تجليات صراع الإنسان في «صهيل الجواد الأبيض»الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-01-31 06:32:37

لين فان في (فيصل)

باحث في كلية اللغات الشرقية في جامعة شانغهاي ‌للدراسات الدولية - الصين‌

الخلاصة:

يحلل هذا البحث صراع الإنسان في "صهيل الجواد الأبيض" للأديب السوري زكريا تامر لكشف النقاب عن شعور الإنسان بالعدم والريف تجاه هذا العالم في العصر الذي يشهد التصنيع والتطور السريع ومحاولاته لإنقاذ نفسه من هذا الشعور.

زكريا تامر، أديب وصحفي سوري، ولد في عام 1931. وفي عام 1944، اضطر إلى ترك الدراسة وعمل عدة أعمال أهمها مهنة الحدادة. وقد بدأ الكتابة في عام 1958 وكان في هذا الوقت ما يزال حدادًا. ثم صار يكتب قصص الأطفال في عام 1968، وعمل في بلاده رئيسًا لتحرير مجلة الموقف الأدبي. وفي عامي 1980 و1981، انتقل إلى لندن للعيش حتى الآن. ولقد ساهم مساهمة كبيرة في دفع عجلة الأدب العربي عامة والأدب السوري خاصة إلى الأمام.

يكوّن كتاب "صهيل الجواد الأبيض" من 11 مجموعة القصص التي حكت لنا حياة الإنسان تحت وطأة التعذيب النفسي ويعتبر أول ما نشره زكريا تامر من المؤلَّف في حياته في عام 1960.

في كل قصة، نقرأ صراع الإنسان تجاه الوجود والعدم، الحقيقة والزيف لتكشف لنا عن نقاب الإنسانية الحقيقية التي تتلألأ في هذه الفصص التي تبدو منفصلةً بعضها عن البعض لكنها مرتبطة بعضها بالبعض موضوعيًا.

إشكاليات: الصراع بين الوجود والعدم

طالما يكون موضوع "المدينة والريف" موضوعًا يثير اهتمام الكتاب. يرى بعضهم أن المدينة رمز للحضارة البشرية المتقدمة، أما البعض الآخر فيرى أنها تفسد الأخلاق والإنسانية. من الواضح أن زكريا تامر وقف في الصف الثاني. في آواخر القرن الماضي حتى في عصرنا هذا، شهد وما زال يشهد هذا العالم مرحلة التصنيع والتطور، فالمدن انتصبت من الأرض، والمباني ناطحت السحاب والسكان فيها سُخِّروا لبنائها وتطويرها. تعد المدينة في البداية رمزًا من رموز الحضارة المتقدمة. ولكن في وصف زكريا تامر، إن المدينة ليست إلا مكان لفرض القيود على الإنسان وكبت إنسانيته وكبح حريته. المدينة من صنع البشر كوعاء لحمل حضارتهم الحديثة، لكن الأمر أصبح عكس ذلك تمامًا. أصبح الإنسان عبد المدينة وعبد السلطة والمادة. أنعم الإنسان بأفضل حياة في المدينة، ولكن إنسانيته انحطت إلى الأدنى. على الرغم من أن المدينة تشبع معظم الاحتياجات الأساسية للناس، لكن الذين يعيشون فيها يشعرون بالضغوط الشديدة المفروضة على جسمهم وقلبهم.

تحت ضغوط عجلة ذلك العصر، وصف زكريا تامر مختلف الأبطال باختلاف قصصهم لكن انتهوا بنفس المصير بسبب البيئة الخانقة لإظهار فلسفته التي تتمثل في توجيه نقد شديد لشذوذ الإنسان بسبب عملية التصنيع المتسارعة وسعيهم وراء الشهوات المفرطة. فإن الأبطال في هذه القصص أظهروا بنفس الملامح: الفقر، الشعور بالباطل والزيف، الشعور بالوحدة والعزلة واللاوجود. وكذلك، إن هؤلاء الأبطال ليسوا فقط رمزًا بسيطا لشخص معين، بل يعكس صورة بائسة للمجتمع كله. فإن الذين يعيشون في مثل هذه البيئة المسمومة بالآلات والتكنولوجيا، يصابون بنفس ما يشعر به الأبطال كأنهم أداة. ففي قصة "الأغنية الزرقاء الخشنة":

"حيث المباني الحجرية تزهو بسكانها المصنوعين من قطن أبيض ناعم ضغط ضغطًا جيدًا في قالب واحد."1

من هنا، نرى أن كاتبنا شبّه السكان بالدمية المصنوعة من قطن أبيض ناعم. وإن هذه "دمى" ضغطت في قالب واحد لا تميّز الواحدة عن الأخرى سواء في أقوالها وأفعالها أو أخلاقها وأفكارها. حتى يمكن القول إن الإنسان مثل دمية بلا عقل وبلا فكر.

يعاني كثير من الأشخاص في هذا العصر الارتباك بين الوجود والعدم، واليأس والأمل، مما  قد يدفعهم ليختاروا الانتحار ظنًا منهم أن هذا السبيل الوحيد لإنقاذ أفسهم. فنرى في قصة "النهر ميت" أن هناك مخلوقًا لا يعرفه البطل يطلب منه أن يقتله بسبب الجوع والفقر والحياة الميؤوس منها. قال الغريب: "الموت شهي كأمرأة ناضجة."2 لكن بعد نيله المال من البطل، لا يريد الموت بل يريد شراء الخبز واللحم وقنينة نبيذ. فقال: "الحياة جميلة."3 لكن هذه الحياة الجميلة مؤقتة تتلاشى مع تلاشي المال. ففي تلك اللحظة، سيختار الانتحار مرة أخرى لأنه ما زال يناضل بين الوجود والعدم. وعندما غلب العدم على الوجود، الانتحار لا مفر منه ولا بد منه.

الجدير بالذكر أن زكريا تامر لم يصف المدينة كلها من علوها إلى سفلها، بل يختار جزءًا منها مثلاً أرصفة المشاة، الأسفلت، المعمل. إنه فقط اختار العلامة البسيطة الدالة على المدينة والسلطة والحضارة. يهدف وصف بسيط لبيئة المدينة إلى وصف دقيق لشعورالناس. هذه التقنية السردية تركز أنظار القارئ على تأثير المدينة على نفس الناس لإثارة فكرته العميقة.

العمل ضروري ويعد موضوعًا محوريًا في هذا العصر خاصة في المدينة وأيضًا يعد محط نقد زكريا تامر. لكن الجدير بالذكر أن زكريا تامر لم يوجه سهام النقد إلى جميع الأعمال، بل يصوب فوهة بندقية النقد نحو العمل التافه. العمل النافع يزود الناس بالحيوية والنشاط ويشعر الناس بقيمتهم الذاتية والأمن والانتماء. فنرى أن كثير من أبطال القصص بحثوا عن العمل. ولكن في القصص محاولين إعادة قيمتهم وإثباتها، زكريا تامر في الحقيقة يقصد العمل في المعامل والمصانع الذي يجعل الناس كآلات تدور ولا تفكر. العمل التافه يتلف إنسانيتهم ويخرب أخلاقهم. وفي قصة "الرجل الزنجي"، عندما عاد البطل للعمل زاعمًا أنه سينال قيمته من العمل، شعر الرجل الزنجي بالخنق: "سأختنق، يجب أن نبتعد عن هذا العمل."4

لكن البطل لم يهرب. والرئيس وقتئذ جاء وحث البطل على العمل "اشتغل اشتغل"5. من هنا، نلمح أن الرئيس يعتبر البطل أداة  العمل. لا يسمحه أن يتوقف، بل يجب أن يعمل بلا توقف. هذا الوصف يذكرنا بالماكينة التي لا تتوقف وتدور دومًا. في الأخير، قال الرجل الزنجي "وبه ستستعيد إنسانيتك المفقودة، وستهزم سدود الشوارع."6 نلاحظ أن الرجل الزنجي في الأصل يرمز إلى البطل المختبئ داخل جسمه. يعبر عن صوته الآخر، الصوت ضد هذا العمل الذي لا فائدة له ويذيب الإنسانية ويشعر الناس بالعدم ويرميه في دوامة الصراع بين الوجود والعدم.

نرى من هذه القصص تدمير الطبيعة وقتل الحيوانات خضوعًا لهذا التطور. الطبيعة دائمًا ما تكون ضحية المدينة. وفي قصة "النجوم فوق الغابة"، تنجلى هذه الحالة بلا استثناء. أصبح القرد في هذه القصة محنطًا وجُلب إلى المدينة بعد تلاشي الغابة التي عاش فيها من قبل. ومن خلال الحوار بين الفرد ونزار، نرى أن نزارًا لا يعرف الغابات. هذا طبعًا أمر غريب لأننا وليد الغابات وكيف لا نعرف الغابة؟ فاكتشفنا أن السبب يرجع المدينة. حتى أصبحت النجوم فيها متعجرفة خرساء. عندما الطبيعة الخارجية تخرَّب والحيوانات انقرضت، الطبيعة الداخلية ستسقط لاحقًا لأن نفوسنا تحتاج إلى التغذية من الطبيعة الخارجية التي تعتبر مهد الناس: ولدنا فيها وترعرعنا فيها. والحقيقة أن أزمة الإنسان في العصر المعاصر مع الطبيعة، قبل أن تكون أزمة السلوكيات، هي أزمة الفكرة. عندما تربّع في أعماق الإنسان السعى إلى المادية بصورتها الجشعة، أو الاستهلاكية المفرطة، أو الشهوات الراغبة في السيطرة التامة، سيكون الإنسان تفترسه الوحدة والوحشة. هذا لا بد أن يثير ويؤجج عدم بالانتماء والأمن.

كما نكشف أنه كلما ارتقت الحضارة، انحطت الأخلاق. الحضارة لم تتماش مع الأخلاق مما يؤدي إلى القتل والظلم بسهولة إذا لا يستطيع الإنسان تحمل هذه الأثقال الملقاة عليه. وفي قصة "قرنفلة للأسفلت المتعب"، نرى شابًا يتكوم على أرض يضغط على الدم المنبثق من جرحين عميقين بسبب أنه تحرش بفتاة. نلمح أن التحرش جنسيًا يؤدي إلى القتل، لكن هذا القتل ليس من الحكومة، بل من أخي الفتاة. يبدو أن القتل أصبح أمرًا عشوائيًا في العالم، يمكن القتل في أي وقت وفي أي مكان. وبين الاضطراب والضوضاء، هناك شاب انتهز هذه الفرصة للصق جسمه بفتاة ما. نرى ضياع الإنسانية في هذا الحادث. لم يفكر في الإسعاف بل يفكر في التحرش. الأخلاق تتلاشى مع ازدهار الحضارة. فما فائدة الحضارة إذا تموت الإنسانية؟

تحت هذا"الاضطهاد" من المدينة، إلى أين يلجأ الإنسان؟ كيف تنقَذ الإنسانية؟ كيف يتخلص الإنسان نفسه من هذه الضغوط؟ هذا ما سنتطرق إليه فيما يلي.

الحروب ضد العدم: الجنس شاهدًا

إن الجنس في قصص زكريا تامر ليس رمزًا بسيطًا على الرغم من أن موضوع الجنس يعتبر أكثر الموضوعات إثارة للحساسية في الدول العربية في إطار الشرع والعرف والتقليد. لكن زكريا تامر يتطرق إلى هذا الموضوع بشجاعة وإقدام ليعبر عن مسؤوليته عن هذا العالم. لم يكن وصف الجنس لتملق الاستهلاك السوقي، بل يعد طريقة التخليص من الإحساس بالعدم على الرغم من أنه فشل في النهاية.

العيش في مثل هذه البيئة يعرض الأبطال للإرهاق جسديًا ونفسيًا في آن واحد. فبحثوا عن الوسيلة للشعور بالوجود لأن يعيشوا في هذا العالم كإنسان حي لا كجثة جامدة للشعور. فإذا أرادوا الانتشال من براثن اليأس، فلا بد من المناضلة والمواجهة. كما نلاحظ من هذه القصص، في الأخير، اختاروا الجنس كوسيلة للتخلص من عدم الشعور بالقيمة الذاتية. لأن الأبطال لقد فقدوا كل ما لديهم، فحاولوا اللجوء إلى الجنس لإعادة قدرته وإثبات الذات. لأن البطل في الواقع لا يهتم به أحد حتى أهله ويكره العمل كراهية بالغة. كلما خطر على باله العمل، زحف إلى أعماقه القرف والتقيوء. وإنه يعيش في القبو. القبو كما نعرف مظلم ولا أريج الحياة فيه مما يخيم الظلام على قلبه الذي لا يبصر نورًا. لذا، إنه فاشل تمامًا في الواقع وفقد كل إنسانيته تقريبًا.

أراد التعويض. فاختار الجنس كالتعويض. فهنا، يمكننا الملاحظة أن الجنس يرمز إلى القدرة خاصة بالنسبة إلى الرجال. فمن الواضح أنه يريد إعادة قدرته على الحياة وإعادة إنسانيته ورجولته لشن الحروب مع العدم. لكن هل انتصر بالجنس؟ لا، ما زال فاشلاً يعيش في العدمية ويتعذب بالعمل.

وكذلك، في العصر الذي يسوده الرأسمال، الجنس يمكن أن يباع بالثمن. في البداية، إن الجنس يمارَس بين الزوجين كدليل على الحب. ويرمز إلى الاندماج بين الجسد والروح وغير مكبل بحديد الأنظمة السياسية وغيرها. وإن الجنس هو السعادة الخالصة والتواصل الروحي. يمكن الشعور بالأمن والوجود من خلال الجنس. لكن الواقع على نقيض من ذلك تمامًا: الجنس تغلغل في مجال الاستهلاك وارتبط بالأموال وأصبح رخيصًا فتلاشت أهميته في تحقيق الإنسانية. أصبح جسد المرأة بضاعة لإشباع شهوة الرجل. وهذه العلاقة ليست إلا علاقة تافهة: من أجل إشباع الشهوة الجنسية بلا إشباع القيمة الذاتية. فرجل يمارس الجنس مع امرأة مجهولة الهوية بثمن:

"أخذت أساوم امرأة أزمات شراء جسدها مدة ساعة واحدة فقط. قالت: ثمني عشر ليرات.. ستدفعها سلفًا."7

الأشد من ذلك، إن هذه العلاقة "العشوائية" بين الناس قد تؤدي إلى تلاشي الإنسانية. فيعيشون في الحضارة الحديثة بلا إنسانية ويلهثون وراء الشهوات كإنسان ناقص. والجنس مسلوب معناها ومسروقة متعته روحيًا فلا يبقى له إلا متعة جسدية رخيصة.

حسب ما ذكرنا سابقًا، من البديهي أن الجنس في هذا العصر فقط يمثل ملجأً يلجأ إليه الإنسان، ليس مخرجًا للتغلب على هذا الشعور بالعدم. إن إنقاذ الذات بالجنس لا بد أن ينتهي بالفشل لأن الإشكالية لا تحل ولن تحل بالجنس فقط خاصة في الزمن الذي الجنس فيه كبضاعة يسعى الناس وراءها من أجل الشهوات الذاتية.

مآلات: العودة إلى الطبيعة والإنسانية

لا خفى على أحد أن الهروب لا ولن ينفع. الهروب فقط للنسيان، لكن المعاناة ما زالت مستمرة ولا تتوقف إلا بالمواجهة والقضاء عليها. في ظل تسارع التطورات الحديثة، زكريا تامر التف إلى الوراء. في هذه القصص، نكشف عن أمثل طريقة للتغلب على هذه المعاناة كما يعتقده المؤلف: العودة إلى الطبيعة والإنسانية.

يدعو إلى العودة إلى الطبيعة الخارجية والداخلية. لقد نبه القرآن الكريم أن يد الإنسان قد تمتد إلى الطبيعة بالإفساد، قال تعالى: (ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ) (سورة الروم:41) كما ذكرنا أن الطبيعة حولنا تتعرض للإهمال والتخريب. نحن الآن في هذا العالم، ننظر إلى الهاتف عندما نمشي، نأكل، نشرب…الإنسان جامد يفكر في العمل فقط وليس لدينا وقت للتفكير والتمتّع بجمال الطبيعة. فنرى دعوة كاتبنا في قصة "الأغنية الزرقاء الخشنة" إلى الطبيعة. يتخيل تحول المدينة إلى قرية كبيرة محاطة بحقول خضراء ممتدة إلى لانهاية. لا غنَى عن القول إن هذا هو الطبيعة بالضبط. ولم ترد هذه الدعوة في هذه المجموعة من القصص مرةً واحدةً فقط بل تتكرّر. في قصة "صهيل الجواد الأبيض"، نجد أن البطل في نهاية المطاف غادر المدينة مع جواده، "بينما كان الرجل المتعب يبتعد خلسة عن المدينة ممتطيًا جواده الأبيض."9 ابتعد البطل إلى البراري الخضراء التي لا أفق لها. ونداء الطبيعة يناديه للعودة. الصهيل هنا أيضًا رمز يرمز إلى صوت البطل الآخر الذي يعبر عن شوقه إلى العودة كما يعبر عن دعوة زكريا تامر إلى العودة إلى الطبيعة الخارجية: الطبيعة الخضراء والجميلة وفيها يعيش الناس بما يحلو لهم من الحرية لأن الصهيل أيضًا رمز الحرية والأمل والقوة ولا يعرف الخوف بل يجرى إلى مكان كما يشاء. بالإضافة إلى ذلك، لا يتوقف كاتبنا عند هذه النقطة، بل يتعمق في الفكرة لإبراز لنا دعوته إلى الطبيعة الداخلية. إن التقدم البشري يتطلب منا أن نكون مهذّبين. فرضنا القيود والكبول على أنفسنا حتى نتقيد بشبكة التي نسجتها عنكبوت الحضارة كلما تطورت. لما ارتقت الحضارة، ذهبت الإنسانية بعيدًا. تتلاحق الغير والوشاية والأنانية والنفاق واحدًا تلو الآخر، لا نرى ما يفكر الإنسان فيه من وجوهه المغطاة بغبار الحضارة. وفي الحياة البدائية، ظهر الإنسان بملامح الطبيعة، لكن الآن، ظهر الإنسان بملامح الزيف. التكنولوجيا المتقدمة لم تُدخل الناسَ إلى الحضارة الحقيقية، بل تبتلع وتهضم في معدتها ما فيهم من الطهارة والأصالة. إن ما يسعى إليه زكريا تامر هو بالضبط تكوين الإنسان ذي السمات الطبيعة وغير المتسخ بوسخ الحضارة.

بينما نرى اتجاه كاتبًا في قصة" قرنفلة للأسفلت المتعب" حيث تصورت الفتاة أنها اُغتصب بسبعة رجال وتمتعت بهذه العملية:

"أحست الفتاة أن الرجال السبعة قد اقتحموا غرفتها. إنهم حولها. أيديهم تلمس لحمها بجوع. إنهم يلهثون بصوت مسموع، وتفوح منها رائحة حيوانات امتزج عرقها بأمطار مطلع الربيع."10

هذه الفكرة غير شرعية وتعتبر فكرة متوحشة وفكرة تتعرض للنقد بكل تأكيد في عصر الحضارة المتقدمة. لكن هذا رمز الحرية في العصر البدائي. الجنس مجرد تلبية للغرائز البدائية. تمارسها بدون كبت ناهيك عن أنها فقط تخيلت. وهذا التخيل ولا أكثر أيضًا يدل على أننا تعرضنا للقيود التي لقد تحدثنا كثيرًا فلا نطول في الحديث عنها. طبعا، يجب أن نذكر أن زكريا تامر لا يدعو إلى فساد الأخلاق مثل اغتصاب المرأة، سرق الأموال، قتل الأبرياء. الأخلاق الفاسدة كما نرى أيضًا محط نقده. إنه فقط استخدم هذا للتعبير عن فكرته: الحرية والعودة إلى الطبيعة الداخلية مثل أمطار الربيع التي تغذي المشاعر الطبيعية للنمو وترمز إلى الولادة الجديدة.

الجدير بالذكر أن زكريا تامر لا يدعو إلى ترك الحضارة الحديثة والمتقدمة تمامًا، بل يدعو إلى نبذ الشهوات المفرطة وغير الضرورية وكسر القيود المبالغ فيها والمفروضة علينا. إذا لم نبعد عن هذه الشياطين التي توسوس في صدورنا، فسنجري وراء العبثية والعدمية دون أن نعي القيمة الحقيقية في هذا العالم. فيرسم كاتبنا لنا المدينة المثلى في رأيه.

المدينة الصالحة للعيش هي مدينة تبتسم له أي مدينة يعيش فيه الإنسان بسعادة وسرور. كما في قصة "رجل من دمشق"، قال البطل في نهايتها: "سأكون إنسانًا طيبًا لو كانت مدينتي مثلك."10 وفي قصة "الأغنية الزرقاء الخشنة"، نقرأ أن البطل إذا كان ملكًا، سيهدم المعامل، ويجمع الآلات في مكان واحد لتحطيمها بسبب اعتقاده أن الآلات مخلوقات مجرمة. وسيدعو الناس للعودة إلى الأرض لأن الأرض الأم الوحيدة التي لا تلوث القلوب. والناس سيعيشون فيها بكل ما فيهم من فرح ومرح. أيضًا العدالة ستسود المدينة كلها. هنا نرى بوضوح أمنية زكريا تامر وشكل المدينة المثلى. وهذه المدينة طبعًا مختلفة عن المدينة التي في دمشق اختلافًا كبيرًا. وزكريا تامر ترسم لنا مدينة صالحة وجميلة ليست في مناظرها فحسب، بل في أجوائها أيضًا.

أخيرًا وليس آخرًا، الأدب إنما يكون الأدب بفكرته وفلسفته وليس بجمال لغته فقط. من هذا المنظور، الأدب ليس أدبًا فحسب، بل علم يتمحور حول الإنسان. إن أهمية الأدب ومكانته التاريخية تتجليان من خلال وصف الإنسان. إن الأعمال الأدبية الخالدة هي التي تدعو إلى الخير وتشجيع الإنسان على المواجهة والبحث عن الحل المثالي لبناء فضاء يتعايش فيه الجميع بإنسانيته. يحث انكماش الإنسانية واشتداد التناقضات الاجتماعية زكريا تامر على الكتابة ببصيره ليدعو الناس إلى العودة إلى الإنسانية وبناء فضاء يتنشى فيه الإنسان بعبير الحضارات وبناء الأرض النفسية والروحية الخصبة لمواجهة الصدمات الخانقة منها بشجاعة وتحقيق التوازن بين العالم الخارجي والعالم الداخلي وتحقيق الانسجام بين الطبيعة والإنسان. هذا أيضا فلسفة إسلامية تتجلى في القرآن الكريم كما قال تعالى: (وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ عَادٖ وَبَوَ أَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورٗا وَتَنۡحِتُونَ ٱلۡجِبَالَ بُيُوتٗاۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ ) (سورة الأعراف:74)

خلاصة القول، مع تطور التكنولوجيا والعلوم السريع ودخول العالم عملية العولمة، يعاني كثير من الناس من الفقر نفسيًا وروحيًا. هذا لم يؤجج شعورًا بالعزلة والوحدة فحسب، بل يزيد الإحساس بالعدم. من ثم، لا بد أن نجد حلا لتحقيق التوازن بين العالم الخارجي والعالم الداخلي. ويكون الحل للتخلص من مثل هذه الأزمة هو العودة إلى الطبيعة الخارجية والطبيعة الداخلية والإنسانية.

 

الهوامش:

1 -  زكريا تامر، صهيل الجواد الأبيض، منشورات مكتبة النوري، 1978م، الطبعة الثانية، ص7.

2 - انظر إلى السابق، ص101.

3 -  انظر إلى السابق، ص101.

4 -  انظر إلى السابق، ص22.

5 -  انظر إلى السابق، ص23.

6 -  انظر إلى السابق، ص23.

7 - انظر إلى السابق، ص102.

8 - انظر إلى السابق، ص42.

9 - انظر إلى السابق، ص105.

10 - انظر إلى السابق، ص76.


عدد القراء: 1361

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-