أدب المهاجر وتأثيره في الآداب العالمية


خاص- مجلة فكر الثقافية:

أنتجت الثقافة العربية طقمًا كاملاً من الآداب الشفاهية في تشكلها، منها أدب الصعاليك، وهو الأدب الشفاهي الذي ينتج على الدوام عن طرد شاعر من القبيلة لأسباب اجتماعية أو سياسية خارج الجغرافيا التي تحتلها القبيلة أو المدن الناشئة قبل الإسلام، ويعد هذا الأدب هو أول تشكل لمفهوم أدب المنفى، أو أدب الهجرة وإن لم ينطو على شغف أول أو حنين أو نوستالجيا، إنما هو أدب مقاوم ومعارض ومنشق على نحو غير محدود.

ولكن لم يستبن أدب المنفى أو الأدب المهاجر إلا بعد نشأة الدولة القومية الحديثة سواء أكان ذلك في الغرب أو في البلدان التي نشأت على شاكلة الدولة الاستعمارية والتي أطلق عليها جون هولداي في كتابه الشهير "العربية بلا سلاطين" بدول ما بعد الاستعمار. وقد عد الكاتب الهندي راجندت جوحا هذا النمط من الكتابة هو نتاج الدولة - الأمة التي قامت على خيار تأسيس الحدود والخريطة السياسية، وبما أنها وضعت شروط الحياة السياسية بخط صارم فأي خروج على الخط يؤدي إلى الاقتلاع أو النفي أو المصادرة، وهكذا عبر العالم الجديد عن نوع من الزحزحات الكبرى في الآداب العالمية، فقد شكل المنفيون والمهاجرون وجه العالم المعاصر، وأصبحت الكتابات الكبرى والناقدة للغرب والاستعمار متبيئة في خريطة العالم الجديد، فحنيف قريشي وإقبال أحمد وطارق علي هم كتاب بريطانيون، وهومي بابا وغياتري سبيفاك وإدوارد سعيد هم كتاب أمريكيون، والطاهر بن جلون، وسامي تشاك، وعبدالكبير الخطيبي ونينا براوي هم كتاب فرنسيون، غير أنهم جميعهم وإن كتبوا بلغات البلدان التي عاشوا فيها لم ينتموا إلى الخريطة السياسية لبلدانهم الجديدة إلا بوصفهم نقادًا لها، وهم مدافعون عن البلدان التي جاءوا منها.

على الضفة الأخرى هنالك الكتاب الذين يعيشون في غير أوطانهم، أو غير أممهم، كمهاجرين أو منفيين، غير أنهم لا يكتبون بلغات الأمم التي يعيشون فيها، بل هم يكتبون بلغاتهم الأم، وتسهم كتابتهم وإن ابتعدت جغرافيًا عن مركز الثقافة الأصلي في تأسيس بل في تغيير القناعات، والتأثير على أسس الثقافة جذريًا، ويندمج هذا الأدب في أدب الأمة الأصلي ولا ينتمي إلى الأمة الجغرافية التي يعيش وينتج فيها، بل يسهم هذا الأدب في إنتاج ثقافة مخصبة جديدة، فصادق هدايت وعبد الكريم سروش، وعلي رحيمي الأيرانيون عاشوا في الغرب وكتبوا بالفارسية، مثلما كتب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وشعراء الرابطة القلمية بالعربية.

الأدب اللاتيني – الأمريكي والمنفى

تميز الكتاب اللاتينيين- الأمريكيين، كالأرجنتينيين والأوروغوين، بأنهم يصفون أنفسهم كرجال دون جذور. ويعترف الأرجنتيني الشهير "بورخيس" أنه، على خلاف هنود أمريكا وأسلافهم أتى هو وشعبه من الباخرة فتكون أرجنتينيته عبارة عن فن لا مكان له ولا جذور.

أما الكاتب الأرجنتيني "مانويل بويغ"، الذي تنقل من "بيونس أيرس" إلى "نيويورك" ومنها إلى"ريو دي جانيرو"، فقد تخلى شيئًا فشيئًا عن ريشته الأصلية وأخذ يترجم بعضًا من كتاباته إلى الإسبانية . إذًا فالمنفى هو اللغة. وهكذا يمثل "مانويل بويغ" الكاتب الذي فقد لغته - تمامًا  "كبيكيت"  الذي عبر بلغة غريبة عنه الفرنسية.

ويعترف الكاتب الكوبي الشهير "جيرمو إنفانتيه"، الذي أصبح إنجليزي الجنسية، إنه كتب كتابه (ثلاثة نمور حزينة) لا بالإسبانية ولا بالكوبية، بل بلغة "هافانا" الليلية. ويعود في روايته الأخيرة "هافان انفنتين المرحوم" ليؤكد أن الماضي مات وأن لا وجود "هافانا"  إلا في تخيلاته المكتوبة.. إن المنفى حوّل عمله إلى رثاء أو تابين.

ويصرخ كاتب "البيرو"، الفيردو أيشونيك" بلهجة تشبه لهجة الطائر المحروم من الطيران: "السعادة، ها! ها! ها". وتكون السعادة والجنة منفيتين إلى أبد الآبدين بالنسبة لهذا الكاتب المقلوع الجذور بين "برشلونة" و"باريس" وتلمس في كتاباته وضع الرجل "الأمريكي – اللاتيني" في باريس. فيصف كتابه الأول عالم الطفولة الساحر بعطف وحياء. أما كتابه الثاني فيصف كيف تحول قصر طفولته إلى سقيفة باريسية.

ويقود الابتعاد عن الأرض إلى تعظيم هذه الأرض وتجميلها. لذلك تتطور الأعمال الأمريكية الرائعة في بلدان المنفى. فكتب الكولومبي "غابريل جرسيا ماركيز" كتابه "مئة عام من العزلة" بعيدًا عن بلاده، والبيروني "ماريو فالجاس ليوسا" كتابه "المدينة والكلاب" في باريس، والأرجنتيني "خوليو كورتازار" كتابه "لعبة الأولاد" في المنفى.

اللغة الفرنسية في أدب مهاجر المغرب العربي

ولد الأدب المغربي بالفرنسية في الثلاثينيات، عندما نشر "جان عمروش" -اسمه الحقيقي الموهوب عمروش- كتابه الأول بعنوان (رماد!). وهو قد نشأ في عائلة قبلية جزائرية وكتب عن "غرابة" موقف الكاتب المغربي الممزق بين العصرية والتقاليد وبين شعبه وتربية فرنسية مفروضة. تمزق عالم الكاتب بسبب كل هذه التناقضات وهاهو يصرخ: "رماد" أين يوجد مكان لي ولابنك المقيد لأطراف؟ أين؟".

ولقد غيرت حرب 1930 - 1945 المعطيات كلها. أصبح بالإمكان الانتصار على القوة الاستعمارية. وفي هذه الفترة "قبل- الثورية"، حتى انتفاضة الجزائر عام 1945، تدفق في الجزائر أدب "عراقي" متمثل بكتابات محمد ديب (البيت الكبير) ومولود فرعون (ابن الفقير) ومولود معمري (التلة المنسية) وإدريس شرايبي (الماضي البسيط).

ويعبر هؤلاء الكتاب عن تسرب "الحداثة" داخل مجتمع منغلق على ذاته، ويتصدون للأعمال الاستعمارية في إطار الحياة التقليدية التي تسيطر عليها صورة "الأم"، صورة قد نسيها التاريخ. وفي الجزائر تبرز شخصيات الماضي كعبدالقادر وغيره. وتعبّر العودة إلى الأسلاف عن وعي عربي صميم.

لكن اللغة العربية الفصيحة كانت لغة غريبة بالنسبة للمغرب العربي آنذاك. ولم يبق أمام الكتّاب المغاربة سوى استعمال اللغة المحكية أو اللغة الفرنسية. وقد اتهم كتاب "جيل 1952" بأنهم يتحدثون إلى مستمعين أوروبيين. ونسي هؤلاء المتهمون أن الكتابة باللغة الفرنسية هي، بطبيعتها، خطوة ثورية إذ إنها تؤكد الهوية العربية.

لكن الكاتب الذي سيطر على الأدب المغربي لفترة "ما قبل الاستقلال" هو كاتب ياسين. فنجح في تخطي مشكلة الفردية ليخلق من جديد التاريخ والأسطورة. وتبقى روايته "نجمة" أهم رواية كتبها كاتب مغربي بالفرنسية. إنه مجدد في الكتابة. يرتكز على عبادة الأسلاف وينطلق للبحث عن الوحدة الرمزية عبر "نجمة" يتعذر التقاطها، وتُدعى الجزائر. يقول "عبدالكبير خطيبي": «الأسطورة بالنسبة لكاتب ياسين تأمّل يؤدي إلى تزوير التاريخ وإلى تشويشه في جو لِعَبي».

فولتير.. جزائريًّا

لقد كان نشدان الحرية وتأكيد الذات والهوية والاستقلال هي الديباجات الأساسية دائمًا في الأدب الجزائري، سردًا وشعرًا، طيلة فترة حرب التحرير، وحتى قبل ذلك خلال الهبّات الثورية المتكررة ضد الاستعمار الاستيطاني على امتداد الـ132 سنة من الاحتلال الفرنسي. وقد ظهر أصلاً أوائل كتاب السرد المغاربيين بلسان فولتير في الجزائر تحديدًا وفي وقت مبكّر نسبيًا، مثلاً مع سي امْحمد بن رحال الذي نشر قصة باللغة الفرنسية سنة 1891، في حين لم تظهر الرواية الأولى بلسان فولتير سوى سنة 1920 وهي للكاتب بن سي أحمد بنشريف (1879 - 1921)، وكانت بعنوان: «أحمد بن مصطفى، مجند الهجّانة». وضمن هذا الجيل الأول من الكتاب المفرنسين يمكن أيضًا ذكر عبدالقادر حاج حمو (1891-1953)، وشكري خوجة (1891-1967)، ومحمد ولد الشيخ (1905 - 1938)، وعلي الحمّامي (1902-1949)، ورباح زناتي (1877 - 1952)، وجميلة دباش (+1926)، وماري لويز طاووس عمروش (1913 - 1976). هذا في حين كان أخوها الإعلامي الشهير جان عمروش (1906 - 1962) هو أول من قدم لمدونة الأدب الجزائري والمغاربي الناطق بالفرنسية نصوصًا شعرية عامرة بفضاء روحي ومسكونة بأسئلة البحث عن مقومات الذات والهوية.

ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945 شهدت الجزائر طفرة نوعية في السرد المكتوب بالفرنسية، حيث ظهر ثلاثة كُتاب كبار دفعة واحدة حملوا معًا هموم أمة صاعدة، وعكسوا معاناة بلد يئن تحت نير المعاناة وجحيم الاحتلال. وهؤلاء الكتاب الثلاثة هم مالك واري، ومولود معمري (1917-1989)، صاحب «الربوة المنسية»، و«سبات الحقيقة»، وخاصة مولود فرعون الذي استبطنت أعماله ثيمات موضوعية كثيرة لعل أبرزها السعي لتأكيد الذات والهوية الوطنية الجزائرية أولاً طيلة فترة حرب التحرير، ثم تجديد وتأكيد الثقافة والهوية البربرية الأمازيغية، تاليًا، في مرحلة ما بعد الاستقلال. ولمولود فرعون أعمال سردية وأدبية كثيرة منها: «أيام قبائلية»، وقد طبع سنة 1954. و«أشعار سي محند» وطبع سنة 1960. وروايته الأكثر شهرة «ابن الفقير» وقد كتبها في شهر أبريل سنة 1940. وكذلك من أعماله الأخرى «الذكرى» وطبع سنة 1972. و«الدروب الوعرة» وصدر سنة 1957. و«الأرض والدم» 1953. و«مدينة الورود» 2007. و«رسائل إلى الأصدقاء» 1969.. الخ.

وفي الغرب الجزائري بزغ نجم محمد ديب (1920-2003)، بعوالمه السردية الواقعية المبهرة وشخوصه الذين كان يمتاح ملامحهم من يوميات الشرائح الأكثر شعبية في المدن والأرياف، وقد رسم ذلك الفضاء السردي المبهر في ثلاثيته الروائية «الجزائر»، وهي تشمل روايات «الدار الكبيرة» و«الحريق»، و«النَّوْل».

ومن أبرز كتاب السرد الجزائريين أيضًا رشيد ميموني (1945-1995)، ومن أشهر رواياته «الربيع لن يكون إلا أجمل» 1978، وفيه يسرد صورًا من الحب والحياة والموت واليوميات الصعبة خلال فترة اندلاع ثورة التحرير الجزائرية.

وفِي شرق الجزائر ظهر أيضًا روائيان عظيمان هما مالك حداد (1927-1978)، وكاتب ياسين (1929-1989)، وقد أرسيا تقاليد رسم الفضاء المكاني لعوالم السرد الروائي الجزائري في تلك الفترة. وكانت عوالم روايات كاتب ياسين خاصة طافحة بهواجس البحث عن الزمن الذاهب، وتباريح الهوى والشوق والحب، والأصل والفصل وقلق وألق الأساطير المؤسسة، مشكـِّـلة بذلك بدايات تقاليد كتابة سردية جديدة، حالمة بوطن صاعد من تحت ركام أعباء وفوضى التاريخ. وقد بلغ سرد كاتب ياسين، الذين يعتبره كثيرون «كاتب الثورة» الجزائرية، الذروة مع رواية «نجمة» الصادرة في 1956، والمعتبرة أحد أكبر الأعمال السردية المغاربية المكتوبة بالفرنسية. ولعل لقوة الحبكة والقدرة على المناورة السردية دخلاً في هذا الاحتفاء والاحتفال النقدي الواسع برواية «نجمة».

وكانت آسيا جبار بمعنى ما، بمثابة آخر العنقود ضمن كتاب الجيل المؤسس، للكتابة الأدبية المفرنسة في الجزائر، وقد دخلت في المشهد الأدبي، ابتداءً، بقوة وعلى نحو صاخب بعملها «العطش» أو «الظمأ»، الذي أثار حينها كثيرًا من الجدل، وأسالت ردود الفعل عليه كثيرًا من المداد.

المغرب بلغة بودليـر

لقد ظل حجم حضور الثقافة الفرنسية في المغرب - وتونس- أقل بكثير من الجزائر، وهو ما يجد تعبيرًا عنه أيضًا في بدايات المنتج الأدبي، وفي حجمه، ويكفي في هذا المقام دلالة الجرد الذي نشره الناقد الفرنسي «جيل سير» في كتابه «الأدب المغربي الناطق بالفرنسية»، حيث كشف أن الفترة الممتدة من 1945 إلى 1968 شهدت صدور ما مجموعه 173 عملاً أدبيًا مغاربيًا باللغة الفرنسية، ما بين روايات ومجموعات قصصية ودواوين شعر ونصوص مسرح، وقد مثل نصيب الكُتاب الجزائريين منها 131 فيما كانت 42 عملاً فقط من إنتاج أدباء مغاربة وتونسيين.

وفي المغرب تحديدًا كانت أول بداية حقيقية للسرد بلغة فولتير وبودلير مع صدور عمل أحمد الصفريوي (1915-2004)، «مسبحة الكهرمان»، (1949). وهو عمل سردي لقي كثيرًا من الإشادة في حينه، وفيه يستدعي الكاتب أجواء مدينة فاس، ويومياتها، ونجد ذات النزوع للامتياح من أجواء الأصول والجذور أيضًا في روايته الثانية «صندوق العجائب» 1954.

ولكن الكتابة السردية بالفرنسية عرفت طفرة أدبية نوعية في المغرب خاصة مع إدريس شرايبي (1926-2007)، الذي دخل المشهد الأدبي بكثير من الألق والتمرد على التقاليد الأدبية القديمة والصور النمطية الاختزالية السائدة، وخاصة في عمله ذي ملمح السيرة الذاتية «الماضي البسيط»، الذي انتهك فيه كل الخطوط الحمراء وكسر مختلف صور التحفظ المسكوت عنها حول معاناة المجتمعات الرازحة تحت نير الاستعمار.

كما نشر الروائي والشاعر المغربي الشهير طاهر بن جلون العديد من الروايات والسرديات، ضمن بدايات موجة الجيل الثاني من الكتاب المغاربة بالفرنسية، مثل «مجنون الأمل» و«تجاعيد الأسد» و«شاعر يمر». وقد حظيت أعمال بن جلون الروائية بصفة خاصة بكثير من الأصداء في الأوساط النقدية والأدبية الفرنسية، وخاصة منذ فوزه بجائزة غونكور الأدبية المرموقة سنة 1987 عن روايته «ليلة القدر»، ومن أبرز أعماله السردية الأخرى «حرودة» 1973 و«موحى الأحمق وموحى العاقل» 1981 و«طفل الرمال» 1985 و«تلك العتمة الباهرة» 2001.. كما أصدر العديد من المجموعات القصصية والدواوين الشعرية بالفرنسية. وقد أسهم أحيانًا أيضًا في التعريف بالأدب المغربي المكتوب بالعربية، ومن ذلك مثلاً ترجمته لرواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري.

كما مثلت أعمال الكاتب المغربي عبدالكبير الخطيبي (1938-2009) نقلة أخرى، وقد مثل صدور عمله «الذاكرة الموشومة» 1971، انعطافة كبيرة في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، وقد حظي هذا الكتاب بكثير من الإشادة من طرف النقاد الفرنسيين، وقد كتب عنه الناقد الشهير رولان بارت مقالاً ذائعًا تحت عنوان: «ما أنا مدينٌ به للخطيبي»، ثمّن فيه الرجل الذي جعلنا «نكتشف الآخر الكامن فينا». وعلى ذكر هذه الميزة، وفي سياق أسئلة الذات والآخر، والعلاقة مع الغرب، فقد عرفت عن الخطيبي، المكافح اليساري السابق، دعوته إلى ممارسة ما يسميه «النقد المزدوج» بممارسة قدر غير قليل من النقد الذاتي للثقافة العربية من جهة، ونقد الآخر الغربي، والسعي لتبصيره بحدوده الذاتية ومساعدته على التخلص من بعض أوهام التمركز حول الذات والمركزية الغربية، من جهة أخرى.

ومع صدور مجلة «أنفاس» Souflles في بداية عام 1966 كانت هناك نقلة نوعية في تاريخ الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية، ولكن مع ذلك لزم الانتظار حتى سنة 1982 لكي تظهر أول رواية نسائية مغربية باللغة الفرنسية، وهي رواية «عائشة الثائرة» لحليمة بن حدو، وتبعتها ثلاث روايات أخرى لكل من بادية حاج ناصر، وليلي هواري، وفريدة الهاني مراد. وفي سنة 1987 نشرت نفيسة السباعي رواية «الطفل النائم». وكانت أليزا شيمانتي، وهي من الأقلية اليهودية المغربية، قد نشرت في سنة 1935 قصصًا بعنوان «حواء المغربية»، كما نشرت في 1958 رواية «في قلب الحريم».

وقد حظيت رواية حليمة بن حدو خاصة بأصداء إعلامية واسعة، ونشرت في مجلة «جون آفريك» الباريسية ذائعة الصيت في القارة السمراء. والكاتبة شابة مغربية أصيبت بشلل الأطفال منذ كان عمرها تسع سنوات.

أما رواية بادية حاج ناصر «تعرية الحجاب» المنشورة في باريس 1985، فتبدو أكثر جرأة، ربما لأن المؤلفة متخصصة في الطب النفسي.

وفي سنة 1985 أيضًا نشرت ليلى هواري في باريس رواية «زيدا، من لا مكان»، وفيها ترسم الكاتبة مسار حياتها، دون أن تعترف بذلك أو تستخدم ضمير المتكلم «أنا».

أما رواية فريدة الهاني مراد «الفتاة ذات القدمين العاريتين» الصادرة في الدار البيضاء 1985، فربما بسبب ملامحها الشرقية لقيت من النقاد الفرنسيين نقدًا لاذعًا، حيث اعتبرها بعضهم «فيلمًا شرقيًا» قديمًا، حيث الحياة البورجوازية والتلفونات البيضاء، وأجواء الفخفخة المصطنعة.

ولابد في هذا المقام طبعًا من إشارة خاطفة إلى آخر الروائيات المغربيات لفتًا للانتباه وهي ليلى سليماني، الفائزة في عام 2016 بجائزة غونكور (وهي ثالث غونكور للعرب بعد طاهر بن جلون 1987 وأمين معلوف 1993)، عن رواية «أغنية رقيقة»، وهي روايتها الثانية بعد «في حديقة الغول»، وتتميز هذه الكاتبة بحضور «ثيمتين» أساسيتين في سردها، هما حمل الهم النسوي بكل أعبائه وتفاصيله، والامتياح من عوالم الانتهاك الجنسي بما هو توصيف لحالات نفسية، وخروج على التابوهات القيمية.

تونس بلغة موليير

تعد تونس أحد أكثر البلدان المغاربية نجاحًا في مسألة توازن الازدواجية اللغوية، وإن كان حضور اللغة الفرنسية في الثقافة والأدب، والفضاء العام، ظل دائمًا أقل بكثير من اللغة العربية. وهذا واقع يبدو أكثر وضوحًا حين يتعلق الأمر بالمنتج الأدبي بشكل خاص. فعدد إنتاج الأدباء التونسيين بالفرنسية محدود للغاية، لجهة الكم، مقارنة مع الجزائر وأيضًا مع المغرب.

وتزامنًا مع أواخر الجيل الثاني أو حتى الثالث من الكتاب في الجزائر بدأت الكتابة الأدبية بلسان فولتير وموليير تظهر أيضًا في تونس مع كُتاب مثل «ألبير ميمي»، (1920)، حين نشر روايته السيَرية- الذاتية «تمثال الملح»، كما أصّل أيضًا لرؤاه الأدبية للذات والهوية في مقال شهير موسوم «صورة مستعمَر».

وقد كان من أوائل التونسيين الذين كتبوا بالفرنسية أيضًا محمود أصلان وصلاح فرحات. وكذلك أفراد من الأقلية اليهودية مثل فينتاليس دانون، وسيزار بن عنتر. وحتى بعض الكتاب من المستوطنين الإيطاليين والمالطيين مثل ماريوس سكاليزي و«سيكا فينييه». كما لعب المستوطنون الفرنسيون دورًا كبيرًا في إيجاد ثقافة أدبية فرانكوفونية في تونس.

وعلى رغم نبوءة الشاعر «ألبير ميمي» بحتمية انقراض الحركة الأدبية الفرانكوفونية في تونس التي قال إنه «محكوم عليها بالموت المبكر في شرخ الشباب»، في مرحلة ما بعد الاستقلال، فقد حدث العكس تمامًا حيث ظلت هذه الحركة الأدبية تشهد حالة توسع في الحجم والزخم والنوع، على امتداد العقود التالية.

فقد ظل زخم النشر السردي والشعري والنقدي التونسي بالفرنسية يشهد حالة تزايد وتصاعد مطردين، وقد رفده بقوة رافد أدبي جديد لم يكن في حسبان «ميمي» يوم إطلاق نبوءته، ألا وهو منتج التونسيين المقيمين في فرنسا وأوروبا، وكان من أبرز هؤلاء عبدالوهاب المؤدب، والطاهر بكري، ومصطفى التليلي، وهالة باجي، وأيضًا فوزي ملاح، وفِي مرحلة تالية الشاعر والكاتب أيمن بن حسين. وقد أضاف هؤلاء على «الثيمات» الأساسية الرائجة في المنتج الأدبي التونسي موضوعات استظهار جديدة مثل مكابدات المنفى ومشكلات الهجرة وتحديات تمزق الوعي وأسئلة الهوية، وصنوف معاناة النبذ والعزل والتمييز وغير ذلك من عتبات الغيتو الرمزي وترسانة الصور النمطية الجارحة، التي يتجرعها العامل المغاربي في بلاد المهجر الأوروبي، وحتى في قوارب الموت ومسارب الهجرة السرية، وفِي كافة ثنيّات طرق ودروب الحياة النازحة.

لبنان الفرنكوفوني

يعد مهجر اللغة الفرنسية الذي لا يقل إبداع اللبنانيين فيه عن إبداعهم في بقية مهاجرهم. ففي هذا المهجر دواوين شعر، ومؤلفات أدب وفكر، تُعَدّ لا بالعشرات بل بالمئات. وذلك أن عمر هذا المهجر هو في حدود المئة سنة، وقد يكون أكثر من ذلك أو أقلّ. ومن أوائل كتب اللبنانيين التي ظهرت بالفرنسية، وفي باريس ذاتها، كتاب «يقظة الأمة العربية» لنجيب عازوري، وهو أحد روّاد الحركة القومية العربية، وأحد الذين نبّهوا في وقت مبكر إلى أطماع اليهود في فلسطين وإلى أن القرن العشرين سيشهد صراعًا مريرًا بين القومية العربية والحركة الصهيونية في فلسطين.

ولكن ظهر أوّل ديوان لبناني باللغة الفرنسية لـ(ميشال مسك), عام 1874, وتبلورت مع ديوان رائد لشكري غانم بعنوان: «عواسج وأزاهر» (Ronces et Fleurs) عام 1890.

ولعل الفرق الجوهري بين هذا المهجر الفرنكوفوني وبين بقية المهاجر اللبنانية، هو أن هذه المهاجر الأخيرة كتبت أدبها وشعرها باللغة العربية، في الأعم الأغلب، في حين أن المهجر الفرنكوفوني استخدم اللغة الفرنسية.

فالفرنكوفونية ليست مدينة كنيويورك، مقر «الرابطة القلمية، أو سان باولو مقر العصبة الأندلسية»، بل هي لغة قابلة لأن ينطق بها المرء سواء كان في لبنان أو في فرنسا أو في سواهما. هذا إن لم نقل إن الفرنكوفونية فضاء يلتقي فيه اللبناني مع ناطقين آخرين بالفرنسية منهم فرنسيون وغير فرنسيين.

ويعيش في فرنسا في الوقت الراهن شاعر كبير بالفرنسية هو السفير اللبناني السابق صلاح ستيتية الذي يعد أحد ألمع الشعراء الذين يكتبون بالفرنسية في الوقت الراهن، وبشهادة الفرنسيين أنفسهم. وعلى الرغم من وجود الشرق بقوة في شعر هذا الشاعر، فإن الفرنسيين يعتزون به اعتزازًا كبيرًا، وقد منحته الاكاديمية الفرنسية جائزة الفرنكوفونية لعام 1995، له عدة دواوين بالفرنسية منها: (الماء المحفوظ البارد) L-eau froide gardree 1973, مقطّعات: قصيدة Poeme: Fragments ,1978, (مُنقلب الشجرة والصمت) Inversion de larbre et du silence 1980. ويمثّلها بجدارة جوليان حرب (النيران الكاذبة) Feux follets ,1966, (حديث المدى) Le dit de lespace ,1970. كذلك أمين معلوف الذي حمل مشعل الأدب باللغة الفرنسية، ونال أحد مؤلفاته، «صخرة طانيوس» جائزة غونكور لعام 1994. وله من الروايات الشهيرة التي كُتبت باللغة الفرنسية مثل: (ليون الأفريقي) Leon LAfrican ,1966 و(سمرقند)  Samarcande 1988, و(حدائق الضوء) La jardins de lumierd 1991, و(القرن الأول ما بعد بياترس)  Le premier sies Beatrice, و(صخرة طانيوس) Le rocher de Tanios. ويتحدث أمين معلوف في بعض رواياته عن «الهويات القاتلة، أو الهويات الشقية». فهو يصنّف نفسه لبنانيًا وشرقيًا وفرنسيًا وغربيًا.

وهناك شاعر لبنان بالفرنسية جورج شحادة، الذي كان مؤلفًا مسرحيًا أيضًا، وكذلك ناديا تويني زوجة غسان تويني صاحب  صحيفة النهار. ولهذين الشاعرين مؤلفات شعرية كثيرة بالفرنسية نُقل بعضها إلى اللغة العربية.

ويُعد عدد النساء الشاعرات من اللبنانيات اللواتي كتبن باللغة الفرنسية، يفوق نسبيًا عدد اللواتي كتبن باللغة العربية. ثم إن مجالات الإبداع الشعري كانت متوفرة لشاعرات اللغة الفرنسية، أكثر مما توفرت لشاعرات اللغة العربية في لبنان. وشعر أندريه شديد وناديا تويني وسامية توتنجي، وغيرهن، يثبت هذا الرأي.

ومن أسماء الشاعرات اللبنانيات كتبن بالفرنسية، مي زيادة ونلي جدعون ولور غريب ومي مر وفينوس خوري وفريدة بغدادي ونهاد سلامة وكلير جبيلي. ولكلًّ منهن دواوينه المعروفة.

الأدب الروسي  في المنفي

تعود أصول أدب المنفي في روسيا إلى بدايات القرن التاسع عشر. حيث كتب الأديب الشهير نيقولاي جوجول عن المصير الذي ينتظر بلاده وهو بعد في المهجر. كما نفي أدباء كبار مثل الكسندر جيرتسين ونيقولاي أوغاريوف، وكان للأديب إيفان تورجينيف الفضل في تعريف أوروبا بالأدب الروسي. غير أن موجات الهجرة التي تلت ثورة أكتوبر 1917 مثلت ظاهرة خاصة سواء من حيث الحجم أو السمات والأهمية التي لعبتها في تطور الأدب الروسي خاصة، والأوروبي بصفة عامة.

ويعتبر أدب المنفي أحد أهم مراحل تطور الأدب الروسي في القرن العشرين وهو أحد فروع الأدب الروسي الذي ظهر بشكل بارز بعد استيلاء البلاشفة علي السلطة في عام 1917م. وقد صدرت إبداعات كتاب المنفى الروس خارج حدود الاتحاد السوفيتي.

واتفق الباحثون علي ثلاث موجات لهجرة الأدباء الروس خلال الحقبة السوفيتية. بدأت الموجة الأولى في عام  1918 واستمرت حتى قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية واحتلال الألمان لباريس. وكانت هجرة جماعية لعدد كبير من الكتاب والشعراء الروس. أما الموجة الثانية فبدأت مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وتحديدا في عام 1940 واستمرت إلى عام . 1950 ولم تشهد الزخم نفسه الذي شهدته الموجه الأولى. والثالثة بعد انتهاء فترة ذوبان الجليد في عصر خروشوف وأدت إلى هروب عدد من كبار الأدباء الروس أمثال الكسندر سولجنتسين وجوزيف برودسكي وسيرجي داوفلاتوف. وتعد الموجه الأولى هي الأكثر أهمية من حيث قيمة ما تركته من إبداعات وتأثير على الأدب الروسي.

كانت الموجه الأولى صفحة مأساوية في تاريخ الثقافة الروسية. وتعد ظاهرة فريدة سواء من حيث العدد الضخم للأدباء المنفيين أو من حيث إسهاماتهم الكبيرة في الثقافة العالمية لاحقًا. بدأت الهجرة الجماعية للأدباء في عام  1919 وضمت أكثر من 150 كاتب وشاعر ضمن مليوني شخص فروا من روسيا في العام نفسه. كما اتخذت الحكومة السوفيتية قرارًا بنفي أكثر من  160 أديب في عام 1922  نظرًا لكتاباتهم الدينية والفلسفية وركبوا سفينة أطلق عليها "سفينة الفلاسفة" وضمت من الأدباء و الفلاسفة الروس: نيقولاي بيردياييف و نيقولاي لوسكي وسيمون فرانك وسيرجي بولجاكوف. كما ضمت الكتاب: إيفان بونين وألكسندر كوبرين و بوريس زايتسف وألكسي تولستوي. وقد حافظت الموجه الأولى من الأدباء المهاجرين على سمات وخواص المجتمع الروسي وعبروا عنها في كتاباتهم. وأضحى الأدب الروسي في المهجر يصور الأحداث الثورية في روسيا والحرب الأهلية ويوثق انهيار التقاليد التي سادت قبل الثورة والتراث الروسي قبل الاشتراكية.

شهد عام  1927 ذروة نهضة أدب المهجر حيث أصبحت الكتب تنشر في الخارج باللغة الروسية. ولوحظ أن الأدباء الروس حرصوا علي المحافظة على الحرية السياسية والثراء في الإبداع في سبيل نضالهم ضد الواقع المرير لحياة المنفي. ومن المدن التي أصبحت قبلة للأدباء الروس "برلين" عاصمة للأدب الروسي في المهجر حيث كان يقطنها معظم كتاب الدراما والمسرح. كما كانت "براغ" نقطة تجمع الفنانين والشعراء. أما "باريس" فتستحق لقب عاصمة الثقافة الروسية في المهجر. كما اتجه بعض الأدباء إلى الشرق وتحديدًا "شنغهاي". وبرز في هذه الموجة جيلان من الأدباء: الجيل القديم والذي تجسدت في كتاباته سمات الحياة الروسية بجلاء، وكانوا معروفين للقارئ الروسي ولهم أسلوبهم المميز وانتشرت كتاباتهم، ليس فقط في روسيا بل وخارجها. وكان معظمهم من الرمزيين (زيناديا جيبوس وقسطنطين بالمونت ودميتري ميرجكوفسكي) والمستقبليين (إيجور سيفيريانين) وكتاب الذروة (جيورجي ايفانوف وجيورجي أداموفيتش) والواقعية (الكسندر كوبرين وألكسي تولستوي). وتجمعت حول هؤلاء، مجموعات من الأدباء ونظمت صالونات وجمعيات أدبية حضرها الجيل الأصغر والذي كان يطلق عليه حينها "الجيل غير الملحوظ". وهؤلاء الذين لم يكونوا قد خطوا خطوات كبيرة بعد في بلدهم روسيا قبل اضطرارهم إلى مغادرتها ولم تتشكل شخصياتهم الأدبية بعد. حيث تجمع بعضهم حول إيفان بونين وآخرون حول فلاديسلاف خوداسيفيتش. وقد مالوا إلى اتجاه ما يعرف بالكلاسيكية الجديدة واستخدام الأشكال وتأتي الفترة الثانية والتي تمتد بين عامي 1925 و1939 وشهدت تطورًا لصناعة النشر وتأسيس الجمعيات الأدبية الروسية في المهجر. ويلاحظ هنا فقدان الأدباء الأمل في عودتهم مرة أخرى إلى الوطن. وتشيع في تلك الفترة كتابات المذكرات والسير الذاتية والدعوات إلى الحفاظ على عبق الجنة المفقودة وذكريات الطفولة والعادات الشعبية. كما انتشرت الرواية التاريخية التي تعاملت مع التاريخ بوصفه حلقة في سلسلة من الأحداث التي تعتمد في الأساس على إرادة الإنسان. كما تناول أدباء تلك الفترة موضوع الثورة والحرب الأهلية وصوروا الحرب بشكل أكثر موضوعية مقارنة بسابقيهم وظهرت أولى المؤلفات التي تصور الحياة داخل معسكرات العمل والاعتقال إيفان سولونيفيتش "روسيا تسبح في معسكرات اعتقال" و. م. مارجولين "رحلة إلى بلد المعتقلات" ويوري بيسونوف  26 "سجنًا والهروب من سولوفكي" وفي عام 1933 منحت جائزة نوبل إلى أحد كتاب المنفى وهو إيفان بونين.

أما الموجة الثانية في أدب المهجر الروسي فقد ولدتها أحداث الحرب العالمية الثانية عندما هاجر عدد كبير من كتاب جمهوريات البلطيق والتي ضمها الاتحاد السوفيتي عام 1939، وكذلك الأسرى الذين خشوا العودة إلى الوطن حتى لا يتعرضوا إلى الاعتقال، والمنفيون للعمل في ألمانيا من الشباب السوفيتي وكل من تعاون مع الفاشية. واختار هؤلاء في البداية ألمانيا مكانًا لإقامتهم ثم انتقلوا إلى أمريكا وبريطانيا. وبدأ معظم كتاب وشعراء الموجة الثانية نشاطهم الأدبي في المهجر ونذكر منهم الشعراء: يلاجين وكلينوفسكي وتشينوف وفيسينكو وغيرهم. وقد بدءوا بتناول القضايا الاجتماعية ثم انتقلوا إلى الكتابات الغنائية والفلسفية. ومن الكتاب نذكر يوراسوف وريجيفسكي وفيليبوف وشيرياييف. وقد تناول هؤلاء الحياة في الاتحاد السوفيتي قبيل الحرب وصوروا عمليات التنكيل والخوف الذي ساد بين الناس، والحرب والطريق الشاق الذي تكبده الكاتب في رحلة هروبه إلى الخارج. وكان ما يجمع كتاب وشعراء هذه الموجة تجاوز التوجه الأيديولوجي الذي قيد إبداعات سابقيهم. وتبقي كتابات أدباء هذه الموجة الأقل شهرة حتى الآن.

أما الموجة الثالثة لأدب المنفي فترجع إلى نهايات الستينيات من القرن الماضي. ينتمي معظم أدباء هذه الموجة إلى فترة ذوبان الجليد في عهد خروشوف، وهي الفترة التي شهدت انتقادًا لنظرية عبادة الفرد في عصر ستالين والدعوة إلى العودة إلى "القواعد اللينينية في الحياة". وسمح للكتاب بتناول موضوع المعتقلات ومعسكرات العمل المحظور سابقًا، وأصبح من المسموح الخروج عن الأطر الفنية لاتجاه الواقعية الاشتراكية الذي ساد لعقود، وأصبح الكتاب يبادرون بتجربة اتجاهات جديدة. إلا أنه وفي منتصف الستينيات وضعت قيود مرة أخرى على الإبداع وتم تشديد الرقابة على الأدب وتعرضت الكتابات الناقدة للهجوم، وبدأت عمليات التضييق على الأدباء ومنهم ألكسندر سولجنتسين وفيكتور نيكراسوف الذي تم اعتقاله، ومن ثم نفيه إلى أحد معسكرات العمل. كما تم القبض على كل من  سينيافسكي وتهديد أكسيونوف ودافلاتوف وفوينوفيتش. وفي ظل هذه الظروف اضطر هؤلاء إلى السفر للخارج. وانضم إليهم الكثيرون أمثال  أليشكوفسكي وليمونوف وجاليتش وجوبرمان وأمالريك.

ومن أهم سمات الموجة الثالثة التمازج الرائع بين الاتجاهات الأسلوبية للأدب السوفيتي مع منجزات الكتاب الغربيين وإيلاء الاهتمام الأكبر بالاتجاهات الطليعية. ويعتبر الكسندر سولجنتسين أشهر أدباء هذه الموجة ومن كبار الكتاب الواقعيين في روسيا السوفيتية. وقد كتب خلال فترة هجرته ملحمة كبيرة تحمل عنوان "العجلة الحمراء" يتتبع فيها تاريخ روسيا. وحصل على جائزة نوبل في الآداب عن روايته الشهيرة "أرخبيل الجولاج". كما ينتمي إلى الاتجاه الواقعي أيضًا كل من جيورجي فلاديموف وفلاديمير مكسيموف وسيرجي دافلاتوف. كما اتسمت إبداعات الكاتب فاسيلي اكسيونوف بالسخرية اللاذعة من الأوضاع وتعد ثلاثيته "ملحمة موسكوفية" من أشهر الكتابات في هذا الجيل وتتناول فيها الحياة في روسيا في الثلاثينيات والأربعينيات. وتتجلي سمات أدب الحداثة وما بعد الحداثة في كتابات ساشا سوكولوف "مدرسة الحمقي" و"حوار بين ذئب وكلب" كما دارت كتابات يوري ماملييف في فلك الأدب السيريالي والواقعية الميتافيزيقية. واستطاع الكاتب أن ينقل حالة الخوف وانعدام قيمة الحياة في قصصه القصيرة "حكايات روسية" وروايته "الزمن الضائع". ومن بين أدباء الموجة الثالثة أيضًا جوزيف برودسكي الحائز على جائزة نوبل في الأدب في عام1987. وقد ترك كتاب الموجه الثالثة من أدب المنفى الروسي العديد من الأعمال في مختلف الأجناس الأدبية والأساليب الفنية. لقوالب الصارمة في السرد ونذكر منهم  تيرابيانو وسمولينسكي وبيربيروف.

 

المصادر:

-  الأدب المهاجر: مجازات المنفى وبناء هوامش الأمة - علي بدر – صحيفة الدستور - 29-08-2008.

- الأدب والمنفى – مجلة الآداب، 7-9، يوليو – سبتمبر 1985.

- الأدب الروسي  في المنفي، د. محمد نصر الدين الجبالي، أخبار الأدب،24 ديسمبر 2016.

- أدب الاستغراب.. ومقاربة الإرهاب، الحسن ولد المختار، صحيفة الاتحاد، 4 يناير 2017.

- الأدب اللبناني باللغة الفرنسيّة على امتداد القرن العشرين - غالب غانم – مجلة العربي - أكتوبر 2001.


عدد القراء: 32732

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-