من يونيو 2017، في قاعة المعارض التابعة لمعهد تاريخ ونظريات الهندسة المعمارية في المعهد التقني العالي الفدرالي في زيورخ تحت عنوان: «العنف الخفي: التخطيط العمراني والحرب الفرنسية في الجزائر» أعدّت المعرض وأشرفت على إنجازه، بالتعاون مع فريق المعارض، الجزائرية سامية هَنّي، المدرّسة والباحثة العلمية في المعهد، والتي نالت فيه شهادة الدكتوراه في شهر سبتمبر 2016 على أطروحتها المعنونة: «التخطيط العمراني المضاد للثورة: الجيش الفرنسي في الجزائر 1954-1962». يستند المعرض، الذي هو جزء من رسالة الدكتوراه التي ستصدر باللغة الانجليزية في الخريف القادم في كتاب خاص، إلى الصور والأفلام التي أنتجها فريق الدعاية التابع للجيش الفرنسي أو "القسم السينمائي للجيوش" «Service cinématographique des armées» (يُعرف اختصارا بـ SCA)، لذلك فإنه لا يعرض إلا جوانب محددة من عمليات إجلاء الفلاحين وإقامة المعسكرات وبعض ظروف العيش فيها، لكنه يكشف الطريقة التي حاول بها النظام الاستعماري الفرنسي أن يغطي على حقيقة هذه السياسة بعد الفضيحة التي تفجرت في العام 1959، كما «يوضح العلاقات الوثيقة بين التخطيط العمراني المدني والإجراءات العسكرية للنظام الاستعماري والإنتاج المخطَّط للتسجيلات الصوتية-البصرية والغاية من نشرها».

لماذا تم الاعتماد على صور وأفلام القسم السينمائي للجيوش (SCA) فقط؟ تُجيب الدكتورة هنّي بأن "القانون الفرنسي الصادر في العام 1955 يوضح ذلك، فقد كان يسمح للسلطات الفرنسية بأن تتخذ كل الإجراءات لمراقبة وسائل الإعلام والإنتاج السينمائي والمسرحي وكل ما يتعلق بالنشر. لذلك فإن كل المعلومات المتعلقة بحرب الاستقلال الجزائرية كانت موضوع مراقبة ومصادرة وعقوبات. وقد أنشئ "المكتب الخامس" لغرض إنتاج الحملات الدعائية والحرب النفسية للتأثير على مشاعر وقناعات وسلوكيات الناس، وكان هذا المكتب يراقب حتى ما ينتجه موظفو SCA. لقد بحثت أسابيع عديدة في الأرشيف الفرنسي حتى عثرت على بضعة صور تُظهر الأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة التي كانت تحيط بالمعسكرات. في كل الصور تقريبًا تبدو المعسكرات كـ "قرى" هادئة يسودها الأمن والسلام، ولكنها في الحقيقة كانت تحوي أُناسًا اُنتزعوا من بيوتهم وأُجبروا على ترك أراضيهم ليكونوا تحت الرقابة الدائمة لوحدات SAS المتخصصة بإدارة الأرياف، وذلك للحيلولة دون دعمهم المعنوي أو المادي للثوار".

ملايين المُشردين

في نفس السياق، أضافت الدكتورة هنّي: "نذكر في هذا الصدد أن عدد المليون لم يكن إلا تخمينًا من السلطات المدنية، أما الجيش فقد ضيّع القدرة على حصر العدد الحقيقي كما تعترف مصادره، لكن تقديرًا لاحقًا لبعض المصادر الفرنسية في العام 1960 يشير إلى أنه بلغ 2.157.000، وفي تقديرٍ آخر يعود إلى العام 1961 فإن ما لا يقل عن 2350000 جزائري كانوا يقطنون المعسكرات، بالإضافة إلى 1175000 آخرين هجَروا بيوتهم بسبب العمليات العسكرية بعد أن مدّت وحدات مشابهة (تعرف باسم SAU) عملياتها إلى المدن، أي ما يزيد على ثلاثة ملايين و500 ألف مشرّد، وقبل أسابيع فقط من الاستقلال الجزائري في 5 يوليو 1962 أشارت التقارير إلى إنشاء 3740 معسكراً منذ اندلاع الثورة الجزائرية. وقد تكفي الإشارة هنا إلى أن موريس بابون Maurice Papon الذي أدين في عام 1998 بارتكاب جرائم ضد الإنسانية لمشاركته في تهجير اليهود في بوردو وسوقهم إلى معسكرات الاعتقال خلال الحرب العالمية، كان المفتش العام للإدارة في غرب الجزائر وبيده جميع السلطات المدنية والعسكرية».

عن الآثار التي خلفتها هذه المعسكرات على المجتمع الجزائري تقول هنّي: «إنها آثار كبيرة لا يمكن حصرها، فما زال الكثير من ذوي الفلاحين يسعى لإثبات ملكيته للأرض التي أجلي أهلهم منها حيث استولى المستعمر على الأوراق الثبوتية، فيذهب القادرون منهم إلى فرنسا للقيام برحلة بحثٍ مضنٍ عن هذه الوثائق، وقد يحصل ذلك في إطار نزاعات قبلية تعود جذورها إلى تجميع عدّة قبائل في معسكرٍ واحد آنذاك، وما زالت تجر ذيولها» إلى يوم الناس هذا.

من البديهي أن يتساءل البعض إلى أي مدى استطاعت الباحثة الجزائرية أن تكون مُحايدة وهي تبحث في قضية تمس وطنها؟ ترد الدكتورة هَنّي بدون تردد: «إن الحقائق العلمية الموثقة لا تحتاج إلى عقلية الانحياز، فهي تتحدث عن نفسها، لذلك فإنني أسعى لنقل المعرض إلى فرنسا والجزائر"، كما ذكّرت أنه "من الدوافع غير المعلنة للحرب الدموية الطويلة في الجزائر كانت حماية المصالح الاستعمارية، والتي لم تقتصر على استغلال الثروات الطبيعية كالنفط والغاز في الصحراء، وإنما شملت إجراء التجارب النووية فيها. في 2 فبراير 1960 فجّر الفرنسيون قنبلتهم النووية الأولى هناك، والثانية في أبريل من نفس العام والثالثة في ديسمبر من العام نفسه والرابعة في أبريل من عام 1961 وأجروا تجارب أخرى استمرت حتى العام 1966، أي حتى بعد إعلان الاتفاق على الاستقلال الجزائري، فعن أيِّ حياد أو آثارٍ هنا نتحدث؟ ما يحتاجُه الجزائريون هو كشف الحقائق، وما يحتاجه الفرنسيون هو عقلية الاعتراف والمصارحة».

 

المصدر: swissinfo


عدد القراء: 3340

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-