خط النجمة البيضاء في رواية الشوك يزهر للروائي هاري مارتينسونالباب: مقالات الكتاب
ضحى عبدالرؤوف المل بيروت |
نتجول في عوالم أنفسنا بحثًا عن الطفولة الغارقة في أحضان نفتقد فيها لطعم الحنان الأسري. هذا ما يحاول اختصاره الروائي " هاري مارتينسون" في روايته "الشوك يزهر"، التي ترجمها إلى العربية دكتور " أنطوان حمصي" ساعيًا لمنح الرواية لغة هي بمثابة جسر معنوي ينقل إلينا بنية النص الروائي المملوء بالصور التخيلية القادرة على توضيح أبعاد المضمون الروائي أو ما يرمي إليه "هاري مارتينسون" من أن للطفولة حقها في تكوين شخصية الإنسان، فهي التي ترسم له خطوط النهاية التي بدأ بها الحياة منذ صرخته الأولى. كما هي الحال مع "تزايد ارتفاع صراخ سفن الصغير" وفي المقابل الآخر صياغة للأضداد حبكها بفن روائي يميل إلى الانطباعات التي يكتشف من خلالها القارىء عالمه الطفولي بالتزامن مع مارتان الذي أصبح " أكثر هدوءًا وتيقظاً" حاملاً مع مارتان القلق الجديد الذي استسلم لمخاوف تسكن نبضه وأفكاره وروحه وكل وجوده.
يستنبش مارتان من ثنايا ذاكرته تفاصيل طفولة لم تكن سوى متاهة دكة يتكرر النوم عليها في أزمنة وأمكنة تركت أثرها في نفسه، ولم تترك أثرًا في نفوس الآخرين لأنه " عندما كان وحده كان يحمل معه شيئًا من الآخرين" فهل حاول " هاري مارتينسون" كتابة مذكراته الطفولية كربيب بلدية بأسلوب روائي، حيث إن الطفل الواعي في داخله تأثر بقوة فقدانه تيرًا، وفي لحظة سمع فيها كلامًا بصيغة الماضي؟..
أبعاد اجتماعية تناول فيها "هاري مارتينسون" جوانب حياة طفل تنقل من رعاية إلى رعاية بعد أن ولد في أسرة تعاني من الفقر، فالصدمات المتتالية في حياته لم تترك له حرية الاختيارات، لبيئة اجتماعية أحب العيش فيها، فالواقع المعيشي يتأزم تبعًا للتسلسل الروائي المحبوك اجتماعيًّا بقدرات روائي أظهر أسلوبًا واقعيًّا لم يخلو من بعض الصور السريالية، حيث مخيلة الطفل التي تخاف من الأوهام أو من التصورات التي تسبب إيجاد كائنات شبحية قد تزداد أو تنقص. لأنها تتعلق بطريقة معالجتها حيث تفهم الأخت هذه الحالة. ليكشف في الرواية هذا الجانب النفسي أو بالأحرى ما يدور داخل نفس الطفل من مخاوف وهواجس تزول بزوال غياب الحنان، الإحساس بالأمن حيث إن الأخت الكبرى كانت ترافق الرؤية الشبحية. لتقول له دائمًا هذه ستائر أو هذا صوتي، وفي هذا تحليلات منطقية مقنعة للقارىء، حيث لكل منا في مراحل طفولته هواجسه التي يحتفظ بها، والبعض ما زال يحمل فوبيا معينة من شىء ما، فالصورة السريالية تنقلت في فصول الرواية بأسلوب تفاعلي مرهف الإحساس، وكلمات تصويرية حبكها بفن جمع الواقع بالخيال والروائي بالطفل المتغلغل فيه، حيث "سجادات تعيش، أقمشة تتحول إلى أفاع. لم يكونا يعلمان أنه كان على أنيز أن تدافع عنه ضد التخيلات التي كانت تزحف قرب ساقيه لدى أدنى بقعة نور ترقص على الأرض."
تتجسد المفارقات منذ البداية حيث وفاة الأب المؤثرة، ومرض الأخت بالسل، وهروب الأم إلى كاليفورنا، ومن ثم رعاية البلدية له، وكل هذا حدث بعد سقوطه على غطاء تابوت أبوه، وكأن ما توقعه أهل البلدة بشأن هذه الحادثة كان بمثابة نذير شؤم قد حدث بالفعل. ليحيل الخرافات إلى حقائق قد تحدث في ذاكرة الطفل التي تلتقط أي حدث زمني وقع له في مكان ما بمثابة ومضة لا ينساها، بل، وكأن الذاكرة تعج بتفاصيل تحاصره في أمكنة متعددة انتقل منها وإليها في رواية رسم فيها "هاري مارتينسون" مشاهد فنية مؤثرة تخيليًّا "فبقي هذا المشهد والتصنع الأخرق الذي ميزه إحدى أشق الذكريات في حياته".
تحولات اجتماعية ومفاهيم موضوعية تعلمها في مدرسة الحياة القاسية، وفي بيت طفولة أحس فيه بالبرد بل! وحتى التشبيه للسرير البارد الذي يصعب بث الحرارة فيه، وهو يرمز إلى فقدان حضن الأم الدافئ في مرحلة يحتاجها كل طفل لينمو نموًّا سليمًا، وهنا وصف في كلمات تشتعل بحزن الأم، وهي تتوجه لبيت الخياطة بعد وفاة الوالد لخياطة ثياب الحداد فالأم كانت "تحميهم تحت السقوف السوداء الخمسة كما لو كانوا تحت جناحي غراب" وفي الوصف دلالات ايهامية توحي بالمعنى المتعلق بالأم حيث المظلة تشبه السقوف، والأم تضم كل هذا في رؤيته الغرائبية المقيدة بمشهد حزين في رواية تحليلية اجتماعية.
برصد "هاري مارتينسون" في سياقات بنية نصه الروائي، صدمات تكررت في أكثر من مشهد ارتبط بالصغير مارتان. المولود بين شقيقات اختلفت طبائعهن من حيث الحنان والرعاية له، وبين أم وأب لكل منهما سلبيات بدأت منذ معرفتهم الأولى ببعضهم، حيث المواقف العصبية التي كان يشعر بها أبوه، وهجرانه لزوجته، فهو لم يكتشف الحياة إلا عند اقتراب الموت منه، وهنا تكلم بلسان والده الذي لم يستسلم للموت إلا جالسًا على كرسيه "فاكتشافه الأخير: الإنسان وحيد وحتى لو عاش المرء في صحبة أو في أسرة، فإن قدره وحيد متجمد".
لغة سردية وصفية تتخللها شاعرية مزجها بمستويات تصويرية مختلفة. سعى من خلالها إلى تبسيط أفكاره من خلال التشبيه والمجاز، وحتى الرسم بالكلمات التي تمنح الذهن عصفًا مثيرًا للوجدان، حيث تتشبع حواس القارىء جماليًّا في تعابير هي بمثابة فضاءات تخيلية. تتوهج فيها المعاني المتحررة من قيود لغة ترجمها دكتور حمصي، وربما فقد فيها المعنى بعض الأجزاء من توهجاته. إلا أن كل ذلك لم يؤثر على الصياغة الروائية بل منحها مميزات مهمة من حيث التنوع في تركيب بنية النص الروائي، والحوارات الداخلية الغنية بتفاصيل اجتماعية وأسرية اعتمد فيها على تبسيط الحبكة. لتؤدي ليونة تخيلية قادرة على الإمساك بالقارىء المتوسط والقارىء الجيد على السواء " كانت دائرة النور تتحول إلى هالة واقعة على الأرض كعين سطحية وعذبة تتأمل السقف "ليثير تصويرات تطغى على روتين المفارقات التي سارت ضمن وضع اجتماعي نمطي لأسرة عكر صفوها الفقر والقدر المشاكس حتى لطفل لم يتجاوز سنته الثالثة.
أسلوب خاص يجذبك إلى عمق المضمون الروائي حيث العنصر الأساسي هو مارتان ، وكأنه يمارس لعبة الحياة على "طفل ظل طفلاً أكثر مما ينبغي" مستمدًا من النص الروائي تماسكه في تخيلات لم تمح تفاصيل واقع برز كمؤدب أو مهذب حتى لحواس طفولية، عاشت في أمكنة تسببت له بتلوث سمعي أعاد الزمن بعدها تهذيب أذنه تدريجيًّا، وشحذ انتباهه وأصبح أكثر عنادًا، فهل يتأثر الطفل في مراحله الأولى بكل ما يسمعه أو يراه، وحتى ما يلمسه ويتذوقه؟.فهو هنا سرعان ما اكتشف وهو يمشي بصورة غريبة "إن في الطفولة شيئًا مرنًا، إنها تستطيع أن تمتد إلى ما وراء حدودها الخاصة، وتشمل أيضًا أعمار الناس الأكبر سنًّا. وهنا إيحاءات بأن مارتان ستشمل مراحله الروائية كل تفاصيل عمره. ليمتد الزمن الروائي إلى ما بعد الروائية. لأننا هنا نستكمل نمو مارتان حتى يتكون كما في مراحل تنقلاته من مزرعة الى مزرعة.
رواية اجتماعية سردية حكائية تفتش في دهاليزها عن اجتماعيات تكتمل فيها كل عناصر الحياة، وعن كل ما هو مخبوء في خلايا الحياة التي عايشها طفل لم تكتمل فيه ملامح الرجولة، فنسيج الرواية هو بمثابة مساحة زمنية افترشها "هاري مارتينسون" وترك أبطاله يعيشون عليها الواقع الروائي المتخيل، والمستمد من تفاصيل طفولية "كان هو نفسه بين الحياة والحياة، وبين الولادة والنضج في نصف حياة الطفولة الممنوع "قبل أن ينتزع في آخر الرواية ما لم يرغب في سماعه كي لا يستبقيه في سمع تلوث أكثر من مرة، فهل عاشت هذه الرواية خارج الزمن أم إنها " تمثل الدراما الخاصة بها في مجرى الزمن".
تغريد
اكتب تعليقك