الرواية والفيلم هل يكمل أحدهما الآخر؟


خاص - مجلة فكر الثقافية:

 

اشتهرت السينما بأنها الفن السابع وعُدت البعض الفنون السبعة ذاتها. مع ذلك، ومهما بالغنا في إيجاد تشابه أو تطابق بين مفرداتها وبين باقي الفنون، لا يمكن إنكار أن كلاً منهم فن قائم بذاته وله خصوصية شديدة، مثلما لا يمكن إغفال أن السينما تختلف في جوهرها عن كافة الفنون الأخرى، وأن السينما استفادت من الفنون جميعًا فنجحت في أن تجعل لنفسها خطًّا مستقلًّا ومتجددًا، حتى وإن أخفقت أحيانًا.

من بين العلاقات المتشابكة بين السينما والفنون الأخرى تظل تلك العلاقة بين السينما والرواية - وكذلك الدراما/ المسرح - علاقة تاريخية وثيقة ومتشابكة، بدأت مع السنوات الأولى لظهور السينما حيث اعتمدت على روايات - ومسرحيات- عالمية مشهورة، وحققت نجاحًا كبيرًا حينها، لكن سرعان ما ارتبكت تلك العلاقة وتوترت، وخلال رحلة البحث عن هوية السينما والخصائص المميزة لها أنكر البعض كونها فنًا جديدًا مثلما قال جراهام جرين: لسنا في حاجة لاعتبار السينما فنًّا جديدًا فهي في شكلها الروائي لديها غرض الرواية نفسه مثل ما للرواية غرض الدراما نفسه. البعض الآخر من نقاد وكتاب ومؤرخي السينما تطرف في محاولة إيجاد تشابه وتطابق بين مفردات كل من السينما والأدب. فالكادر السينمائي يقابل الكلمة، واللقطة تعادل الجملة، والفقرة تُقابل المشهد، والفصل لا يختلف عن الفصل، واعتبروا المونتاج بمثابة القواعد النحوية وأدوات الربط. لكن موريس بيجا ردّ بحزم في كتابه الفيلم والأدب على هذا الرأي متسائلاً في استنكار: «إذا كان هذا صحيحًا وكانت الكلمات هي المقابل للكادرات فأين القاموس الذي يستطيع أن يحدد معنى كل صورة».

من زاوية أخرى نجد إيتيان فيزيليه يعبر عن العلاقة بين السينما والرواية قائلاً: «تبدو لي هذه القرابة إيهامية أكثر مما هي حقيقية. إن السرد الروائي في خطوطه الأساسية يمكن أن يشكل مادة درامية كما يمكن أن يشكل مادة روائية، وما يميز الرواية هي طريقة معينة في تناول القصة ونموها وإغنائها بإطار خارجي وتقطيعها إلى عدة أمكنة ومزجها بتحليل مجرد، وفي الواقع أن هذه المميزات الروائية هي بعيدة عن أن تكون قابلة للاستيعاب في السينما». في حين يقول موريس بيجا: «إن الأدب المكتوب يستطيع أن يعبر عن الأفكار تعبيرًا اقتصاديًّا أفضل مما يستطيع أن يفعله الفيلم، وهذا أمر يتفق عليه كثير من المهتمين بالموضوع ويعتقد الكثير من الناس أن ذلك ينطوي على نتيجة مفادها أن الأدب وسيلة فكرية أما الفيلم فميدانه العواطف».

أما الروائي والكاتب الإيطالي البرتو مورافيا يرى أن أشياء كثيرة في الرواية تتعرض للحذف والإقصاء عندما تتحول إلى الشاشة لأن للسينما حدودًا، إن السينما تستطيع أيضًا أن تنجز أشياء رائعة ومدهشة لا يستطيعها الأدب، ففي السينما يستخدم المخرج الكاميرا من أجل إنشاء واقع جديد تمامًا. ويقول الفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو: ليس سهلاً دائمًا التعبير في الفيلم عن أشياء موصوفة على الورق، أشياء سوف يفهمها القارئ آليًّا.

بينما يجزم انجمار برجمان أن: الفيلم لا علاقة له بالأدب فطبيعة الاثنين مختلفة ومادتهما كذلك عادة، ويقول آلان روب جرييه: بالنسبة لي، السينما والأدب عالمان مختلفان، ليس بينهما أي رابط.

من ناحية ثانية، اعتبر جيل دولوز في كتابه فلسفة الصورة- الحركة أن: الفيلم في كليته يُبنى على حركة الصورة، وبهذا يستطيع أن يبتكر مجموعة صور مختلفة تماماً ويُولفها، قبل أي شيء آخر، عن طريق المونتاج. ويعد هذا التوصيف ينقصه جملة «حركة الصورة الواقعية أو المرئية»، لأن الرواية هي أيضًا في كليتها تُبنى على حركة الصورة المتخيلة، وتبتكر مجموعة صور مختلفة وتولفها عن طريق مونتاج آخر. فهل هذا يعني أنه يُمكن اعتبار الرواية صورة سينمائية صامتة، وأن السينما صفحات روائية ناطقة؟

من زاوية أخرى لا يُمكن إنكار أن السينما اعتمدت على الأدب في أمور أخرى كثيرة مثل المونتاج وأحجام اللقطات، «ففي كتابات تشارلز ديكنز وجد جريفيث، في عهد السينما الصامتة، مبتكرات سينمائية مثل: المزج، واللقطة الكبيرة، والحركة الاستعراضية للكاميرا». «ويشرح المخرج الروسي سيرجي ايزنشتاين في ما قاله ديكنز وجريفيث والفيلم اليوم كيف ترجم جريفيث الأساليب والتقاليد الأدبية للقصاصين «خاصة ديكنز» إلى مرادفاتها السينمائية. وأوضح إيزنشتين أن أساليب تقاطع اللقطات واللقطات القريبة والرجوع إلى حوادث سابقة وحتى المزج، لها جميعًا مقابلات في الأدب، وأن كل ما فعله جريفيث هو اكتشاف هذه المرادفات». كذلك تأثر إيزنشتين بقصائد الهايكو ـ النوع التقليدي للشعر الياباني القديم ـ في ابتكار منهجه في المونتاج، حيث «كان يقوم بتركيب ثلاثة عناصر منفصلة لينشئ شيئًا مختلفًا في النوع أو الطبيعة عن أي عنصر منها». واعتبر إيزنشتين أن: «كتاب ميلتون "الفردوس المفقود" مدرسة يمكن من خلالها دراسة فن المونتاج والعلاقات السمعية - البصرية».

أول فيلم روائي في تاريخ السينما:

يعد ديفيد جريفث أول كاتب قصة وشاعر يأخذ طريقه إلى عالم السينما ليخرج للعالم أول فيلم يبدأ من عنده تاريخ السينما في العالم كفن ينفرد بتقنية خاصة ووسيلة تعبير مميزة وهو فيلم "مولد أمة" الذي أنجزه عام 1915، ويعد من أفضل مئة فيلم في العالم.

توقف جريفث عن الإبداع الأدبي ولكنه لم يتوقف عن إعداد الأدب للسينما فغالبية أفلامه تعتمد على نصوص أدبية، واستقطب إلى جواره البعض لكتابة السينما ومثل (فرانك وودز) الذي يعد أول كاتب سيناريو بالمعنى المعروف.

الفيلم ومستقبل الرواية:

للسينما عامل جذب للجميع: الشاعر والروائي والكاتب المسرحي والفنان التشكيلي وغيرهم الكل يجزم بأن المستقبل للصورة المرئية، وللسينما سحر خاص وجاذبية خاصة ومساحة عريضة من الجمهور قلما يتوافر لنص أدبي جمهور مثله.

يقول كلود موريال: وهو من أهم كتاب السينما ومنظريها في العالم: إن الفنون أيًا كانت، تجسد الحلم، إنها تنزع إلى إعطاء شكل لما هو غير محسوس، والسينما. بين جميع طرق التعبير هي الطريقة التي تتمتع بأكثر الوسائل اقناعًا في اقتناص الموج الشاعري، أولاً: لأنها لا تجمده.

إن ثمة مقارنة عقدها مارسيل مارتن في كتابة "اللغة السينمائية" بين السينما والفنون الأخرى أشار فيها إلى أن السينما من وجهة النظر الاجتماعية قريبة الشبه بالمسرح خاصة المسرح القديم: نفس الجمهور الضخم، نفس الواقع الاجتماعي العظيم، نفس الخاصية التي تكاد تكون أسطورية العرض، وثمة تشابه أيضًا بين أقنعة الممثلين في العصور القديمة وبين الطرازات السيكولوجية والاجتماعية للسينما التي هي أكثر الأحيان مرفوعة إلى مستوى الأسطورة.

لقد كتب ألن روب جرييه مباشرة للسينما (النص السينمائي) وكان فيلمه الأول (السنة الأخيرة في مارينباد) من إخراج ألن رينيه نموذجًا للغة السينمائية التي تتجاوز السرد الروائي كما قال عنه بعض النقاد فثمة تداخل في الأزمنة واصطدام وتحاور بينهما.. وتوالت أفلام (جرييه) فجاء فيلم (الخالدة) 1963م ثم (قطار أوريا السريع) عام 1966م الذي أدى فيه الخيال دوره البارع، واستمر يقدم أفلامه حتى عام 1983م حيث قدم فيلمه الأخير (الأسيرة الجميلة).. وإذا كان النقاد قد انقسموا تجاه تجربة (جرييه) إلى قسمين الأول يعيد تشكيلها ويؤكد إنها أسدت للسينما رؤية جديدة والآخر يؤكد فشلها ويتهمها بالادعائية الثقافية والسطحية، والسقوط وعلى رأس هؤلاء الناقد روجيه بوسينو، الا إننا نؤكد من خلال ما شاهدناه من أفلام (رينيه) انها تجربة تستحق الوقوف عندها ومن ثم البناء عليها لا تجاوزها والغاءها.

أما (مارجريت دورا) فكانت تجربتها مختلفة فهي تتعامل مع النص الأدبي كمادة طيعة قابلة للتحول من الرواية إلى المسرح إلى السينما ويعد فيلمها الأول وهو أيضًا من إخراج (ألن رينيه) "هيروشيما حبيبتي" عام 1958م بداية جيدة وترجمة بالصورة لما قدمته الرواية الجديدة من تقنيات. وتتوالى أفلام (دورا) التي تقدمها بين الكتابة والإخراج وتقدم من خلالها تجربة خاصة في العلاقة بين الصوت والصورة وتأملات في الإبداع السينمائي.

وبدون الحكم على هذه التجربة وتجارب (أخرى مشابهة فإننا نشير إلى أن الشاشة ستبقى مساحة جذب لنصوص وشخصيات أدبية.

أن ما طرحه ماركيز من تبريرات حول اتجاهه الأخير يشير الى ما للسينما من دور مهم في المستقبل تجاه المبدع والقارئ معًا وهو دور قد يفوق دور الأدب ولكن لن يلغيه أبدًا.

إن ثمة علاقة واسعة بين السينما والأدب لا تبدأ من النص والكاتب فقط، ولكنها تتناول جوانب أخرى عديدة تتمثل في بناء الزمان والمكان وشعرية الصورة وتقارب وتباعد اللغة.

ولكن ما نحن بإزائه هنا هو ملامح عامة حاولنا أن نؤسس بها لما هو أعمق وأوسع وأشمل.

مقارنة أخرى قدمها سيمون فرايلش في كتابه "الدراما السينمائية": "فن السينما يرفع الحدود والحواجز بين فن الكتابة والفن التشكيلي". فالفيلم يسيطر على الزمن والشكل معًا.. في البدايات قامت السينمائي بتقليد المسرح ثم تقليد الفن التشكيلي ثم راحت تسير على منوال السرد الأدبي فظل الأسلوب السينمائي مقلدًا إلى أن استجمع إمكانياته وخبراته الفنية الخاصة.

العلاقة بين الروائي والسينما:

الكثير من الأدباء يدخلون دومًا في صدامات حادة مع المنتجين والمخرجين من أجل المحافظة على نصوصهم شكلاً ومضمونًا، وتتمحور شكوى الأديب الدائمة في أن أعمالهم زيفت حينما تحولت إلى لغة الفن السابع. فعلي سبيل المثال: عندما شاهد الكاتب الروائي الأمريكي "إرنست هيمنجواي" الحائز علي جائزة نوبل سنة 1954 روايته الشهيرة "العجوز والبحر" على الشاشة خرج قبل أن ينتهي الفيلم, صارخًا في الظلام "ليست هذه قصتي", أما جون شتنايبك (1902 ـ 1968) الحائز أيضًا على جائزة نوبل سنة 1962 فقد خرج باكيًا من دار العرض التي عرضت الفيلم المأخوذ عن قصته "قدح الذهب" قائلاً: «هذه ليست قدحي, بل إنها قدح من النحاس المزيف». وها هو الروائي الإيطالي الشهير "البرتومورافيا" (1907 ـ 1990) يسير في الفلك نفسه مؤكدًا قبل سنة من وفاته: فضل الأدب على السينما عندما قال: إن أحسن الأفلام التي أخرجت عن روايات كانت الأفضل بالنسبة لمخرجيها, لكنه عاد قائلاً "إنني أحب السينما، والسينما تحبني دائمًا".

يبرز الروائي الأمريكي المعروف (ستيفن كينغ) الذي يتابع مراحل صناعة الأفلام المأخوذة عن رواياته ليطمئن على نقلها الأمين لما كتب. فإن ظهرت النتيجة عكس ما يريد فإنه لا يتردد في إعلان براءته من هذا الفيلم. كما حصل في العام 1980 مع فيلم (إشراق-The Shining) المأخوذ عن روايته التي تحمل ذات الاسم. ففي هذا الفيلم قام المخرج الكبير (ستانلي كويبريك) بإحداث تغييرات هائلة على النص الأصلي، فأخذ منه ما يتماشى مع أسلوبه الخاص في صناعة الفيلم، ولينتج عن هذا حكاية مفزعة أكثر من كونها مرعبة. وقد أغضب هذا التصرف (ستيفن) فأعلن براءته من الفيلم. ليعود بعد ذلك بسنوات, في العام ,1997 فيشرف على صناعة فيلم تلفزيوني مأخوذ من الرواية نفسها ويحمل الاسم نفسه (إشراق) أراد له أن يكون ترجمة حرفية للرواية. وقد أجاد في ترجمته. لكن النتيجة كانت مخيبة للآمال.

ومثل هذا الصدام قد لا يجد له مكاناً لدى المخرج والممثل الإيرلندي (كينيث براناه)، الذي يؤمن أصلاً بضرورة إعادة تصوير العمل الأدبي كما هو دون إضافة من أي نوع. فهو قد حول مسرحية (هاملت-Hamlet) إلى فيلم بالاسم نفسه من بطولة (أنتوني هوبكنز) التزم فيه بذات الأجواء والتفاصيل ذاتها التي رسمها مبدع النص الأصلي شكسبير. كما قدم في العام 1994 فيلم (فرانكنشتاين- Frankenstein) تماماً كما صورته الروائية الإنجليزية (ماري شيللي) في روايتها الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه. هذه الترجمة الحرفية وبرغم احترامها وتقديرها للنص الأصلي إلا أنها تبدو خالية من أي إبداع, فهي ليست سوى إعادة تصوير ولا مكان لروح وذاتية الصانع فيها. وهي بالإضافة إلى ذلك لا تقدم جديداً بالنسبة لقارئ الرواية. وعلى العكس منها تلك الأفلام التي تراوغ العمل الأدبي وتنتشل منه ما تريد وتعزف على الأوتار التي تلائمها, فهنا يكون مجال الإبداع أوسع وأوضح, والتغييرات التي يضيفها صانع الفيلم قد تبعث الحياة للنص الأصلي وتمنحه قيمة أكبر وأعمق.. تماماً كما فعل فرانسيس فورد كوبولا مع قلب الظلمات.

ولا يفضّل آخرون إنتاج أعمال سينمائية من نصوص أدبية حفاظًا على هامش التخيّل الذي يمنحه الأدب للقارئ؛ فحين فازت رواية "مئة عام من العزلة" لغابرييل ماركيز بجائزة نوبل، تدافع عليه المخرجون والمنتجون السينمائيون مطالبين إياه بالموافقة على تحويلها إلى فيلم سينمائي، غير أن الكاتب رفض بعناد كل العروض، مبرراً موقفه بالقول إنه يريد كل قارئ أن ينسج صورًا لأبطالها في مخيلته من وحي قراءته للرواية، وأن يذهب إلى تفسير أحداثها كما يشاء، أما إذا تحولت إلى الشاشة فإن السينما سوف "تنمذج"، وتنمّط شخوصها، وتضفي عليها تفسيرًا مغلقًا لن يستطيع القارئ الإفلات منه لو قرأ الرواية بعد مشاهدة الفيلم المأخوذ منها.

والوضع لا يختلف كثيرًا بالنسبة للأدباء والكتاب العرب. فالدكتور طه حسين (1889 ـ 1973) كان يقول "السينما مفسدة للأعمال الأدبية" وعندما سئل الكاتب الروائي نجيب محفوظ (1911 ـ 2006) عن أعماله الأدبية التي تتحول إلى أعمال سينمائية أجاب "بأنه غير راضِ كل الرضا عن جميع أعماله التي تحولت إلي أفلام". أيضًا الكاتب الروائي "إحسان عبدالقدوس" (1908 ـ 1990) كان يقول دائمًا "إن مهمتي ككاتب تنتهي عندما تنشر الرواية أو القصة على الناس" الشيء نفسه قاله الراحل الدكتور يوسف إدريس (1927 ـ 1991) وعندما قدمت أعمال الأديب توفيق الحكيم (1898 ـ 1987) على الشاشة من وجهة نظر توفيق الحكيم "ليست على مستوى العمل الأدبي الذي كتبه".

السينما والاقتباس من الأدب:

اقتباس السينما من الأدب بأنواعه المختلفة لا يزال حاضرًا حتى بعد مرور أكثر من مئة عام على انطلاق السينما. فنحن مازلنا نشاهد السينمائيين المعاصرين وهم يعودون إلى الماضي ليأخذوا منه عملاً أدبيًّا كلاسيكيًّا فيعيدوا تصويره من جديد كما حدث مع رائعة الروائية الإنجليزية جين أوستن (كبرياء وهوى) التي ظهرت منها نسخة سينمائية جديدة حافظت بصورة دقيقة على روح وشكل النص الأصلي. ومع استمرار عملية الاقتباس برزت العديد من الآراء التي بحثت في الكيفية المثلى التي يلزم التعامل بها مع الأصل الأدبي. فالبعض مال إلى التشدد في احترام النص الأصلي ولزوم إعادة تصويره كما هو بشكله ومضمونه. وهؤلاء يبدو المثال السابق, كبرياء وهوى, بمثابة الانتصار لرأيهم. لكن هناك بعضًا آخر لا يشترط مثل هذا الالتزام الحرفي. فهم ينظرون للفيلم السينمائي كوحدة متكاملة وبناء مستقل ينبغي أن يقدم نفسه بمعزل عن النص الأصلي. فالفيلم هو نتاج إبداعي لتجربة شعورية ذاتية عاشها صانع الفيلم مع الرواية وليس شرطاً أن يكون ترجمة لتصور وشعور شخص آخر كتب عملاً في وقت سابق. لذا فلا تلزم المقارنة بين الفيلم والأصل الأدبي الذي يستند إليه.

وآخر يكتفي باقتباس فصل منها. بل إن بعضهم غالى في الأمر فاستل فقط (حالة) أو(شعورًا) وبنى بالاعتماد عليه فيلماً كاملاً. ومن بين الأمثلة على مثل هذا الاقتباس النوعي أو الانتقائي يبدو مثال الفيلم المصري (الكيت كات) بارزًا كونه قد اعتمد على موقف بسيط حدث في رواية (مالك الحزين). فالمخرج المصري داود عبدالسيد توقف كثيرًا عند بداية الرواية, تحديدًا عند وصف الراوي لحادثة وفاة العجوز الذي مات فقيرًا بائسًا دون أن يكترث لموته أحد, فقام مستندًا إلى الشعور الذي أحسه أمام هذا الموقف المؤلم ببناء سيناريو الفيلم كاملاً. مثل هذا النوع من الاقتباس يتكرر كثيرًا في السينما. وفي بعض الأفلام لا يكون الانتقاء فقط من رواية واحدة. بل يمكن أن يكون الفيلم عبارة عن حشد لشذرات متفرقة من أعمال أدبية عديدة كما نرى في فيلم (الميكانيكي-The Machinist) الذي هو ترجمة لروايات ديستوفسكي الثلاث الشهيرة وإن كان يبدو طاغيًا حضور رواية (الجريمة والعقاب). أيضًا في فيلم Equilibrium -الذي ظهر عام 2002 تم دمج العالم الذي ترسمه رواية (ألف وتسع مئة وأربعة وثمانون- 1984) للبريطاني جورج أورويل مع أجواء الرواية الأمريكية (فهرنهايت 451) لينتج عن هذا الدمج بناء مستقل قائم بذاته هو حكاية الفيلم.

أما الأمثلة على الأفلام التي أخذت فحسب روح الرواية وتجاهلت الشكل تمامًا فهي عديدة ولعل أبرزها فيلم (القيامة الآن-Apocalypse Now) للمخرج الأمريكي (فرانسيس فورد كوبولا) الذي اقتبس روح الرواية الشهيرة (قلب الظلمات) للروائي (جوزيف كونراد). وقد اعتبر هذا الاقتباس أحد أذكى الاقتباسات في تاريخ السينما. فالرواية التي كتبت مطلع القرن الماضي والتي تجري أحداثها في أدغال الكونغو في أفريقيا في  أثناء الرحلات الاستعمارية للأوروبيين, قام (كوبولا) بتحويرها لتحكي قصة الغزو الأمريكي لفيتنام في ستينيات القرن العشرين. الأمر نفسه حدث مع فيلمين آخرين هما (رجل ميت-Dead Man) للمخرج الأمريكي (جيم جارموش) و(بلاد سيئة-Badlands) للمخرج (تيرينس مالك) والذين قاما بمحاكاة واضحة للرواية الشهيرة (الغريب) التي كتبها الروائي الفرنسي (ألبير كامو).


عدد القراء: 11478

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-