عولمة النشر وانخفاض نمو الكتب الرقمية

نشر بتاريخ: 2015-11-20

فكر – المحرر الثقافي:

يقول مراقبون ومختصون في عالم النشر إن الضجيج الذي صاحب انتشار الكتب الرقمية بدأ يخفت صداه تدريجيًا منذ مطلع العام الحالي، مستندين إلى أرقام المبيعات التي تكشف أن النمو السريع في مبيعات الكتب الإلكترونية سجّل ركودًا لكن ذلك لا يعني أن هذا التراجع يصب في صالح الكتب المطبوعة التي تشهد بدورها موجة انحسار.

احتدم السباق بشكل غير مسبوق بين التكنولوجيا وما اعتاد الناس على استخدامه من وسائط في حياتهم اليومية. فبينما قضت حركة تحميل الأغاني الواسعة على أقراص التخزين التي حافظت على تواجدها في السوق لعقود، بدأت الجولة الثانية من المنافسة تتشكل، لكن هذه المرة بين الكتب المطبوعة والكتب الإلكترونية.

ويعتمد اختيار الكتاب الإلكتروني أو المطبوع على عدة عوامل أولها التفضيل الشخصي للقارئ. ويقول هؤلاء الذين مازالوا يفضلون الكتاب المطبوع إنه لم يوجد بعد أي شيء يضاهي رائحة الورق وحفيف الصفحات حيث يتم قلبها بسهولة.

ويعتقد هؤلاء أن ثمة شيئًا بسيطًا في مصاحبة الكتب المطبوعة لا يمكن العثور عليه عند التعامل مع تلك النسخ الإلكترونية الباردة. لكن على الجانب الآخر يميل هؤلاء الذين يفضلون الكتب الإلكترونية إلى الاعتقاد بأنها تسهم في إزاحة حمل الكتب الثقيل عن كاهلهم.

ويشيرون إلى ظهور ذلك في عدة مناسبات على رأسها حمل الحقائب خلال السفر وما تمثله من أوزان ثقيلة كافية وحدها لاستبعاد فكرة زيادة ثقلها بشكل أكبر عبر اصطحاب المزيد من الكتب.

ويستطيع من يفضلون الكتاب الإلكتروني في هذه الحالة واقعيًا وضع المئات من الكتب في حقيبة السفر في داخل جهاز كومبيوتر لوحي أو قارئ صغير لا يتعدى حجمه سنتيمترات مربعة في أحد جيوب الحقيبة. ووجهت الإنترنت ضربة لصناعة الكتب الثقافية والتعليمية، ونظام توزيعها الذي تصل قيمته إلى 114 مليار دولار (77 مليار يورو، 70 مليار جنيه استرليني)، لتجعل من أمازون قوة يخشى الناشرون توجيه النقد لها في العلن.

والآن باتت كل من أجهزة القراءة المحمولة سواء كانت أمازون كندل أو أبل آي فون، إلى جانب تخفيف مفهوم الملكية الفكرية، واحتمال طباعة الكتب في خمس دقائق بطابعة اسبرسو، بمثابة مسدس مصوب إلى ظهر الناشرين.

وعلى العكس، كان الكتاب ذو الغلاف الورقي مجرد هزة صغيرة للصناعة التي لم تشهد الكثير من التغيير، منذ أن أنهى جوهانز غوتنبرغ القرون التي كان الرهبان يكتبون فيها يدويا على رقائق من جلد الخراف، مستخدمين آلة ربما كانت عصارة نبيذ تم تحويلها لإنتاج أول إنجيل مطبوع حوالي عام 1450 ميلادي.

الناشرون في مأزق

الآن يجد الناشرون أنفسهم في مأزق. ففي ظل الموجة العاتية من عولمة النشر، التي نقلت الكتاب من محيط طباعته المحلية البطيئة إلى آفاق عالمية أكبر وأكثر سرعة، بات الناشر هو الخاسر الأكبر.

وأصبحت غالبية دور النشر العربية تواجه خيارات صعبة وأسئلة ملحة: كيف تحافظ على العملاء في ظل ارتفاع أسعار الورق وتكاليف الطباعة، والأزمة المالية؟ وكيف ترفع أسعار الكتب لتغطي هذه التكاليف في ظل انخفاض الطلب -أساسًا- على شراء الكتب الورقية؟

وفي السابق كان من السهل اللجوء إلى رفع دعوى قضائية للمطالبة بالحفاظ على حق الملكية حينما يستعين موقع إلكتروني أو جريدة بجزء من كتاب أو قصيدة نشرها الكاتب أو الشاعر بالاتفاق مع دار نشر محددة.

لكن الأمر بات صعبًا الآن بعد أن أصبحت الكتب متاحة على الإنترنت وفي متناول اليد. لكن مراقبين يرون أن الموجة العالية للكتب الرقمية بدأت تنخفض تدريجيًا منذ مطلع العام الحالي.

وشهد هذا النمو السريع في مبيعات الكتب الإلكترونية ركودًا بحيث بدأ الناشرون في استنشاق الهواء لأول مرة. ونشر موقع فرتيون تقريرًا يتعرض فيه إلى المراحل التي مرت بها مبيعات الكتب المطبوعة في ظل ظهور الكتب الرقمية.

ويفيد التقرير أن جمعية الناشرين الأمريكيين كشفت مؤخرًا أن مبيعات الكتب الإلكترونية انخفضت بنسبة 10 بالمئة في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام.

واستأثرت الكتب الرقمية في العام الماضي بحصة تقدر بنحو 20 بالمئة من السوق، “تقريبًا نفس الحصة التي حققتها قبل بضع سنوات”، وفقا لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.

وفي قراءة سريعة، لا يبدو أن المخاوف من تكثيف الطباعة لن تتحقق. وبين عامي 2008 و2010، ارتفعت مبيعات الكتب الإلكترونية بنسبة 1.260 بالمئة، وهو ما يمثل علامة على أن المنصات قد نضجت وهو في نفس الوقت علامة على أنها لم تحقق المطلوب منها.

وبدأت شركة أمازون كيندل في تحميل الكتب بطريقة جنونية. دخلت المكتبة الكبرى في الولايات المتحدة “بارنز أند نوبل” بثقلها إلى مجال الكتب الإلكترونية. وتراجعت مبيعات الكتب المطبوعة، خاصة كتب الجيب الرخيصة، وبدأت المكتبات الكبيرة والصغيرة، ولكن بصفة خاصة الكبيرة، في إغلاق منافذ البيع وهو ما خلف اضطرابا في قطاع النشر بشكل عام.

وبات من الواضح أن أخذ مهلة في طباعة الروايات أصبح موضع ترحيب في مجال تجارة الكتب. ولكن في المخطط الأوسع، يبدو أن هذا الأمر هو قرار مؤقت، فقد خلقت الكتب الرقمية لتبقى. لكن السؤال المطروح هو: إلى أي مدى؟

وتناول المحللون وشركات تتبع أرباح السوق الأمر على محمل الجد. وإحدى هذه الشركات غارتنر هايبر سايكل التي تقوم برسم بياني يرصد تطور ونمو استخدام التكنولوجيا في فترات زمنية محددة.

ويبين المنحنى، المعروف للشركة التي تجري أبحاثًا حول السوق، كيف يتم عادة اعتماد التكنولوجيا. وهي تبدأ طبقًا لبيانات الشركة منذ “انطلاق الابتكار” الجديد الذي يؤدي إلى ارتفاع سريع في حجم الفائدة، مما يخلق “ذروة مبالغا فيها من التوقعات” التي قد تتحطم “على صخور خيبة الأمل”، ثم تنتعش من جديد باتجاه “منحدر التنوير”، لتصبح مع مرور الوقت بمثابة “هضبة إنتاجية”.

وباللجوء إلى المصطلح المتداول بعيدا عن المصطلحات التقنية، هذه العملية هي عبارة عن دورة من الازدهار والكساد لمنتج ما تبين مدى الحاجة إليه وهل من المرجح أن يتواصل إنتاجه أو من الأفضل التخلي عنه.

الكتب الإلكترونية تشعر بالتفوق

تعيش الكتب الإلكترونية لحظة من التفوق، فالجميع يشتري ويحمّل الكتب الإلكترونية نظرًا لكونها أكثر تنوعًا (وأخف بكثير) من كومة من الكتب ذات الأغلفة الورقية المزعجة، خاصة مع انخفاض سعر الهواتف الذكية وأجهزة الكومبيوتر اللوحي تدريجيا. لكن على الجانب الآخر هناك الكثير من الأشياء الإيجابية التي تتصل بالكتاب المطبوع.

فهذا الكتاب ملموس، كما أنه يضفي إحساسًا أكثر جمالاً من الشاشة الإلكترونية، ويمكنك حمله إلى الشاطئ دون قلق من الرمال والشمس. وفي حالة المجلدات وغيرها من الكتب غير المخصصة للجيب، فإنها عبارة عن تجربة شخصية بشكل كامل من الغلاف إلى الغلاف، وليس مجرد منصة ذات منفعة تجارية لنقل المعلومات.

ويمكن للكمبيوتر اللوحي (تابليت) أن ينافس الكتب في بعض هذه الصفات، ولكن ليس كلها، وهو ما يعني أن هناك سقفًا لاقتراح قيمة الكتاب الرقمي، على الأقل، بما يتناسب مع سعر الكومبيوتر اللوحي اليوم.

يسود اعتقاد أن هذه الومضة في مبيعات الكتب الرقمية ليست هي الأعلى، وربما يستمر هذا الأمر في الارتفاع مع تقدم التكنولوجيا. وتقول شركة أمازون، التي تسيطر على 65 بالمئة من سوق الكتب الإلكترونية، إن مبيعات كتبها الرقمية تواصل الارتفاع، سواء الكتب الصادرة عن دور النشر المحترفة أو تلك الفئة الجديدة المتمثلة في المؤلفات المنشورة بصفة ذاتية.

ويواجه الناشرون موجة الكتب الالكترونية العاتية بعمل أفضل ما يستطيعون القيام به من خلال التركيز على المنتجات التي لا يمكن للمنصات الرقمية تفكيكها بسهولة، وهم يأملون أن تكون هذه الخطط هي المنقذ الوحيد في هذه اللحظة من أزمة المبيعات الرقمية.

وعلى رأس هؤلاء الناشرين شركتا تاسشن الألمانية وفايدن البريطانية، التي تقوم بنشر المجلدات السميكة والضخمة، وأصبحت الشركة تعتمد على تقنيات عصرية في الطباعة وطرق تغليف خاصة بها، حولت الكتاب المطبوع إلى رمز لحياة راقية.

ورغم أن الأعداد الخام لمبيعات الكتب تشهد ارتفاعًا، إلا أنها لن تعوض حصتها من السوق التي خسرتها لحساب المنصات الرقمية، خاصة وأن القراء يستهلكون المزيد من الكتب عموما أكثر من أي وقت مضى.

وكانت طباعة الكتب خلال العصور الوسطى في أوروبا تتم بشكل يدوي، إلى أن كشف غوتنبرغ عن المطبعة التي كانت أرخص من حيث التكلفة وأسرع من حيث الإنتاجية.

وحينها انفجرت عملية إنتاج الكتاب المطبوع مشيرة إلى نهاية عصر الطباعة اليدوية، ومع ذلك استغرق الأمر أكثر من قرن من الزمان كي تختفي الطباعة اليدوية. وأصبح الكتاب فاخر الشكل. وكانت المطابع تتعمد التحسين في شكل الكتب حتى يتم تمييزه عن الكتب التي تمت طباعتها يدويا.

وفي السابق، كان الرسم باليد على الكتب التي تمت طباعتها باستخدام ماكينات الطباعة يحولها إلى منتج هجين. لكن الرسم باليد أصبح اليوم علامة مضيئة لها رونقها، نظرًا لندرتها وفقدانها في ظل الطباعة الرقمية التي أثبتت أنها أكثر تطورًا من قدرات الإنسان. كل هذه المفارقات لها علاقة بالتكنولوجيا، التي يجد الإنسان نفسه محاصرًا بها في كل مرة.


عدد القراء: 2918

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-