المقاهي الأدبية وأثرها في الحركة الثقافية


كان لموقع مصر الريادي في الحركة الثقافية العربية أثر كبير في بقية الدول العربية، وما تميزت به مقاهيها التي زارها أهم وألمع الأسماء الأدبية والثقافية منذ مطلع القرن العشرين، وتعد وجهة الأدباء والمثقفين، سواء من داخل مصر وخصوصًا القاهرة أو من الأدباء العرب الذين يقصدونها للالتقاء بكبار الكتاب والأدباء والمثقفين المصريين.

وقد ساهمت المقاهي في دعم الحركة الثقافية والأدبية في بلدان عدة حول العالم، ابتداء من متابعة الأخبار ومناقشة آخر المستجدات، مرورًا بالأمسيات الأدبية والثقافية و السجالات بين التيارات الفكرية المختلفة كانت المقاهي حول العالم العربي شاهدًا على حقبة جميلة قدمت للأمة خيار عقولها المفكرة وأعذب أقلامها الكاتبة وأروع ألسنتها الشاعرة.

وقد ذكر الكاتب الفرنسي «لوميير» أن مقاهي الشرق كانت مركزًا تسود فيها حرية التعبير، والمقهى بعبارة بسيطة هو المكان الذي تقدم فيه القهوة أو المشروبات الأخرى لكنه تحول مع مرور الوقت إلى ما يشبه البرلمان كمكان لتلاقي الأفكار.

 

يتذكر نجيب محفوظ حياته مع المقاهي، فيقول: "بخلاف قهوة قشتمر وعرابي والفيشاوي، التي كنت أرتادها لملاقاة الأصدقاء، كانت هناك القهاوي التي كنت أذهب إليها لألتقي بالكتاب والمثقفين، وكان أول منتدى أدبي لي هو كازينو الأوبرا، ثم بعد ذلك جاءت قهوة ريش، ثم علي بابا، وأخيرًا كازينو قصر النيل، الذي ظللت أذهب إليه، إلى أن وقعت لي الحادثة "يقصد الاعتداء الإرهابي عليه"، فمنعوني عن الذهاب إليه".

كان "صاحب نوبل" من عشاق المقاهي الشعبية، التي اجتذبت مشاهير الأدب والفن والسياسة على مر العصور، وتناثرت تلك المقاهي العريقة، ما بين أحياء الحسين ووسط البلد وقصر النيل وغيرها.

وهناك ثلاثة أنواع من المقاهي، الأولى هي مقاهي العابرين الموجودة بوسط القاهرة والميادين العامة والشوارع الرئيسية يجلس عليها من ينتظر موعدا، أو طالب الراحة بين الذهاب إلى أكثر من مكان في نفس اليوم، والثانية هي المقاهي الشعبية الموجودة داخل الأحياء الشعبية وهي ليست للعابرين، وانما للمقيمين داخل هذه الأحياء والمعروفين بعضهم لبعض ولصاحب المقهى، ويقصدها يوميًّا عدة أجيال من سكان المنطقة، وتعتبر بمثابة منتدىً اجتماعيًّا، يلتقي فيه جيل الكبار وجيل الشباب، يتبادلون الحديث حيث لا تتحمل البيوت استقبال هذه المنتديات يوميًّا، وهي تقوم بدور لا يقل خطورة عن مقاهي المثقفين، وهي النوع الثالث من المقاهي، الذي يجتمع فيه الأدباء والكتاب والمثقفون مع القراء، ومن تلك المقاهي مقهى ريش الذي اشتهر بيوم الجمعة ولقاء الاستاذ نجيب محفوظ، حيث يتبارى المثقفون يوميًّا في اكتشاف الكتب وقراءة ما كتبه ومناقشته فيما كتبه، حتى إن المثقفين كانوا ينتهون من قراءة الروايات والشعر والقصص قبل أن تطبع وتنشر وكان الجميع يتحمس لما يكتبه أحدهم كما لو كان من إنتاجه، وفي بداية الستينيات كانت هناك مقهى «ايزافتش»، الذي كان يؤمه مجموعة يغلب عليهم الطابع السياسي، والمقهى يقع في ميدان التحرير وسط القاهرة، أما مقهى «فنكس» بشارع عماد الدين بالقاهرة، الذي شهد لقاء شبه يومي مع الراحل عبد الفتاح الجمل ومحمد البساطي، واشتهر المقهى بيوم الأحد، حيث يجتمع عدد كبير من الأدباء العرب والمصريين للنقاش والحوار وعرض إنتاج كل منهم على الآخر.

لفتت مقاهي الأدباء بالقاهرة نظر الكثير من الأدباء والمؤرخين للكتابة عنها، منهم الأديب التونسي «رشيد الزواوي» الذي صدر له أخيرًا كتاب تحت عنوان «مقاهي الأدباء في الوطن العربي» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يقع في 235 صفحة، وهو موسوعة تحكي ظاهرة تلك المقاهي التي تحولت الى منتديات، تجمع الأدباء والفنانين ويلتقي فيها الأدب النخبوي بالأدب الشعبي، وتنطلق فيها التيارات الأدبية والفكرية والفنية المختلفة، والتي يصفها الزواوي بأنها مكان المجتمع الذي ينشد دائمًا مصيره بعيدًا عن المؤسسات، ويقدم الكتاب للقارئ أديبنا نجيب محفوظ الشاهد على هذا العصر وأحد أهم صناع تلك الظاهرة والمشاركين فيها. وفي مذكرات العلامة السوري محمد كرد علي التي كتبها عن حياته صفحات عن ندوات الأدب في مصر، يحكي فيها عن مقهى «متانيا» المواجهة لحديقة الأزبكية وسور الكتب المعروف آنذاك بسور الأزبكية، التي كان يلتقي فيها مع من سماهم جماعة دار العلوم كل مساء، حيث يسمر أحمد السكندري ومحمد الخضري وعبدالعزيز شاويش وحفني ناصف ومحمود دياب وحسن منصور ومحمد عبدالمطلب وغيرهم من المثقفين، حيث كان يدور الحديث عن مسائل في الدراسات الأدبية واللغوية والتاريخية، ويذكر محمد كرد علي أن التاريخ الأدبي حافل بالكتابة عما يدور في المقاهي، ولم يكن ما كتبه أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» غير اقتباسات من مجالس السمر، التي كانت تدور في دار الوزير في قضايا الفكر والأدب، وحرص الأمير على مسامرة ذويه في تلك الليالي، التي شهدها أبو حيان، وسجل خلاصتها بأسلوبه البارع، ويتميز كتابه بانتقاله من موضوع إلى موضوع كما يحدث في المجالس عادة، حيث يحكم الانتقال من موضوع إلى موضوع التلقائية غير المقصودة.

وحول سر ارتباط المثقفين والأدباء بالمقهى حيث مليئ بالقصص والحكايات، تنويعة بشرية شديدة الجاذبية، ولهذا فالمقهى تصنع جزءًا كبيرًا من تجربة الكاتب أو الفنان لأنها مادة سخية للشخصيات والأحداث والحكايات، أما بالنسبة للمقاهي الأدبية بشكل خاص، في الستينيات والسبعينيات ما بين ريش ذات الشخصية الفريدة، وانديانا وايزافتش وعلي بابا، وكازينو صفية حلمي كل يوم جمعة، حيث يجتمع المثقفون والأدباء مع نجيب محفوظ، ومقهى عبدالله بميدان الجيزة، و«سان سوسي» يلتقي الكتاب والأدباء مع محمود السعدني وزكريا الحجاوي وأنور المعداوي وسليمان فياض، وغيرهم، وفي بداية حياة الكاتب والفنان تكون المقهى بمثابة مدة تكوين مهمة بالنسبة له، يقترب من الكتاب الكبار بخبراتهم الأدبية والفنية ويتعلم منهم، ويستطيع أن يقرأ ما كتبه عليهم، ويعرف آراءهم فيما يكتب، ويستطيع أن يستمع لما يكتبه زملاؤه من جيله وما يكتبه الرواد، مثل أمل دنقل، وعبدالله خيرت،.

فالمقاهي تتيح للكاتب تلقائية تلقي عمله لأول مرة من الجمهور العادي من رواد المقهى، ومن جمهور المتخصصين من الكتاب والأدباء، أي جانب المثقفين، وردود أفعال كل هؤلاء، يمكن أن تجعله يعيد النظر فيما كتبه، بالتعديل أو التغيير.

ويتحدث الناقد والمفكر محمود أمين العالم عن علاقته بمقاهي الأدباء قائلًا: المقهى هي المكان المفضل لتجمع الكتاب والأدباء، فأغلبهم ممن لا يمتلكون ثمن الاشتراك في نوادي الأغنياء، وعلاقتي بالمقاهي بدأت من خلال هوايتي كلاعب شطرنج محترف، ثم تعرفت على مقهى «عبدالله» حيث كنت أجلس مع الدكتور عبدالقادر القط، وفي مقهى «ريش» كنا نلتقي مع الأدباء والكتاب، في جلسات مفيدة، تعرف الأدباء بعضهم على بعض، وينتج عن هذا التعارف والتآلف توجهات ثقافية متجانسة أحيانًا، وتوجهات ثقافية مختلفة في أحيان أخرى، وأحيانًا تتحول الاختلافات في الرؤى الأدبية والفنية الى خلافات حادة في صورة مساجلات أدبية، وفي الحالتين تساعد هذه التجمعات الثقافية في المقهى على إثراء الحياة الأدبية والثقافية بالجديد في الاتجاهات والرؤى.

ويتابع العالم هذه الألفة والمودة الثقافية ـ برغم الاختلاف ـ تلهم المبدع أو الأديب أو الكاتب، فأجواء الحرية هي التي تصنع الإبداع، فعندما يرى أحدنا الآخر وهو يسمعنا قصيدته، أو يقرأ علينا ما كتبه نهرع إليه، لنستفيد منه ونفيده، فالأدب رؤية جديدة للعالم، وهذه الرؤية الجديدة تلهم الآخرين لرؤية أخرى، وهذا ما كان يحدث في تجمعات الأدباء بالمقهى، فالإبداع الجديد لأحدهم يفجر الطاقات الداخلية للإبداع عند الآخر.


عدد القراء: 9907

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-