أدباء أمريكا اللاتينية والقضية الفلسطينية: إدوارد غاليانو نموذجًاالباب: مقالات الكتاب
حمزة شباب ناقد فلسطيني |
يضرب الأدب اللاتيني عمومًا في أعماق الأدب العالمي متجذرًا لحقبة ما قبل الميلاد تاريخًا له، ويعود ذلك إلى تلك الحقبة التي شاهد فيها الرومان مسرحية إغريقية بنسخة لاتينية خالصة، قام بترجمتها من اليونانية إلى الرومانية وتكييف مشاهدها الكاتب المسرحي اليوناني ليفيوس أندرنيكوس، وقد وصل إلى عهده الذهبي القديم أيام شيشرون في المدة الواقعة بين ( 81 ق.م – 17 م )، حيث يعد أبرع كاتب نثري لاتيني قدم معلومات مفصلة عن التاريخ الروماني، ووصف وصفًا دقيقًا للمجتمع والطبقة الحاكمة آنذاك، كما تعد نظرياته في الخطابة مرتكزًا من الثقافة والبلاغة في عصره حتى استلهمت الكثير من القادة السياسيين في أوروبا وأمريكا، ولا سيّما مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية، وقد انحسر هذا الأدب جراء تعاقب الإمبراطوريات ثم انتعش في القرنين من الثاني وحتى الرابع الميلادي على يد عدد من البلغاء أمثال: سيماخوس وروتيليوس، وقد عبرت اللغة اللاتينية وقتئذٍ عن صيغ نحوية عديدة أدت إلى اهتمامهم بالبلاغة التي تنحصر في فنون الكلام والإقناع، وتكتسب الوقار الشديد من صانعيها مما يعكس الجدية والشعور بالمسؤولية مما أضفى على الكتابة اللاتينية المقصد الأساسي منها، وهي الحكمة التي أخذت منها مصطلح "الفلسفة"، لكنهم سمحوا لما أسماه هوراس بالقليل من "الخل الإيطالي" إشارة إلى الفكاهة والنقد في ثنايا عباراتهم.
ترعرع الأدب اللاتيني بعد خضوع الجزء الغربي من الكرة الأرضية للسيطرة الإسبانية بعد اكتشاف القارة الأمريكية عام 1492 م، ويشير مصطلح الأدب اللاتيني إلى الكتابات الشعرية والنثرية المكتوبة باللغة الإسبانية الاستعمارية، والتي استقرت حديثًا في تسع عشرة دولة، هي: أوروجواي، وباراغواي، وتشيلي، والأرجنتين، وبوليفيا، والإكوادور، وكولومبيا، والبرازيل، وفنزويلا، وكوستاريكا، وبنما، وبيرو، والسلفادور، والمكسيك، وكوبا، ونيكاراغوا، وهندوراس، وغواتيمالا، والدومينيكان وبورتوريكو، ثم مرّ الأدب اللاتيني بمراحل ثلاث مكونة تاريخًا من النشأة الحداثية وأسلوبًا متميزًا في الكشف عن الأقلام التي فرضت نفسها على الساحة الأدبية، لتجد جمهورًا عريضًا من المثقفين الباحثين عن حرية الكلمة وتواضعها العنيف، ويربطون بين إبداع الكلمة وواقعها من خلال وصف المشاهد السياسية والاقتصادية والاجتماعية وصفًا تفصيليًّا، يبدأ في وصول الإسبان إلى القارة الجديدة وما حملته من أحداث بعد أربعة قرون من الزمان وكان في غالبيتها كتابات ورسائل لجنود وقادة تمثلت في منهج ثوري واضح ضد الاستعمار، إلى مرحلة الاستقلال التي ساهمت في تحقيق الهوية المستقلة عن طريق ما يسمى بـ "حروب الاستقلال"، ومن أشهرها رواية "الببغاء الغاضب" عام 1816 م لمؤلفها المكسيكي خوسيه دي ليثار دي، حيث انتقد المجتمع الاستعماري في مدينة مكسيكو بشكل لاذع، كما كتب الشاعر الإكوادوري خوسيه خواكين دي أولميدو قصيدته الوطنية الثورية "أنشودة بوليبار" عام 1825 م، ودخل ذلك الأدب معترك الحياة النقدية ومدارسه الممنهجة منذ بدايات القرن التاسع عشر كالرومانسية والواقعية، وقد وصل إلى حقبة حداثية تتمثل في الجمالية، التي تعني ابتعاد الأديب عن أي أهداف تعليمية وأن يحاول الحصول على الجمال في أنقى أشكاله، متحررًا من الأساليب الشكلية القديمة، ثم ازدهر بفعل الجرأة والزخرفة وحرية الخيال بظهور أعمدة الأدب الحديث كماركيز الكولومبي ويوسا البيروفي وفوينتس المكسيكي، وقد تمثلت كتاباتهم في مناشدة الروح المثالية العالية التي هددتها المادية الحديثة، مع الميل إلى الطابع السياسي للقارة في ستينيات القرن الماضي.
تعد الدول اللاتينية في مقدمة الدول التي نددت بالاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني وخصوصًا في بياناتها المتعاقبة للحملات الغاشمة على قطاع غزة، فتمثلت حكومات هذه الدول ردود أفعال صاخبة في الدفاع عن الشعب الفلسطيني الأعزل، ووصل الأمر إلى مطالبة بعض الدول كبوليفيا بتقديم إسرائيل إلى محكمة الجنايات الدولية، وردد الرئيس البوليفي إيفو موراليس ذلك مرارًا في خطاباته، مع قطع تام للعلاقات، كما تبنى الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز حملة على شبكة التواصل الاجتماعي تويتر تدعو إلى حماية الشعب الفلسطيني في غزة تحت وسم "نجدة فلسطين"، واتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وحرب إبادة، الأمر الذي أثار الموقف الشعبي في أنحاء القارة اللاتينية للخروج بالمسيرات التضامنية، واتخذت العديد من الدول كتشيلي والأوروغواي والإكوادور المواقف المشابهة معبرة عن حفيظتها بمواقف شتى، كقطع العلاقات والردود الدبلوماسية بخطابات شديدة اللهجة، ويعود ذلك برؤية بعض الخبراء السياسيين إلى تراجع دور اللوبي الصهيوني في هذه الدول بشكل كبير، وتولي وسائل الإعلام في أمريكا اللاتينية اهتمامًا كبيرًا بالاعتداءات الإسرائيلية المسلحة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والاعتداءات غير المسلحة المتمثلة بالحصار وإغلاق المعابر وما وصفته الصحافة من جريمة فتح السدود على القطاع مؤخرًا بعد المنخفض القطبي الثلجي في فبراير 2015 كصحيفة سانتياغو تايمز التشيلية1 ، ويعود هذا التعاطف الكبير المسجل في سنواته الأخيرة إلى صدارة القوى اليسارية والتقدمية المشهد السياسي في المنطقة ووصولها إلى السلطة في العديد من الدول، حيث وضعت القضية الفلسطينية ضمن أولوياتها الخارجية من خلال إضعاف دور الهيمنة الرأسمالية ليزداد العداء لإسرائيل، وفي الوقت ذاته عكست القضية الفلسطينية ميل الكتاب والمبدعين والمثقفين نحوها بوصفها قضية تحرر بامتياز، لتصبح حاضرة في الأطروحات السياسية والكتابة الإبداعية الشعرية منها والنثرية.
انتفض مثقفو أمريكا اللاتينية ضد إسرائيل، ومن أهم الأحداث المعاصرة تلك الرسالة التي وجهها مجموعة من الأدباء والمثقفين إلى إدارة معرض الكتاب الدولي في مدينة غوادالاخارا المكسيكية ردًّا على استدعاء إسرائيل للمشاركة فيه كضيفة شرف عام 2013 م، وقد نشر في صحيفة La Jornada المكسيكية، ينص البيان على «أن قيام دولة إسرائيل تسبب في نكبة للشعب الفلسطيني وحكم عليه بالمنفى والقهر والسلب، وأن أربعة وستين عامًا من الاحتلال العسكري الإسرائيلي أجبرت العرب واليهود على العيش في حالة حرب دائمة»، وأفاد التقرير بأنه «قد تمّ القضاء على التعايش العربي اليهودي من خلال إنشاء دولة تقوم على أساس الإقصاء العرقي والثقافي، التي تنفي حق الشعب الفلسطيني المشروع بإقامة دولته والعيش على أرضه»، وقد نظر هؤلاء المثقفين إلى الكتاب الإسرائيليين بأنهم غير مستعدين لتمثيل سياسات إسرائيل الاستعمارية والقائمة على أساس الفصل العنصري، كما قدم البيان فكرة مشاركة فلسطين في معرض العام القادم كضيفة شرف، ومن أبرز الموقعين عليه: الباحثة الأرجنتينية سيلفانا رابينوفتش، والشاعر الأرجنتيني إدواردو موشيس، والشاعر ساؤول إبارغوين المنفي من الأوروغواي، والمحلل النفسي نيستور براونستيين المنفي من الأرجنتين، والفنان التشكيلي المكسيكي ماركوس ليمينيس، والمفكر المكسيكي هيكتور دياز بولانكو، والباحثة المكسيكية في الأدب الإسباني مارغيت فرينك فرويند2.
لا شك إذن أن مثقفي أمريكا اللاتينية شكلوا منارة من الأفكار الداعية لحفظ حقوق الشعب الفلسطيني بوصفها قضية تحرر وطني كما أوردنا، فقد تداعت تلك الدماء النازفة أقلام الكثيرين منهم ولم يكتفوا بالتصريح والتنديد فقط، إنما كانت قضية عالمية تبنوها في كتاباتهم، وصدعوا بها، وتوكلوا على دافع الإحساس بإنسانية عادلة هجرها العالم منذ عقود، وبوصف الأدب مرآة للواقع تصدرت القضية كتاباتهم في تلك القارة الثورية التي تعرضت لويلات الاستعمار من لحظة ولادتها، فإدوارد غاليانو الكاتب الأوروغوياني لم يكن مهتمًا بالقضية اهتمامًا خاصًّا كواحد من أبناء الشعب الفلسطيني، إلا أنه كاتب تجاوز حد الثرثرة للحديث عن قضايا عالمية عامة، يجعل الواحد منا محورًا لقضيته ويعود السبب في ذلك إلى كوننا كائنات بشرية، فهو كاتب قام بتحليل واقع قارته البكر من واقع التصفية العرقية التي تعرضت لها، والهيمنة السياسية الأوروبية في وقت قريب وما رافقها من احتلال اقتصادي أصابها بالشيخوخة برغم حداثة سنها، فأصبحت كتبه قطع ياقوت نادرة تهدى إلى قياصرة هذا العالم، فكتابه (أوردة أمريكا اللاتينية المفتوحة) أهداه الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما قبل سنوات قليلة معبرًا عن الروح ذاتها التي تحب هذه القارة في عالم جديد ينادي باشتراكية واحدة، تسعى إلى حرية الفرد دون منغصات التدخلات الخارجية، وأقام حدًّا للتبعية السياسية في الأنظمة الحاكمة واصفًا إياهم بصرافي العالم الكبار في كتابه المعانقات، ويستمر في رصد أحداث عالمه يراقبه من ثقب قفل، أو يحكي قصصًا عظيمة انطلاقًا من حكايات بسيطة، فقد عبر غير مرة عن قضية الإنسانية في فلسطين لأنه يؤمن أن الفن الحقيقي هو الذي يساعدنا على إعمال النظر وعلى فتح نوافذ جديدة أمامنا.
استطاع إدوارد غاليانو أن يكون حرًّا من القوالب الجاهزة، يتحدث عن الأمم المستباحة والناس الضعفاء، لأنه يريد للتاريخ أن يتنفس ولا يكون كالوردة التي تموت مخنوقة في ماء مزهرية، كما يظهر بثوب عامل إغاثة لمساعدة المقهورين ابتداء من الهنود الحمر الذين أبيدوا على يد المستعمرين الأوروبيين مع محاولات طمس هويتهم في حقهم على تلك الأرض، ووصولاً بالحرية والعدالة في القضية الفلسطينية التي اعتراها العالم أجمع بسياسات التخاذل والتهميش والمهادنة، ويكافح في كتاباته ليكون حارسًا أمينًا للذاكرة، ولا يملك قلبًا إن تعلق الموضوع بالمستعمرين المتسلطين على الضعفاء، أو إنه لا يجعل للصفح طريقًا إليه، لأن ممارسات الاحتلال واحدة وإن ظهرت بصور مختلفة.
في كتابه (أفواه الزمن) يجعل غاليانو للقضية الفلسطينية نصيبًا من كتاباته، يصف فيه المفارقة في إعلام يقوم على العولمة في تغذيته، ولا ينظر إلا إلى الأمور التي يود العالم أن يراها، ويرى أن الإرهاب قد وصل غايته واستفحل في الإعلام، ويصب جام غضبه على الذين ينظرون إلى العالم من ثقب الباب، حيث لا يتراءى لهم إلا ما يروقهم، فتحت عنوان (إعلام العولمة)، يكتب: «بعد شهور من سقوط البرجين قصفت إسرائيل جنين، مخيم اللاجئين الفلسطينيين هذا تحول إلى حفرة هائلة، ممتلئة بموتى تحت الأنقاض، حفرة جنين لها حجم حفرة برجي نيويورك نفسه، ولكن، كم من الناس رأوها، غير أولئك المتبقين على قيد الحياة الذين يقلبون الأنقاض بحثًا عن ذويهم ؟!»3، هكذا نرى الحضور الفكري لهذا الكاتب الذي يرفض أن يستقر في حدود السطور، ففي غمر من الماء تستطيع أن ترى العالم بأكمله، لذلك عد من أبرز الكتاب الذين ناهضوا العولمة وحذر من تسلط الأنظمة الليبرالية الحاقدة من خلال أسلحة السلعة والمال والقمح.
يُعد بعض النقاد أن كتب غالينو تمتد لتصل كل واحد منها للآخر، كما أنه يرى العالم بمنظور القضايا العادلة ومن زاوية الحريات ودحض التسلط والجبروت المتمثلة بالأنظمة الحاكمة المنقادة والاستعمار من خلال قلم جريء يمزج جرأته بالكوميديا السوداء بقوله: «النظام حكم على كثيرين بالتضور جوعًا بسبب غياب الخبز وعلى أكثر منهم بغياب المعانقات» 4، بالإضافة إلى أن مواقفه في القضايا السياسية والتاريخية والاقتصادية والإنسانية والاجتماعية التي تجسم مواقفه في التعبير عن ذاته، وينفرد بمعالجتها بأسلوبه الفريد وبقدر كبير من الجرأة والمواجهة، فشكل من قلمه نبضًا واعيًا تجاه ما يحدث في العالم من أحداث، منافحًا عن الإنسانية فوق كل أرض وتحت كل سماء.
تغريد
اكتب تعليقك