مراجعة كتاب «الفكر الخلدوني في الميزان للدكتور جوزف شهدا» الباب: مقالات الكتاب
أ.د. عبدالقادر بوباية أستاذ التاريخ والحضارة جامعة وهران، الجزائر |
الكتاب: "الفكر الخلدوني في الميزان"
المؤلف: د. جوزف شهدا
الناشر: الجمعية المصرية للدراسات التاريخية
إصدار جديد الجمعية المصرية للدراسات التاريخية وبرؤية جديدة للفكر الخلدوني، وفي مغامرة خاض غمارها المفكر اللبناني جوزف عبدالله شهدا فجاء كتاب "الفكر الخلدوني في الميزان".
وبعد قراءته بدقة وتمحيص تحققت مقولة المفكر الدكتور جيرار جيهامي في أن هذا الكتاب فريدٌ من نوعه في مضمار الخلدونيّات لأنّه بحثٌ موسوعيّ في كلّ باب وفصل وفرع ومقطع. حواشيه وحدها تمسح كلّ ما قيل وكُتب عن ابن خلدون، ناهيك عمّا أورده من ذكر المؤرّخين القدماء منهم والمحدثين العرب وغيرهم، باحثين كانوا أم نقّادًا؛ هم الّذين تتبّعوا ثنايا الفكر الخلدوني وتمكّنوا من تصنيف دراساته وعلومه وتقييمها. وأن هذا الكتاب يترك في نفسك، بعد قراءته، انطباعًا أنّه يشكّل مقدّمة تحليليّة نقديّة بحجم مقدّمة ابن خلدون. فصاحبه لا شكّ قد تأثّر بأسلوب صاحب المقدّمة الكتابي عندما قام بإحاطة اللّثام عن شخصيّة العلّامة الثقافيّة، ومن ضمنها سيرته الذاتيّة، كتابته للتاريخ وتأسيسه لعلم التاريخ وتفريعه العمران. وقد ولج مواضيعه هذه انطلاقًا من محوريّة دراسات ابن خلدون في ظلّ كتابات المؤرّخين، المسلمين منهم وغير المسلمين، مركّزًا على جدّته دون اسقاط جوانب تقليديّاته.
عالج الباحث فصول الدراسة بمنهجية واضحة؛ فاستخدم المنهج التاريخي من حيث التحليل والتعليل والربط والاستنتاج دون إسراف، وتفنيد بعض الروَايَات واستخدام بعض المناهج في معالجة الموضوع كل منهج وفق متطلبات فقرات البحث، مثل المنهج الاستقرائي، وتحليل المضمون عن طريق النصوص ثم تحليلها ووضع افتراضات حولها بحثًا عن حلول لإشكاليات متناثرة فكان أن استخدم الباحث المنهج التفكيكي – التركيبي للنص بحثًا عن الجوانب الدلالية الشمولية لحل تلك الإشكاليات التي واجهت البحث، وذلك حتى لا يكون العمل مجرد عمل توصيفي بحت بل عمل معرفي قائم على الاستقراء والتحليل والتفسير.
قُسِّم البحث إلى مُقَدِّمَة وتَمْهِيد وثلاثة أبواب، تتبعها خَاتِمَة؛ ومَلاحِق وثبت المَصَادِر والمَرَاجِع.
وإذا علمنا أن هناك مئات الدراسات عن الفكر الخلدوني فيحق لنا أن نتساءل ما الجديد الذي قدمه الدكتور جوزف شهدا في هذا المجال؟ ربما نحاول الإجابة على ذلك التساؤل فيما يلي:
أولاً: فيما يتعلق بالمنهج والرؤية، نجد الكاتب لم يعول على قراءة الفكر الخلدوني من خلال نصوصه فقط؛ بل يربط تلك النصوص بالواقع التاريخي الذي أفرزه. وما أورده من نصوص جاءت كما قال "كشواهد ولبث روح من الحيويّة والواقعيّة على الدراسة، وتجنبا للمنهج التجريدي والتنظيري".
واتبع المفكر الدكتور جوزف شهدا منهجية مناسبة لطبيعة موضوع متنوع الجوانب؛ إذ عول على بعض المناهج الحداثية في قراءة واستبطان محتوى النصوص والوقوف على مفرداتها العلمية بعد تفكيكها. ثم أفاد من المنهج المادي التاريخي في عملية "التركيب" مفيداً من المنهج الاستقرائي في استخلاص الأحكام.
ومن ثم أكد الكاتب أنه لا تكفي العودة إلى مؤلّفات ابن خلدون وأفكاره فحسب، فالأجدر أن نبدأ بمنابع هذا الفكر، كيف تشكّل؟ ونلقي كل الأسئلة: لماذا؟ متى؟ كيف؟ ولمن؟.
ثانيًا: فيما يتعلق بالطرح وتناول الموضوع، نجده ببراعة يطرح تساؤلات ونقاشات رفيعة المستوى وعالجها بحنكة شديدة خلال فصول الدراسة ومن تلك التساؤلات:
لماذا بدأ ابن خلدون بكتابة التاريخ في لحظة معينة من حياته وله 43 سنة من العمر وليس قبلها؟ ومتى قرّر الكتابة في التاريخ وما هي دوافعه في ذلك؟ ما مدى العلاقة بين المعرفة الدينيّة لابن خلدون من ناحية ومصادره التاريخيّة من ناحية أخرى: هل هي علاقة موضوعيّة حتّمتها رؤيته للتاريخ كوسيلة للبحث عن "الحقيقة"، أم علاقة انتقاء وإقصاء لما يخالف معتقادته المذهبيّة؟.
تسائل أيضًا هل ذكر ابن خلدون كل المصادر التي اعتمدها عند كتابته للعبر وأين نجد تأثيرها في سرده للأخبار؟ أي إلى أي حدّ كان موضوعيًّا ومتوازنًا في الأخذ عمّن سبقه؟ ما هي المؤثّرات الذاتيّة والشخصيّة لابن خلدون على كتابة العبر؟ وقبل كل هذا، هل استطاع أن يقرأ كل المصادر، والحال أنها تُعدُّ بالمئات؟.
ذكر ابن خلدون العديد من المصادر غير الإسلاميّة؛ فهل كان مطّلعًا على الفكر اليوناني، لا سيما أرسطو وأفلاطون وهو الذي استعرض تاريخ اليونان؟ وماذا عن الديانات القديمة وتواريخ العبرانيين والرومان والمسيحيّة في طورها الأوّل؟ هل عاد فعلاً إلى التوراة والإنجيل؟ ولماذا تبنّى هذه المصادر التي اعتبرت "مكروهة" في الفكر العربي الإسلامي خلال القرون الوسطى؟ إذ يبدو أنه قد اعتمد اتجاها معاكسًا ينحو نحو منهجيّة مؤرّخي القرن الثالث والقرن الرابع للهجرة متجاوزًا الكتابات التاريخية التي تلت هذه المدة، ولا سيما كتابات مؤرّخي عصره.
وكيف كتب التاريخ؟ هل هي مجرّد كتابة وسرد، أم منهجية تاريخية مخالفة للكتابات التي سبقته أو عاصرته؟ وهل تحرّر من المسلّمات التقليديّة للكتابات التاريخيّة التي أعلن منذ البداية طموحه لتجاوزها؟.
ولمن كتب التاريخ؟ أكان استجابة لرغبة أحد أصدقائه أو بإيعاز من قِبَلِ أحد أهل السيف والقلم على عادة المؤرّخين الذين سبقوه، أم كان ذلك استجابة لرغبة ذاتيّة خالصة؟ بمعنى آخر، ألم يكن يهدف إلى تحقيق أطماع سياسيّة؟
إن استجلاء مصادر ابن خلدون وذكره لها بدقّة وأمانة، أو تجاهله لها عن وعي تام؛ من شأنه أن يساعدنا على معرفة من المقصود من كتاب العبر؟ هل كتبه للنخبة الحاكمة (أهل السيف)؟ أم للنخبة العالمة (أهل القلم)؟ للسلطان أم للفقيه؟ أم للاثنين معًا؟.
ما هو موقف ابن خلدون من هذه المصادر، وهل اقتصر دورها على أن تكون بالنسبة إليه مجرّد معلومات معرفيّة، أم ساعدته على بلورة نظريّة خاصّة به ومكّنته من إعادة النظر في دورها، وبالتالي توظيف معارفه المستقاة من أجل صياغة التنظير؟ أم أنها ظلّت تلعب دور الشواهد لدعم التنظير المسبق؟ أي هل أن هذه المصادر أدّت إلى إقامة التنظير وطُبِّقت؟ أم هل كانت لديه افتراضات نظريّة التجأ ابن خلدون إلى تبريرها بمصادر عديدة؟ هل استغل ابن خلدون مصادره لتدعيم بنائه النظري أم لتحقيق أبعاد مذهبيّة وسياسيّة؟ من هنا كان لا بدّ من البحث في العلاقة القائمة بين هذه المصادر المستعملة وكيفيّة استعمال ابن خلدون لها.
ومن خلال تلك التساؤلات المثارة ناقش الكاتب الدكتور جوزف شهدا الإشكالية التي تقول ما هي طبيعة العلاقة بين فكر ابن خلدون التاريخي ومصادره، في ظل هذه الشروط المنهجيّة، الذاتيّة والموضوعيّة مـن نـاحـيـــة، ومقتضيات العصر من ناحية أخرى.
وقد اتبع الكاتب منهجية فيلولوجيّة، ومنهجيّة تعدّدية تحاول المزج بين التحليل الاجتماعي والتحليل التاريخي والتحليل اللغوي، إنها منهجيّة استبطانيّة دامجة واستيعابيّة.
ثالثًا: في معالجة الكاتب للإشكاليات المطروحة تلك نجده قد تحرر من المقاربات التقليدية والمكرورة التي تعتمد على السرد والحكي واعتمد كثيرًا على النقد والتحليل والتعليل، قدم خلال الكتاب تعريفات وعروضًا نقدية ثم –وهو الأهم- إثبات جدواها في حقل الدراسات المعرفية أثبت خلالها طول باع وسعة اطلاع، وقدرة فذة في الصرامة المنهجية الواعية، دونما اعتساف مخل أو انبهار ممل نجد ذلك بينًا في تقسيماته لفصول الدراسة.
رابعًا: ركز الكاتب على معالجة إشكالية في غاية الأهمية ألا وهي كيفية كتابة ابن خلدون لتاريخه. هل تجاوز من سبقه من المؤرخين؟ الذين عاب عليهم قلة التمحيص بالسقوط في «التشيّعات للآراء والمذاهب... الثقة بالناقلين... الذهول عن المقاصد... توهّم الصدق... الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع... تقرّب الناس في الأكثر لأصحاب التجلّة والمراتب بالثناء والمدح... الجهل بطبائع الأحوال في العمران.» لذلك حاول استعادة كيفيّة كتابة التاريخ في المجال المتوسّطي حتى استطاع المقارنة مع ما كتبه في "العبر". هل استوعب ابن خلدون الفكر السابق له وكيف استعمل المعارف المتراكمة منذ قرون؟ من هم المؤرّخون الذين ذكرهم وعلى من تغافل؟.
كما قام الدكتور جوزف شهدا بدراسة طريقة ابن خلدون في الكتابة التاريخية وتحليل الأسلوب الذي اعتمده في ذلك، بالنظر في التعبيرات المجازية والوضعيّة ووسائله السرديّة وربطها بظروف استعمالاتها التاريخيّة والاجتماعيّة. واستنتج بالتالي مواطن الثقل والإضافة لدى ابن خلدون، ومواطن الضعف التي بلورت مفهومه للتاريخ وآليّاته العمليّة ومزاوجته بين التفكير العقلي والفقهي والخرافي، وما مدى حدود كل واحدة من هذه الآليّات. كما تعرّض لمفهومه للتاريخ ودوره بالتعمّق في بعض النماذج من سرده وتبيان مختلف أنواع المصادر التي اعتمدها للكشف عن مدى التجديد لديه ومقاربتها بأنساق المعارف التي تلقّاها من مختلف المدارس الفكرية المغاربية والأندلسيّة التي عاصرها وتأثر بها ومدى انعكاس هذه المؤثرات على كتاباته.
خامسًا: ببليوغرافيا الكتاب حقيقة غاية في الثراء. إذ استخدم الدكتور جوزف شهدا المادة من مصادر أصلية متعددة ومتنوعة. وقد أفاد من كتب الفقه والنوازل –بالغة الأهمية- إفادة تحمد له؛ كما أفاد الباحث من كتب الفرق والتصوف والملل والنحل والأحكام السلطانية في استقاء مادة غاية في الأهمية. ناهيك عن كتب الحسبة والأدب الجغرافي وأدب السياسة والحوليات التاريخية وغيرها.
سادسًا: بالمثل اطلع الكاتب على الكثير من المراجع الحديثة العربية والأجنبية والبحوث المنشورة في الدوريات وأعمال المؤتمرات العلمية؛ فضلاً عن عدد من الرسائل الجامعية، وأفاد من ذلك كله – وغيره- في مجال الرأي وتقييم جهود الدارسين السابقين.
ناهيك عن قيمة ما قدمه الباحث في إثراء المادة التاريخية –منهجًا ورؤية، ووفق الكاتب –استناداً إلى مادة تاريخية ثرية ومتنوعة – في تقديم آراء جديدة تضاف بجدارة إلى الفكر الخلدوني لذا لا نبالغ إذا اعتبرنا هذا العمل إنجازًا أنموذجيًا، جديرًا بأن يحتذيه الباحثون في حقل الدراسات الإنسانية، كما يحمل الكاتب مسؤولية المضي قدمًا على طريق البحث لينجز المزيد من البحوث والدراسات في هذا الحقل المعرفي الهام.
ويتسم الكتاب بعامة بالاهتمام بإيضاح المحتوى ويشي بقدرة المؤلف على الاستنباط بعد تحليل الوقائع والأحداث، واستخلاص أحكام تتسم بقدر كبير من الحياد والموضوعية. هذا فضلاً عن تملكه قدرات وملكات في النقد لأحكام السابقين، واعتماد ما يراه صحيحًا، ومناقشة القضايا الإشكالية، وتبيان رأيه في النهاية، كل ذلك لم يأتي من فراغ بل هو حصيلة عمر ومنبع ثقافي نهل منه الدكتور جوزف شهدا عسلاً مصفى من الأدب والتاريخ والفلسفة وعلم النفس وعلوم أخرى.
لقد اعتمد شهدا على ذكائه الحاد وصبره على التعلم والمعرفة حتى أصبح صاحب ثقافة موسوعية لا تضاهى أبدًا.. ليس بالعلوم العربية فقط وإنما العلوم الغربية أيضًا، كما أن معرفته تتسم بدرجة رفيعة من التعمق في كافة جوانب المعرفة، حتى يصل إلى مرحلة الاستقراء التام فيها.
ويتميز الدكتور شهدا بمدرسة خاصة في التفكير تميزه عن الكثير. وهو أيضًا صاحب مشروع علمي يعمل على نشر ثقافة الحوار وتقبل الآخر أيًّا كان دينه أو لونه أو عرقه، فهو مفكر "هيوماني" بعيد كل البعد عن التعصب والحوار المتشنج الانفعالي.
هذا ويحرص شهدا على الرفع من المستوى الثقافي للأمة العربية التي ينتمي إليها، بحيث يبقي شأنها عاليًا بين الأمم الأخرى. فهو يمتلك القدرة على توسيع حدود العلم في مجال الفكر الذي يعمل فيه.
وفي الختام: يمكننا القول في الختام أن الدراسة إنجاز متميز، وجهد محمود وإضافة جديدة للدراسات الخلدونية.
تغريد
اكتب تعليقك