النّزعة الأيديولوجية للدّولة ودورها في تهديد المقوّمات الثّقافية للأمم: دراسة حالة الإبادة الصّربية لكُتب ومكتبات البوسنةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-02-01 10:35:01

د. كمال بوناب

جامعة باتنة 1- الجزائر

أباطرةُ اليوم استخلصوا استنتاجاتٍ من هذه الحقيقة البسيطة: مالمْ يُدوّنْ في ورقٍ لا وجودَ له على الإطلاق؛ فالكتبُ مثلها مثل الأطفال؛ مواضعٌ لإغداق المحبّة، وهي أوعية آمال المجتمعات وطموحاتها، وحلقاتٌ تربط بين الماضي والمستقبل، ومَصدّاتٌ تمنع الفناء. يؤكّد هذا المقال على أنّ الأنظمة السياسية التي ترتكب الإبادات الجماعية، بدوافعٍ أيديولوجية، تدمّر أيضًا الثّمرة المادية لثقافة الضّحايا وكتبهم ومكتباتهم؛ لقد حطّم تفكّك يوغسلافيا راحة بال المجتمع الدولي ببرهانٍ مفاجئ، وهو "أنّ الماضي الأوروبي الرّهيب ظلّ جزءًا من الحاضر الأوروبي وقوّةً كامنةً فيه"؛ فقد حاول مُقترفُو الجُرم، وهم الصّرب في هذه الحالة، تدمير شعبٍ بمَحْوِ جميع السّجلات وآثار الماضي والأعمال الإبداعية التي جادتْ بها قرائح الكُتّاب والمبدعين؛ ففي البوسنة عندما مُحقت الآثار المادية للوجود الإسلامي وقعت أيضًا التعددّية الثقافية، وهي السّمة المميّزة للبوسنة نفسها، فريسةً للعدوان.

يدرس هذا المقال إبادة القوميين الصّرب لمسلمي البوسنة، ويفترض أنّ الزّعماء الذين يحوزون سلطة أيديولوجية غير محدّدة في دولهم، يدبّرون حملات إبادة الكتب ويسوّغون العنف باعتباره ضرورة لتحقيق غايات الأيديولوجيا؛ بناء عليه، يسعى هذا المقال إلى تقصّي الإجابة عن السؤال التالي: هل عمليات تدمير الكتب والمكتبات مجرّد شرّ محض في الطبيعة البشرية، أم أنها عملية موجّهة في إطار هدفٍ مرسوم ومسوّغ بعناية، يتماشى والصّراعات التي تندلع بين رؤى متضاربة؟

1ـ تعريف الأيديولوجيا وعلاقتها بفلسفة العلم

تتركّبُ كلمة أيديولوجيا اشتقاقيًا من مقطعين؛ Idea ومعناها فكرة، وLogy ومعناها العلم الخاص بحقلٍ معرفي معيّن، وبذلك يشير معناها إلى "علم الأفكار"؛ بمعنى العلم الذي يهتمّ بالفكرة من حيث نشأتها، أشكالها وقوانينها؛ أما اصطلاحيًا، فتشير إلى التّوجيه المذهبي الكامن وراء سلوك فرد، جماعة أو طبقة معيّنة، لتبرير قِيمٍ معيّنة في فترة تاريخية ما، كما يمكن أن تُعرّف على أنّها نظام سياسي واقتصادي وقيمٌ أخلاقية تعكس نمط حياة شعبٍ معيّن. (السعدني، 2014، ص17).

 يُفسّر كارل بوبر الأيديولوجيا على أنّها طريقةٌ في التّفكير السياسي وسِمةٌ نموذجية من سمات الحركات الاستبدادية؛ إنّها نظامٌ فكري مغلق على نفسه تمامًا، لديه دائمًا تفسيراتٌ جاهزة لأيّ انحرافٍ ظاهر عن تنبّؤاته؛ وهكذا بالنّسبة لبعض الماركسيين، الثورة أمرٌ حتميٌ، لكن عندما لا تحدثُ فإنّها إمّا تعرّضتْ للخيانة من قادتها، أو تمّتْ إساءة تفسير الظّروف الاجتماعية الموضوعية، أو أنّ الرّأسمالية وجدتْ مخارج جديدة لفائضها؛ بالنسبة لـ بوبر التّفكير الأيديولوجي يقع على النّقيض من التفكير العلمي لأنّه عاجزٌ عن طرح فرضياتٍ قابلة للتّفنيد. (دي تانسي، 2012، ص، ص، 130، 131).

 يُعتبر المفكّر الفرنسي أنطوان دو تراسي أوّل من استخدم هذا المصطلح في كتابه "عناصر الأيديولوجيا"، وحاول فيه استقصاءَ الحقائق بطرقٍ تختلف عن الميتافيزيقيا واللّاهوت، وكان يحدوهُ الأمل هو وزملاؤه في الجمعية الوطنية الفرنسية أنْ تؤدّيَ الأيديولوجيا دورًا في إصلاح المؤسسات والإطاحة بالأفكار التي كانت ترسمُ ملامح الفكر الفرنسي آنذاك؛ غير أنّ مصطلح الأيديولوجيا اكتسبَ معانٍ سلبية في عهد نابليون بونابرت حين وظّفه للسّخرية من منتسبي شعبة العلوم الأخلاقية والسّياسية في فرنسا، مُطلقًا عليهم تهكّمًا تسمية الأيديولوجيين، وكان يقصد من وراء ذلك التقليل من شأن أفكارهم بسبب معارضتهم تطلّعاته الإمبريالية، فأصبحت الأيديولوجيا في تلك اللّحظة وصفًا قدْحيًا مرادفًا لكلمة اللّاعملي؛ وردًّا على سخرية نابليون وعلى كلّ حاكمٍ يضيقُ بسلطان الفكر ومن وظيفة النّقد التي يؤدّيها، نحتتْ مادام دو ستايل مصطلح "الأيديوفوبيا" وترجمتها الحرفية "الخوف من الأفكار". (السعدني، 2014، ص، ص، 17، 18).   

يرى كارل ماركس أنّ الأيديولوجيا هي الظّاهرة المعبّرة عن البناء الفوقي (وهو الفكر) الذي يوجّه البناء السّفلي (أي حركة علاقات الإنتاج في المجتمع)، لتكون بذلك الأيديولوجيا هي الوعي الزّائف الذي يُشوّه الحقيقة، فالأيديولوجيا من المنظور الماركسي هي تبريرٌ لمصالح الطبقة الاقتصادية المسيطرة في المجتمع، وآليةٌ يوظّفها الرأسماليون لتكريس استمرار سطوتهم الطّبقية، ومصدٌّ يحمي مصالح هذه الطبقة من أيّ تغيير (السعدني، 2014، ص، ص، 18، 19).

تنشأ الأفكار المكوّنة للبناء الأيديولوجي في أيّ مجتمع إذا ما أدرك المفكّرون أنّ القيم والمعتقدات السّائدة لم يعدْ في مقدورها تقديم الحلول للمشكلات المطروحة، فيتمّ التّصدّي لها بالنّقد والتّقويم لتحديد مسار الحلّ المطلوب، غير أنّ الوصول إلى هذا الهدف غالبًا ما يكون عويصًا وشائكًا، إذْ تظهر أزمة الدّوغمائية الأيديولوجية، وهي الوثوقية الجازمة واليقين المطلق دون الاستناد إلى براهينٍ مقنعة، والدوغمائية كلمةٌ يونانية الأصل تعني الجمود العقائدي والنّهج الفكري المتزمّت والإيمان الرّاسخ بامتلاك الحقيقة دون الغير والتّأييد الأعمى لمطالب أو مبادئ مذهب أخلاقي دون إمعانِ النّظر فيها وبعيدًا عن قيمتِها الاجتماعية ولا مراعاة العواقب الاجتماعية التي تنجم عنها، ويعود هذا المصطلح إلى كلمة "دوغما" الواردة في الفكر المسيحي الكاثوليكي، وتعني المبدأ الذي يُنسبُ إليه الصّحة المطلقة، ويوظَّف هذا المصطلح اجتماعيًا وسياسيًا لوصف المناهج والأساليب الفكرية المتحجّرة التي تجافي المنطق والمعقولية، ومن المتعارف عليه أنّ الحركة النّازية تعتدُّ بالنّهج الدّوغمائي وتعتبر كلّ خروجٍ أو رفضٍ لمقولاتها وقناعاتها انحرافًا. (جاد الرب، 2011، ص 105). 

2 ـ أيديولوجيا القومية الصّربية

تمتدّ جذور الصراعات في يوغسلافيا السّابقة إلى عمق التاريخ البلقاني الذي شكّلتهُ الأنساق الدينية والثقافية المتضاربة والهجرات والهيمنة الأجنبية، وعلى إثر سيطرة العثمانيين على مناطق من البلقان الشّرقية بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر تحوّلت جُموعٌ من السّلاف إلى الإسلام، ومنذئذٍ تمّ وصْم المتحوّلين إلى الدين الإسلامي بخيانة القومية الصّربية وعُوملوا على أنهم مجموعة وضيعةٌ بطبيعتهم؛ حَدثَ هذا رغم أنّ البوسنة والهرسك كانت أكثر جمهوريات يوغسلافيا ثراءً وتنوّعًا ثقافيًا، واُمتدحتْ هذه الجمهورية بوصفها صورة مصغّرة لـيوغسلافيا، إذْ عاشت فيها الجماعات الإثنية الثلاثة جنبًا إلى جنب في ظلّ مناخٍ يغلب عليه التّسامح، وكثيرًا ما تُوّج التعايش بالزواج المختلط (نوث، 2018، ص، ص، 144، 165).

يشبه معبد سانت سافا بـ"بلغراد" كنيسة آيا صوفيا في إسطنبول، وهو ثالث أكبر معبدٍ للأرثوذكس في العالم، وقد تركته السلطات الشيوعية مهجورًا عقب الحرب العالمية الثانية، غير أنه في عام 1988 أصبحت قبّة النحاس الأصفر اللّامع في المعبد رمزًا لـ"القومية الصّربية"؛ وهو ما عبّر عنه الشّاعر الصّربي ماتيا بيكوفيتش بـ "الهيكل يبنينا" (Zivkovic, 2011, p47)؛ ولأنّ هجْرَ الشيوعية تطلّبَ فقدانًا للذاكرة السياسية، فقد اِلتمسَ الكثير المعنى في الارتداد إلى الهوية الإثنية والاستحقاقات التي تسوّغها صنوف الاستضعاف الماضية، وعند هذه المرحلة برز اسم المحامي والسياسي سلوبودان ميلوسيفيتش الذي كان متحدّثًا لبقًا استمال مواطنيه باستدعاء صورٍ مثالية عن ماضٍ قروسطوي مجيد، وأجادَ اللعب على وتر إحساسِ الصّرب باستضعافٍ مزمن، وكان بارعًا في تقديم الأيديولوجيا كقومية إقصائية متمركزة على الإثنية، ودينية عنصرية، إضافة إلى الوعد بتحقيق صربيا كبرى (نوث، 2018، ص، ص، 151، 152).

على الرغم من أنّ صربيا اكتسبتْ سمعة طيّبة في عهد الرئيس جوزيب تيتو بوصفها مركزًا للفكر الليبرالي والديمقراطي، فإنّ هذه الميزة سرعان ما مُحيتْ بفعل الامتثال الحرفي غير المسبوق للاحتفاء القومي بأوهام كراهية الأجانب، حيث كتب أعضاء (الأكاديمية الصّربية للفنون والعلوم)، وهي المنبر الفكري الأسمى في البلاد، مسودّة "المذكّرة" عام 1986، وممّا ورد فيها أنّ تأسيس السلامة القومية والثقافية الكاملة للشعب الصّربي، بغضّ النّظر عن الإقليم الذي يتواجد فيه الصّرب، هو حقّهم التاريخي، وندّدت الوثيقة بالإبادة الجسدية، السياسية والقانونية للصّرب في كوسوفو، وعزّزت تفاصيل المظالم التي تكبّدها الصّرب على مرّ التاريخ باعتبارهم ضحايا، مُتبنّيةً نغمةً مُشفقةً على الذات تارة، كئيبةً وثأريةً تارة أخرى؛ لقد أضحت مسودّةُ المذكّرة مخطّطًا متكاملًا للتوسّع الإقليمي والهيمنة الصّربية، وممّن أسهموا في كتابتها الرّوائي دوبريتسا تشوسيتش الذي أصبح لاحقًا رئيس يوغسلافيا بعد تفكّكها (نوث، 2018، ص، ص، 154، 155).

أصبحت طبقة الأنتلجنسيا في صربيا أداةً لسياسات التّسويغ والإنكار، فالباحث في أعمال شكسبير، نيكولا كولييفيتش اعتبر الفضائع الصّربية حوادثَ مزيّفة اختلقها المسلمون، وعند تعليقه على رؤية الصّرب يحرقون المنازل قال "لا يرغب المرء حقًّا في أنْ يعرف، لذا فقد بقيتُ داخل الحظيرة"؛ طبعًا، كان من الصعب على رجل يمارس التّأمل والتفكير أن يدافع ويحافظ على أفكار سمة القتل البارد، لذلك انتحر كولييفيتش عام 1997، كما دافع الأكاديمي الصّربي ميلوراد إكميسيتش على السّلوكيات الصّربية على أساس أنها تحملُ في طيّاتها الطّابع غير المرئي من أجل البقاء البيولوجي فـ"الخوف يحكمنا"؛ أمّا الشاعر برانا كرنسيفيتش فقد صرّح "الصّرب لا يقتلون بدافع الكراهية، بل اليأس"؛ إنه وبتسويغهم للأيديولوجيا القومية، وإضفائهم الشرعية على العنصرية وتورّطهم في مُعجم الحرب أسهمَ المفكّرون في مجانسة الوعي وتوحيده نحو انهيار السّياسات الرشيدة (نوث، 2018، ص، ص، 156، 157)، غير أن هذا لا ينفِ وجود مفكّرين صرب شعروا بالانزعاج من خطاب الأيديولوجيا القومية وحاولوا التعبير بآراءٍ تُوازنُ التّطرف، من بين هؤلاء الكاتبة سفيتلانا سلابساتش في مقالها "كيف بدأ كل شيء؟"، حيث ذَكرت أنه في خريف 1985 قدّم دبلوماسي مكسيكي، وصفتهُ سلابساتش بالمشعوذ،  محاضرة في قاعة محاضرات جامعة بلغراد، أعلنَ فيها أنّ مصبّ نهر نيريتفا في البوسنة هو موقع أسطورة طروادة القديمة؛ تروي سلابساتش أنّ الخبراء والمحلّلين بذلوا قصارى جُهدهم كيْ لا يقولوا أيّ شيء يُحرج المحاضر، بل إن معظم الحاضرين بدوْا توّاقين لاكتشاف أنهم ينتمون بالفعل إلى سلالة قديمة ومجيدة، ما يُمكّنهم من تكرار أساطير أسلافهم الرومان واليونان، ليكون بذلك النصّ الأيديولوجي، مثل أسطورة حصان طروادة، أمرًا ضروريًا في بناء الدولة؛ هذا الفشل من النّقاد المؤهّلين للقيام بواجبهم الحاسم هو مزيجٌ من الجُبن وتوقير الكذب من أجل مصلحة الجماعة، وهو أحد أسباب انزلاق يوغسلافيا إلى الأيديولوجيا القومية والحروب (Zivkovic, 2011, 171)؛ ومن ثمّ شرعنة السلوكيات العشوائية كالإبادة الجماعية والإثنية وإبادة الكتب.

3 ـ محرقة الكتب (Bibliocaust): مقاربة تيبولوجية    

ليس من قبيل الصّدفة أن تُبديَ الأدبيات الطوباوية قلقًا واضحًا من الكتاب، فرغم أن سقراط لم يكن من دعاة الحرق، إلا أنه اعترض على التدوين وطالب بزجر الشعراء والحقّ في الرقابة على الكتاب، قبل ذلك كان هناك مزاجٌ موازٍ سائد في أحد البرلمانات الشعبية التي تظّمها أوليفر كرومويل، اين اُقترح أن يتمّ حرق أرشيف برج لندن، على أساس أنها الطريقة الصحيحة لمحو ذاكرة الماضي وبدء حياة جديدة (Fishburn, 2008, p10).

حقّقت الأبحاث قدرًا من التقدم في ترسيخ العلاقة بين الإبادتين الجماعية والإثنية والأيديولوجيا، فقد كتبَ إرفينغ هورويتز عام 1976 عن الإبادة الجماعية بوصفها "تدميرًا هيكليًا ومنهجيًا لأناسٍ أبرياء يقترفه جهاز حكومي بيروقراطي، وسياسةٌ تُنفّذ سعيا وراء ضمان امتثال الناس لأيديولوجية الدولة ونموذج المجتمع الذي يراد تبنّيه"؛ كما تواتر ذكر "أيديولوجي" مرارًا في الدراسات التيبولوجية، ففي تصنيف هيلين فين (1984) ذَكر العنف الذي استهدف من صُنّفوا على أنهم أعداء الأسطورة المهيمنة، أما الإبادة الإثنية فتعرّف على أنها تدمير ثقافة ما دون أن يعني ذلك بالضرورة القضاء على حَمَلَتِهَا؛ وعلى عكس الإبادتين السابقتين فإن محرقة الكتب (Bibliocaust) ليست مُحصّلة جرائم عفوية منشؤها الغضب ويرتكبها برابرة، بل هي أسلوب لحلّ مشكلة بطريقة متعمّدة ومنهجية، وهي حلّ يسطّر العنف ويهدّد حقوق الإنسان خدمة لمصلحة جماعة تحدّدها الأيديولوجيا بأفقٍ ضيّق وصلب (نوث، 2018، ص، ص، 31، 32).

في مستهلّ الحرب العالمية الثانية بدَا الإنسان مخلوقًا انقلب على ذاته، يهاجمها ويبذل قصارى جهده لتدمير أدوات العقل، وفي مقدّمتها الكتب والمكتبات؛ بالنسبة إلى بعض مفكّري تلك الفترة مثل أرشيبالد ماكليش، ظهر الجنس البشري سقيمًا يتلوّى في ظلمات الجهل وتُغويه الدّعاية المغرضة التي تَعرض العلم وصنوف الاستنارة الفكرية وكل ما يميّز العقل إلى الزّيف والحمق (نوث، 2018، ص 34)؛ ويعود الفضل لـ"توماس هوبز" في إذاعة خَبريْ اللفياتان والبهيموت على نطاقٍ واسع، فالأول هو تحليل لبنية الدولة ومفهومها كنظام سياسي للإكراه، أما البهيموت فهو يصوّر حالة اللادولة والعماء، انعدام القوانين، الاضطراب والفوضى، وهو ما ينطبق حسب فرانز نويمان على الفترة النازية (نويمان، 2017، ص 11)؛ أين تمّ وصف العنصرية على أنها أيديولوجية مصمّمة لتبرير اللامساواة في حقوق المواطنين، وفي هذه البَوتقة يكون العرق ظاهرة بيولوجية خلافًا للأمة التي هي مدلولٌ سياسي بالأساس، وتبقى صورة ساحة بيبل بلاتز في 10 ماي 1933 شاهدة على فداحة البيبليوكوست النازي.

في مناخٍ قائمٍ على الأيديولوجيا يجب أن يتطابق كلٌّ من السّلوكين الفردي والسياسي مع نمطٍ شامل من المعتقدات الأخلاقية والإدراكية، فلا مجال أن يلجأَ المواطنون إلى أفكارٍ تقع خارج المنظومة الأيديولوجية للفكر، لذلك كانت البلقان عُرضةً لـ"الاهتياج الصّربي" Furor Serbicus (مصطلح لاتيني)؛ حيث لم يقتصر الأمر على تدمير كتب ومكتبات مسلمي البوسنة، بل امتدّ لإتلاف نفائس مكتبة زادار في كرواتيا؛ فلم يرَ الصّرب في الوثائق والكتابات الغلاغوليستية سوى أعداء يجب محوها، فلا مكان يتّسع إلا لكتبهم وحضارتهم وثقافتهم، وكلّ شيء يعلو هذا المستوى يجب أن يُنهب ويُسلب. (Stepcevic, 1993, p7).

4 ـ إبادة كتب ومكتبات البوسنة

في سابقةٍ تُعبّر عن تطوّرٍ شاذٍّ في تاريخ الممارسات البيروقراطية، طُلب من مسلمي بانيا لوكا (ثاني أكبر مدن البوسنة) استخراج اثنا عشر شهادة مختلفة للخروج من المدينة، بما في ذلك شهادةٌ تُثبتُ أنهم سلّموا كلّ ما لديهم من كتب (نوث، 2018، ص 141)؛ أمّا في العاصمة سراييفو فلطالما افتخر السّكان بأنها مدينة تمتلك واحدة من أعرق المكتبات العامة، يُسمّونها "جبل المعرفة"؛ لقد أحرق القوميون الصّرب تلك التحفة الثمينة، ومنعوا المياه أن تصل إليها طيلة ثلاثة أيام، ورغم أنّ القائمين على المكتبة نجحوا في إخفاء ما يُقدّر بخمسمائة ألف كتاب وستة آلاف مخطوطة قبيل اندلاع شرارة الحرب، غير أنهم فشلوا في إنقاذ مليونين ونصف من الكتب والمخطوطات، ومن ضمن المخطوطات التي نجتْ من المحرقة مصحفٌ مكتوب بماء الذهب، ونسخٌ أصلية بأدعية صوفية لـ أبي حامد الغزالي (السّعيد، 2018، ص، ص، 244، 245).

رمزتْ المكتبة الوطنية للطريقة المميّزة التي استمرّ عليها وجود المواجهة، الاستيعاب والتّضافر بين الثقافات، وأحيانًا صدامُ بعضها البعض طيلة قرونٍ على الحدود بين الشرق والغرب؛ لقد كانت المكتبة الوطنية في سراييفو بمثابة مستودعٍ لجميع منشورات يوغسلافيا، وكانت ببليوغرافيا وطنية، فإضافة إلى مليوني ونصف مليون مجلّد، حوتْ المكتبة 155 ألف كتاب ومخطوط نادر و600 ألف مطبوعة مسلسلة، كما فَهْرسَ موظّفوها رسائل الماجستير والدكتوراه والأبحاث العلمية وأداروا معملًا للميكروفيلم، إضافة لإبرامهم اتفاقياتٍ لإيداع وثائق اليونسكو ومنظمات دولية أخرى، وتحوّلت إلى مكتبة إلكترونية وثّقت عُرى التعاون مع 250 مكتبة داخل البلاد وخارجها؛ كلّ هذه الدّرر الثمينة لم ينجُ منها سوى عشرة بالمائة، وقد أوعزَ الزعيم الصّربي رادوفان كارادزيتش مسؤولية حرق المكتبة إلى المسلمين، قائلاً: "لا يحبّون وجود الحضارة في مدينتهم، وهم لم يحبّوا مبنى هذه المكتبة قطّ، إنه مبنى يرجع إلى زمن الإمبراطورية الهنغارية ـ النمساوية، وهو مبنى مسيحي، وهم قد أخرجوا جميع كتب المسلمين منها، وتركوا الكتب المسيحية بالدّاخل وأحرقوها" (نوث، 2018، ص، ص، 173، 174)؛ هذا القول بقَدر ما يبدو تفسيرًا اختزاليًا مروّعًا، بقدر ما يتّسقُ مع دعاية القومية الصّربية في أشدّ صورها تطرّفًا.

عقدت القوّات الصّربية العزم على إزالة جميع المباني التي ترمز إلى ثقافة المسلمين، فكانت المواقع الأثرية العثمانية والمساجد في مدن البوسنة أهدافًا عسكرية رئيسية، ففي شرق مدينة ستولاتش أُبيدتْ جميع أشكال العمارة الإسلامية دون استثناء، كما قُدّرتْ أعداد المساجد التي سُوّيتْ بالأرض أو لحقت بها أضرار عام 1993 بنحو ألف مسجد (نوث، 2018، ص 167)؛ بلدة ستولاتش ذاتها نموذج مثالي لاستنباط قدر حجم الدّمار الذي لحقَ بالكتب والمكتبات، حيث ضاعت مخطوطات نادرة تعود إلى القرن السابع عشر ميلادي، ومع حرق مكتبة مجلس الجالية الإسلامية، ومكتبة مسجد بودغراسكا، ومكتبة مسجد الإمبراطور، اندثرتْ موادٌ نادرةٌ مكتوبة بخطوطٍ مزخرفة بالذهب والألوان، في جانجا تمّ استهدافُ أوراقِ أقدمِ العائلات، إذْ أُحرقت المكتبة الشخصية لـ "علي صديقوفيتش" بما تحتويه من مائة مخطوطة بلغاتٍ تركية عثمانية، بوسنية، عربية وفارسية (Riedlmayer, 2001, p 271 )؛ وبداخل المكتبات ودُورَ المحفوظات والمتاحف والمساجد ،التي دُمّرتْ، كانت تتوافر سجّلات حيازةٍ بخطّ اليد وخرائط يرجع تاريخها إلى زمن العثمانيين، تُظهر أنّ السلافيين الذين اعتنقوا الإسلام عاشوا في البوسنة منذ قرون؛ لقد كان لزامًا تدمير الوثائق التي تُظهر شرعية المطالب التاريخية للمسلمين في البوسنة، بما أنّ هذه الوثائق تمثّل تهديدًا حقيقيًا لمزاعم الصّرب التّوسّعية (نوث، 2018، ص 168)، وبقصفهم المعهد الشرقي في سراييفو عام 1992 دمّر الصّرب أكبر مجموعة مخطوطاتٍ إسلامية ويهودية ووثائق عثمانية في جنوب شرق أوروبا، وهي مصادرٌ تُوثّق خمسة قرون من تاريخ البوسنة (Riedlmayer, 1995, p7)، وقد ضمّ المعهد ما يربو عن خمسة آلاف مخطوطة شرقية، يرجع تاريخ أقدمها إلى القرن الحادي عشر للميلاد، كما كانت هذه المؤسسة مركز أبحاث رئيسي لدراسات البلقان، عُرف عنها نشر مجلّتها الخاصة وإصدار معجمٍ عربي وترجماتٍ للقرآن الكريم، كما ضمّت الخسائر مجموعة المخطوطات التركية التي تحمل أكثر من سبعة آلاف وثيقة يرجع تاريخها إلى الفترة الممتدة بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، وبتدمير هذا المعهد كان الصّرب يرتكبون الفعل الأكثر إضرارًا بالحضارة والثقافة العثمانية، بمعنى محو جميع الأدلّة عن إسهامات المسلمين في تطوير الثقافة (نوث، 2018، ص، ص، 168، 169)؛ لقد عبّر ريدلماير عن الأمر برمّته بالقول أنّ الصّرب كانوا يقتطعون هوية المسلمين من جميع جوانبها، فقد دمّروا ما يُقدّر طوله بنحو 481 ألف متر من السّجلات، أي ما يساوي صفًّا من صناديق حفظ الوثائق يفوق طوله الـ 300 ميل، وفي قلب هذه النّيران ضاعت مئات الآلاف من الوثائق التي تسجّل المواليد، الوفيات وعقود القِران، وممتلكات الناس وأعمالهم التجارية وروابطهم الدينية والمدنية والسياسية (Riedlmayer, 2001, p 279).

هَدفَ القوميون الصّرب إلى إعادة تشكيل البوسنة وفق تصوّرهم الخاص، وبناءً عليه كان هناك أسلوب حياةٍ كامل وحضارة برمّتها في قلب أوروبا يخضعان لبرنامج إبادة؛ وبوحشيةٍ لا تعرف اللّين مثّلَ هجوم الصّرب على سراييفو ظاهرة متفرّدة، إذْ كان حصار المدينة في الحقيقة تعدّيًا على الثقافة الحضرية الحديثة بما تتمتّع به من سعة العيش والكوزموبوليتانية؛ ومن وراء توظيف أقسى مستويات الرعب كانت هناك خطّة لمحو الثقافة الإسلامية على مستوياتٍ نفسية وبيولوجية، وبالتالي أصبح الخطّ الفاصل بين تدمير شعبٍ ما (الإبادة الإثنية) وتدمير الجماعة ذاتها (الإبادة الجماعية) مُبهمًا وعصيًّا.

خاتمة 

إنّ قتل كتابٍ أشبهُ ما يكون بقتل إنسان؛ ولأنّ المكتبات ترمز إلى قيمِ النّزعات الإنسانية، فإنّ العنف الموجّه ضدّها يصنّف على أنه هجوم ضدّ هذه المُثل أيضًا؛ بناءً عليه، توصّلت هذه الدراسة إلى الاستنتاجات والتوصيات التالية:

ـ لا يستهدف حرق المكتبات والكتب الذّات الفردية فقط، بل الثقافة ككل بوصفها قوامُ هوية الجماعة.

ـ إنّ أغلبية إبادات القرن العشرين ،للكتب والبشر على حدّ سواء، كانت بفعل صراعاتٍ سياسية ذات خلفيات أيديولوجية ضيّقة، وهذه حقيقةٌ تشير إلى أنّ هذين العنصرين في المجتمع الإنساني (السياسة والأيديولوجيا) يُشكّلان الإطار النّظري لفهم ظاهرة إبادة الكتب.

ـ إنّ الأمم والفصائل التي تدمّر ثقافة جماعاتٍ معادية، إنّما تدمّر في الحقيقة الإرث الثقافي لجميع البشر، ووفقًا لذلك وَجبَ تطوير منظومة قانونية حازمة لحماية الكتب، إلى جانب الاستثمار في الاتفاقيات المُبرمة مثل اتفاقية لاهاي عام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة النّزاع المسلّح.

 

توثيق الهوامش والمراجع:

أ ـ باللغة العربية:

ـ جاد الرب حسام الدين. (2011). معجم المصطلحات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية. دار العلوم للنشر والتوزيع، القاهرة.

ـ دي تانسي ستيفن. (2012). علم السياسة: الأسس. ط1. ترجمة: رشا جمال. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت.

ـ السعدني أمين حافظ. (2014). أزمة الأيديولوجيات السياسية. الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة.

ـ السّعيد خالد. (2018). حرق الكتب: تاريخ إتلاف الكتب والمكتبات. ط1. دار أثر للنشر والتوزيع، الدمام.

ـ نوث ربيكا. (2018). إبادة الكتب: تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين. ترجمة: عاطف سيد عثمان. سلسلة عالم المعرفة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.

ـ نويمان فرانز ليوبولد. (2017). بنية الاشتراكية القومية (النازية) وممارساتها. ط1. ترجمة: حسني زينة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر.

ب ـ باللغة الأجنبية:

- Fishburn Matthew. (2008). Burning Books. 1st published. Palgrave and MacMillan, New York.

- Riedlmayer Andras. (1995). Erasing the past : The destruction of Librariesand archives in Bosnia – Herzegovenia. Middle Eastern Studies Bulletin. Vol 29. N1. 1995.

- ------------------------. (2001). Convivencia under fire : Genocide and Book Burning in Bosnia. In : Jonathan Rose (Ed). The Holocaust and book. University of Massachusetts Press, Amherst.

- Stepcevic Aleksander. (1993). Instead of an introduction. In : Tatjana Aparac-Gazivoda and Dragutin Katalenac (Ed). Wounded Librariesin Croatia. Croatian Library Association, Zagreb.

- Zivkovic Marko. (2011). Serbian Dreambook : National Imaginary in the time of Milosevic. Indiana University Press. Indiana.


عدد القراء: 4317

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-