كسوة الكعبة تشريف لبيت الله الحرام

نشر بتاريخ: 2017-08-29

فكر – المحرر الثقافي:

الكعبة المشرفة هي قبلة المسلمين في جميع أنحاء العالم قاطبة، وهي أول بيت وضعه الله للناس على الأرض، وقد نسبه الله إلى نفسه سبحانه وتعالى. وكسوة الكعبة من أهم مظاهر الاهتمام والتشريف والتبجيل للبيت الحرام، وتاريخُها جزء من تاريخ الكعبة المشرفة نفسها، فكسوة الكعبة مذ بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام مرت بأطوار مختلفة، إذ لم تكن كما نراها الآن، فهي مرتبطة بعوامل اجتماعية واقتصادية لها صلة بالعصر، غير أن الوازع المشترك في نية من كسا الكعبة هو التقديس لهذا البيت الحرام، والتقرب من الله سبحانه وتعالى، حتى في عصور الشرك قبل الإسلام .

فقد كان أهل الجاهلية يكسون الكعبة، ويحسبون ذلك من أعمال البر، فقد روى ابن أبي مليكة بإسناد صحيح قال: كانت قريش في الجاهلية ترافد في كسوة الكعبة، فيضربون ذلك على القبائل بقدر احتمالها من عهد قصي بن كلاب، حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان يختلف إلى اليمن يتّجر بها ، فأثرى في المال ، فقال لقريش: أنا أكسو وحدي الكعبة سنة، وجميع قريش سنة، فكان يفعل ذلك حتى مات، يأتي بالحبرة الجيدة من الجَنَد، فيكسوها الكعبة، فسمته قريش العدل؛ لأنه عدل فعله بفعل قريش كلها، فسموه إلى اليوم العدل، ويقال لولده: بنو العدل.

وقول ابن أبي مليكة هذا يدل على أن قريشًا كانت تكسو الكعبة، وتوارثوا هذا العمل حتى بُعث النبي? والكعبة مَكْسُوَّةٌ . والظاهر أن الأمر بقي في صدر الإسلام كما كان في الجاهلية، إذ بقيت كسوة المشركين على الكعبة المشرفة حتى فَتْح مكة. فعن سعيد بن المسيب قال: ولما كان عام الفتح أتت امرأة تجمر الكعبة فاحترقت ثيابها، وكانت كسوة المشركين، فكساها المسلمون بعد ذلك. ومنذ عام الفتح حتى يومنا هذا والمسلمون يتفردون بكسوة الكعبة.

ولم يكن للكسوة ترتيب خاص من قبل الدولة وبيت مال المسلمين ، فقد كان الناس يكسونها بما تيسر لهم قطعًا مفرقة من الثياب ، وبدون تقيد بلون خاص، بل حسب ما تيسر لأحدهم ، ولو بجزء وناحية من البيت . وكان الناس في الجاهلية قبل ذلك يتحرون إكساءها يوم عاشوراء . كما جاء عند البخاري وأحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان ، وكان يومًا تستر فيه الكعبة ، فلما فرض الله رمضان ، قال رسول الله ? : من شاء أن يصومه فليصمه ، ومن شاء أن يتركه فليتركه.

قال ابن حجر في فتح الباري تعليقًا على الحديث: ( وكان يومًا تستر فيه الكعبة )، يفيد أن الجاهلية كانوا يعظمون الكعبة قديمًا بالستور، ويقومون بها. وروى الأزرقي عن ابن جريج قال: كانت الكعبة فيما مضى إنما تكسى يوم عاشوراء، إذا ذهب آخر الحجاج حتى كان بنو هاشم، فكانوا يعلقون عليها القمص يوم التروية من الديباج، لأن يرى الناس ذلك عليها بهاء وجمالاً، فإذا كان يوم عاشوراء علقوا عليها الإزار. واستمر الحال عليه في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، فكساها أبو بكر الصديق رضي الله عنه القَبَاطي المصرية، ثم في خلافة عمر رضي الله عنه كساها أيضًا القَبَاطي، وأمر أن تكون الكسوة من بيت مال المسلمين، وقد كانت تحاك في مصر، وسار على سنته سلفه عثمان بن عفان رضي الله عنه، إلا أنه كان أول من قرر للكعبة كسوتين الأولى بالديباج يوم التروية والأخرى بالقَبَاطي يوم السابع والعشرين من رمضان. ولم يؤثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كسا الكعبة، وما كان ذلك تقصيرًا منه ؛ بل لأنه كان مشغولاً بالحرب التي أجبر على خوضها، من أجل ضمان وحدة المسلمين، ومنذ ذلك الحين صارت نفقات الكسوة على الحكومة، إلا في سنوات معدودات كان يكسوها أفراد من الموسرين، أو من ذوي المناصب الرفيعة، أو حكام بعض الدول الإسلامية. وفي عهد بني أمية استمرت كسوة الكعبة من بيت مال المسلمين، وكانت أيضًا تكسى مرتين في السنة، إلا أنه تغير موعد كسائها، فالأولى كانت يوم عاشوراء، والثانية كانت في آخر رمضان. واستمرت كسوة الكعبة في عهد العباسيين مرتين في السنة، حتى عهد الخليفة العباسي المأمون، فقد كسيت الكعبة ثلاث مرات في السنة: الأولى بالديباج الأحمر وتكساها يوم التروية، والثانية بالقباطي وتكساها غرة رجب، والثالثة بالديباج الأبيض وتكساها في السابع والعشرين من رمضان. وبدأت تكسى الكعبة بالديباج الأسود منذ كساها الناصر لدين الله أبو العباس أحمد الخليفة العباسي، واستمرت على لونها هذا إلى يومنا.

ثم ما زال ملوك اليمن وملوك مصر يتعاقبون على كسوة الكعبة حتى تفردت مصر بكسوتها، فقد كانت تأتي من مصر من مال الوقف الذي وقفه الملك الناصر ابن قلاوون على الكسوة منذ سنة (750هـ)، ثم صارت بعد ذلك ترسل من قبل الحكومة المصرية، وكلما وقع خلاف بين الحكومة المصرية وبين الحكومة التي تتولى أمر الحجاز امتنعت الحكومة المصرية من إرسال الكسوة، حصل ذلك عدة مرات قبل تولي الملك عبد العزيز رحمه الله الحكم في الحجاز، وبعد توليه الحكم رحمه الله وفي سنة 1344هـ حدثت حادثة المحمل المصري المشهورة حيث امتنعت مصر عن إرسال الكسوة في سنة 1345هـ، شعرت بذلك الحكومة السعودية في غرة شهر ذي الحجة، فصدر الأمر الملكي الكريم بعمل كسوة الكعبة المشرفة لهذه السنة بأسرع ما يمكن وفي أيام معدودة؛ حتى يتم إكساء الكعبة في العاشر من ذي الحجة، وبالفعل تم ذلك، وكانت البداية الميمونة لصنع الكسوة في مكة المكرمة في العهد السعودي الزاهر.

أول مصنع للكسوة المشرفة:

في مستهل شهر محرم سنة 1346هـ صدر أمر الملك عبد العزيز رحمه الله بإنشاء دار خاصة لصناعة كسوة الكعبة المشرفة في منطقة أجياد في مكة المكرمة، أمام دار وزارة المالية العمومية، وقد تمت عمارة هذه الدار على مساحة(1500)م2، فكانت أول مصنع لحياكة كسوة الكعبة المشرفة بالحجاز منذ كسيت الكعبة في العصر الجاهلي إلى العصر الحالي.

وأثناء سير العمل في بناء هذا المصنع كانت الحكومة السعودية تقوم بتوفير الإمكانيات اللازمة للبدء في عمل الكسوة، من المواد الخام اللازمة كالحرير ومواد الصباغة، والأنوال التي ينسج عليها القماش، والفنيين اللازمين . وتم بناء المصنع الجديد من طابق واحد في ستة أشهر. وفي أول رجب من نفس العام 1346هـ، وصل من الهند إلى مكة المكرمة اثنا عشر نولاً يدويًا، وأصناف الحرير المطلوبة، ومواد الصباغة اللازمة، والعمال، والفنيون اللازمون، وكان عددهم ستين عاملاً، أربعون منهم من (المعلمين) الذين يجيدون فن التطريز على الأقمشة، وعشرون من العمال المساعدين . وعند حضورهم إلى مكة المكرمة نصبت الأنوال، ووزعت الأعمال، وسار العمل على قدم وساق في صنع الكسوة وتطريزها، حتى تمكنوا من إنجازها في نهاية شهر ذي القعدة عام 1346هـ ، وظلت هذه الدار تصنع الكسوة طوال عشر سنوات، حتى تم التفاهم بين الحكومتين المصرية والسعودية عام 1355هـ، فاستأنفت مصر إرسال الكسوة مرة أخرى إلى عام 1381هـ ، إذ حدث خلاف امتنعت على إثره من إرسالها.

وفي عام 1382 أعادت الحكومة السعودية فتح مصنع الكسوة وظلت الكسوة تصنع به إلى عام 1397هـ.

مصنع الكسوة بأم الجود:

في يوم السبت السابع من ربيع الآخر سنة 1397هـ، تم افتتاح مصنع الكسوة الجديد بأم الجود بمكة المكرمة تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز -رحمه الله- ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية آنذاك. وقد ناب عنه في حفل الافتتاح حضرة صاحب السمو الملكي الأمير فواز بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة ورئيس لجنة الحج العليا آنذاك.

ويضم هذا المصنع أقسامًا مختلفة لتنفيذ مراحل صناعة الكسوة ، ابتداءً من صباغة غزل الحرير، ومرورًا بعمليات النسيج، وعمليات التطريز، وأخيرًا مرحلة التجميع، ويضم هذا المصنع حوالي (200 عامل) بالإضافة إلى الجهاز الإداري للمصنع، بإشراف الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي التي أسند إليها الإشراف على المصنع منذ عام 1414هـ. ودخلت تطورات كثيرة في صناعة النسيج وحياكة الكسوة، وصار العمل في هذا المصنع أتقن وأجمل مما كان عليه سابقًا. وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله- لقي المصنع عناية خاصة، فقد حصل فيه توسُّع كبير، وتطوير بإدخال الأعمال الميكانيكية التي يمكن الاستغناء بها عن الأعمال اليدوية، فتم توفير أحدث آلات النسج والحياكة.

ويتكون مصنع كسوة الكعبة، الذي يضم 170 عاملاً، من سبعة أقسام هي: المصبغة والمختبر والنسيج والطباعة والتطريز والخياطة، والتي تصب مجهوداتها في صناعة ثوب للكعبة تبلغ كلفته قرابة 20 مليون ريال سعودي.

وتعد كمية القماش الحرير المستخدمة في صناعة الكسوة 670 كيلوغرام تقريبًا، من بينها عشرات الكيلوغرامات من أسلاك الذهب الرفيعة المطلية بالفضة التي تشبه الخيوط، ومثلها من أسلاك الفضة الخالصة، التي تشكل بدورها الآيات المخطوطة على حزام الكسوة.

وتستورد الحرير والصباغ من إيطاليا، بينما الذهب والفضة من ألمانيا. ويستغرق إنجاز الكسوة من 8 إلى 10 أشهر من العمل الدؤوب في جميع أقسام المصنع.

ويبلغ عرض الحزام المذهب الذي يظهر أعلى الكعبة 95 سم، وهو عبارة عن آيات قرآنية، وتتدلى أسفله قناديل تحمل أذكارًا وتسابيح تزين الستار.

ويتكون الستار من 47 قطعة قبل أن يتم تجميعه في خمس قطع تمهيدا لكسوة الكعبة في يوم عرفة من كل عام هجري. ويستغرق تجهيز ثوب الكعبة المشرفة شهورًا عديدة، ويحتاج إلى كميات كبيرة من المعادن الثمينة والحرير الخالص، فيما يتولى نحو مائة وسبعين حرفيًا العملية التي تمر بمراحل مختلفة إلى أن تصبح الكسوة جاهزة لتغطى بها الكعبة المشرفة يوم عرفات.

ويبلغ ارتفاع الكسوة 14 مترًا وحزامها 95 سنتمترًا وبطول 47 مترًا والمكون من ستة عشر قطعة. كما توجد تحت الحزام آيات قرآنية مكتوب عليه "يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم الحمد الله رب العالمين" ومطرز الحزام بتطريز بارز مغطى بسلك فضي مطلي بالذهب ويحيط بالكعبة المشرفة بكاملها.

وتشتمل الكسوة على ستارة باب الكعبة ويطلق عليها البرقع وهى معمولة من الحرير بارتفاع ستة أمتار ونصف وبعرض ثلاثة أمتار ونصف مكتوب، مطرزة تطريزًا بارزًا مغطى بأسلاك الفضة المطلية بالذهب.

وتتكون الكسوة من خمس قطع تغطي كل قطعة وجهًا من أوجه الكعبة المشرفة والقطعة الخامسة هي الستارة التي توضع على باب الكعبة ويتم توصيل هذه القطع مع بعضها البعض.

وينتج المصنع الكسوة الخارجية والداخلية للكعبة المشرفة بالإضافة إلى الأعلام والقطع التي تقوم الدولة بإهدائها لكبار الشخصيات.


عدد القراء: 3242

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-