سوسيـولوجيا الفـن.. في جدليـة العلاقـة بين الفن والمجتمـعالباب: مقالات الكتاب
بدر الدحاني باحث في جماليات المسرح والسينما وسيميولوجيا الخطاب البصري جامعة ابن طفيل/ المغرب |
شهدت الساحة الثقافية العربية حركة نقدية كبيرة في نقد الفن وعلاقته بالسوسيولوجيا؛ فقد نوقش موضوع الجدلية القائمة بين الفن والمجتمع من وجهات نظر مختلفة، إذ وضعت في اعتباراتها كل السياقات الاجتماعية والثقافية للمجتمع وقضاياه الإنسانية. وفي هذا المقال سأحاول مقاربة الفن من منظور سوسيولوجي، وبخاصة تسليط الضوء على قضية الجدلية بين الفن والمجتمع. واعتبارًا لكون الفن ظاهرة مجتمعية، لارتباطه المباشر بالمجتمع وقضاياه الوجودية والسياسية والفكرية والثقافية، فإن هذه المعالجة الإشكالية للموضوع ستتناول -باقتضاب- قضية الفن وعلاقته بالمجتمع وقضاياه الإنسانية.
وعليه، وكما جاء في كتاب "سوسيولوجيا الفن: طرق للرؤية"، لكاتبيه "دافيد انغليز وجون هغسون"، الُمترجَم من لدن "ليلى الموسوي"، "يمكن النظر إلى الإنتاج الفني بوصفه تعبيرًا عن أعراف وتقاليد المجموعة، وليس تعبيرًا ذاتيًا عن مزاج شخصي لفرد. فالشخص الفعلي (أو الأشخاص) الذين يبدعون هذه القطع الفنية يمكن النظر إليهم على أنهم يعبرون في إنتاجهم عن عقلية المجموعة أكثر من كونهم يعبرون عن نوع من "الرؤية" الفردية".
فالمبدع يتمثل في تخيله للأشياء حضور المجتمع وأطرافه، بل يمكن الإقرار، أن ما ينتجه الفنان يرتبط دائمًا بسياقات مجتمعه حتى لو أنكر ذلك. لأن المبدع أثناء صياغته الفنية للعمل - ولو كان ذلك دون قصد مباشر - فهو يضع ضمن تصوراته حضور طبيعة المجتمع وتعبيراته الثقافية والفنية، بوصفه الفئة المستهدفة لتلقي العمل الفني.
السوسيولوجيـا والفـن
يمكن الإشارة أولاً، بأن مؤسسو السوسيولوجيا بشكل عام، لم يعيروا الاهتمام للنظرية الجمالية وروافدها المختلفة. وكما جاء في كتاب "سوسيولوجيا الفن" لمؤلفه: "ناتالي إينيك"، المترجَم من طرف "حسين جواد قبيس"، "وحده جورج سيمل (G.Simmel)، في العصر نفسه، دفع حدود البحث قليلاً إلى الأمام: فقد سعى في كتاباته عن رمبرانت (Rembrandt)، ومايكـل أنجلـو (Michel Ange)، ورودان (Rodin)، إلى تبيان التكييف الاجتماعي للفن، وبخاصة في علاقاته بالمسيحية، وإظهار أثر النظرة إلى العالم (رؤية العالم) على الأعمال الفنية".
وفي الكتاب نفسه، تبدى واضحًا الاهتمام الماركسي "سوسيولوجياً"، بالنظرية الجمالية، من خلال ما أورده المؤلف، قائلاً: "أصبحت مسألة الفن، مع الفكر الماركسي، "سوسيولوجية" بشكل واضح، وغدت هدفًا مركزيًا في سبيل تطبيق النظريات المادية. على أن المفكرين الذين ينتسبون إلى فكر كارل ماركس لم يجدوا سوسيولوجيا الفن في هذا الفكر بالذات، باستثناء بعض الفقرات التي تضمنها كتاب ماركس "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" (1857) والتي تتناول بعض القضايا الجمالية من خلال ملاحظة "السحر الأبدي" الذي مازال الفن الإغريقي يتمتع به".
إن الاهتمام النقدي والنظري لمقاربة الفن سوسيولوجيًا، لم يحظى بمكانته لدى المنظرين والباحثين الأوائل في السوسيولوجيا، إلا بعض الإضاءات النقدية والنظرية، دون أن نستثني المنظر السوسيولوجي الكبير "بيير بورديو" الذي جمع بين التنظير السوسيولوجي ويَسَّرَ عمليات تطبيقاته الإجرائية، إذ قَدَّم إسهامات نظرية وبحثية رصينة في مجال سوسيولوجيا الفن، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: كتاب "قواعد الفن" وغيرها من الإنتاجات ذات الصلة بالفنون. وقد أولى اهتمامه أيضًا بقضايا السوسيولوجية المرتبطة بالثقافة والمثقفين، والسلطة، والنظام التربوي، وغيرها من الاهتمامات النظرية في شأن السوسيولوجيا وفروعها.
إن علاقة السوسيولوجيا بالفن تتأسس على معطيات تأخذ في أبعادها الابستمولوجية مساءلة قضايا الفن من حيث تعبيرها الإبداعي والجمالي من جهة، وديناميكية حضورها الاجتماعي من جهة ثانية. لذلك، تغدو علاقة السوسيولوجيا بالفن بمثابة نظرية مُؤَسِّسة للفن اجتماعياً، وذلك من خلال الكشف عن القوى الاجتماعية والمعتقدات والسلوكات في العمل الفني، أو بعبارة أخرى، مساءلة الفن من حيث وجوده وسياقه الاجتماعيين.
فـي علاقة الفـن بالمجتمع
لو تأملنا وبحثنا في قضية العلاقة بين الفن والمجتمع، لوجدنا أن أسس العمل الفني نابعة من صلب المجتمع وثقافته. وهنا لا أعمم، فهناك استثناءات لا ينبغي التسليم بها في هذا الطرح، وهي الأعمال الفنية التي أخذت من ثقافات أخرى، أو بالأحرى، تثاقفت مع خصوصيات ثقافية غير ثقافتها الأصلية، لتغدو أعمالاً فنية تمتثل لمبادئ التثاقف. ولتوضيح العلاقة الجدلية بين الفن والمجتمع، لابد من تحليل إشكالي لهاته القضية على ضوء التصورات النقدية وما أفرزته من طروحات فكرية.
في البداية، ينبغي الاعتراف أن العمل الفني في الأساس هو عمل اجتماعي، أي أن الفنان في الأصل يمتهن حرفة فنية، ينتج من خلالها أعمال فنية تدر عليه دخلاً، وبالتالي، يغدو الفن بمثابة ممارسة إيجابية في الحياة الاجتماعية، ومن ثم، وعاء فكري وثقافي، نسائل من خلاله قضايا المجتمع وتحدياته. فهناك العديد من الإنتاجات الفنية، (كالمسرح، والسينما، والتشكيل، وغيرها من الإبداعات الفنية..)، جعلت من قضاياها الموضوعاتية، قضايا ذات طبيعة اجتماعية، ناقشت من خلالها بعض المشاكل والتحديات المرتبطة بالمجتمع، إما لتضييق الخناق على ذوي الشأن التدبيري، وإما لإثارة القضايا ذات الصلة بالمجتمع. ومثالاً على ذلك، الكاتب المسرحي والدراماتورج النرويجي "هنريك إبسن"، الذي ألف العديد من الأعمال المسرحية ذات الصلة بالمجتمع، تناول فيها قضايا المرأة والكذب، وبخاصة الأكاذيب التي تقوم عليها المجتمعات، وغيرها من القضايا الاجتماعية؛ ومن أعماله: "أعمدة المجتمع" التي تتناول قضايا الحياة العامة القائمة في الأساس على الزيف والكذب، والحقيقة التي تنكشف لتظهر الواقع الذي أصبح حقيقة. ونجد كذلك مسرحية "بيت الدمية" التي يعالج فيها الكاتب قضية من قضايا المجتمع، وهي الحياة الزوجية القائمة هي أيضًا على الأكذوبة؛ ليغدو هذا الكاتب العظيم، الأب الروحي للمسرح الواقعي الحديث، الذي يسائل من خلاله قضايا المجتمع النرويجي.
وتتميمًا لنفس السياق البحثي، نجد أتباع النظرية الاجتماعية (كما جاء في كتاب "فلسفة الفن وعلم الجمال"، للدكتور علي شناوة وادي"2011)، "يؤكدون الدور الذي يؤديه المجتمع في مسألة الإبداع الفني ومن أمثال هؤلاء (تين) و(دوركهايم)، إذ يرون أن الفن ظاهرة اجتماعية نسبية لأنها تخضع للظروف الاجتماعية ولظروف الزمان والمكان والسلالة، وبالتالي، فالعمل الفني برأيهم لا يرجع إلى عبقرية أو أحلام فردية أو اتجاهات عقلية، ولكنه يرجع في المحل الأول إلى الجمهور (النحن) الذي يوجه الفن".
ومن هذا المنطلق، تتضح بجلاء العلاقة القائمة بين الفن والمجتمع، فلا يمكن البتة، الحديث عن العمل الفني خارج سياقه الاجتماعي، فالفنان أثناء عملية الإبداع، يضع في نظره ـ بدون أن يعي ذلك ـ الفئة المستهدفة من العمل الفني، أو المتلقي الذي سيتذوق الإبداع المُنتَج. وبهذا، يغدو الفن بمثابة وسيلة للتواصل مع الأفراد داخل المجتمع، وفقاً لنظام اجتماعي معين، ونسق ثقافي خاص. والدليل على ذلك، ليس بمقدورنا توجيه رموز ثقافية ذات خصوصية مجتمعية، لمجتمع لا يدخل في إطار هذا النظام الثقافي، وإلا سنناقش أشياء ذات دلالة "وهمية" غير مفهومة لدى المتلقي. فالعمل الفني أصله ومنبعه من المجتمع، وبالتالي، ستتوافر فيه كل الخصائص ذات الصلة بالمجتمع، والسنن الثقافي الخاص به.
المراجع:
- ديفيد إنغليز وجون هغسون، سوسيولوجيا الفن (طرق للرؤية)، ترجمة: ليلى الموسوي، مراجعة: محمد الجوهري، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 341، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت2007.
- ناتالي إينيك، سوسيولوجيا الفن؛ ترجمة: حسين جواد قبيسي، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، (يونيو) 2011.
- علي شناوة، فلسفة الفن وعلم الجمال، دار صفحات للدراسات والنشر – سوريا 2011.
تغريد
اكتب تعليقك