الأدب وقضايا المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرينالباب: مقالات الكتاب
د. نسمة سيف الإسلام سعد جامعة القاهرة |
شهدت مناهج البحث التاريخي تطورًا كبيرًا منذ أواخر القرن العشرين فأمكن استخدام الأدب بصفته مصدرًا تاريخيًّا، فيمكن بذلك تفسير تاريخ مصر من خلال مضامين القصص الروايات عن طريق استخدام منهج حديث لقراءة التاريخ من خلال الأعمال الأدبية بوصفه تفسيرًا أدبيًّا للتاريخ.
تعد الحالة الاجتماعية لكل أمة نتاج أسباب متعاقبة وظروف متنوعة، أوصلتها إلى ما هي عليه. وهي في الغالب نتيجة لأسباب سياسية واقتصادية وتعليمية، تلك الأسباب مجتمعة تكون ما عليه الأمة من بيئة اجتماعية، والأعمال الأدبية سواء الروائية منها أو التي تم تحويلها إلى أفلام سينمائية، تعد محاكاة للتطورات التي يمر بها المجتمع فهي تناقش وتحلل الظروف التي يمر بها المجتمع من خلال طرح مشكلات التي يمر بها المجتمع في الأعمال الأدبية المتنوعة، بالإضافة إلى إنها تمكن الإنسان من ربط ظلال الماضي بالحاضر، باعتبار أن السلوك الإنساني متشابه، وكأنما التاريخ بمثابة عملية تتكرر، ونجد أن خلال النصف الأول من القرن العشرين قد ظهرت العديد من الروايات الواقعية التي ناقشت مشكلات المجتمع المصري في تلك المدة.
وستناقش هذه الدراسة معالجة الأعمال الأدبية وعلي رأسها الروائية لمشكلات المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى رأسها الاحتلال البريطاني والأزمات الاجتماعية والاقتصادية.
تُعد السنوات التي أعقبت الثورة المصرية عام 1919 فترة تقدم وتطور، فقد استطاعت الروح المصرية تحقيق تطورات في مختلف المجلات السياسية، وعلى رأسها الحراك السياسي عقب الثورة وصدور الدستور المصري عام 1923 والحراك الاقتصادي وبداية الدعوة لإنشاء بنك مصر، ولم يقتصر التطور عند هذا الجانب فحسب، فقد شهدت مصر تطورات كبيرة في مجال الفكر والثقافة فقد امتد صداها إلي مجال الأدب، فعلى سبيل المثال نجد أن المنفلوطي قد قام بإهداء رواية "في سبيل التاج" الصادرة في أول يونيو 1920 التي تدور أحداثها عن الثورة في البلقان إلى سعد زغلول باشا.
الأدب و ومجتمع المدينة:
وتـأتي روايات نجيب محفوظ على رأس الأعمال الأدبية التي اهتمت بمناقشة أوضاع المجتمع المصري في مراحل تاريخية مختلفة فقد بدأ نجيب محفوظ أعماله الروائية من الحقبة الفرعونية برواية "عبث الأقدار" عام 1934 و"رادوبيس" عام 1943 ثم "كفاح طيبة" عام 1944، وكان لهذه البداية أكثر من تفسير منها إنه أراد تذكير المصريين بماضيهم المجيد، وفي رواية "كفاح طيبة" نجد أنه يحلل ظروف المجتمع المصري من حيث الاحتلال البريطاني وفساد السلطة السياسية من خلال حقبة احتلال الهكسوس لمصر وفساد السلطة في ذلك الوقت، فإحالة أسئلة الحاضر السياسية إلى زمن قديم منهج ثابت في كتابات نجيب محفوظ استعمله في الفترة الناصرية حين كتب رواية "أولاد حارتنا" في مدة حكم الرئيس جمال عبد الناصر وعاد إليه في رواية "الحرافيش" التي ألفها في مدة الرئيس السادات. ثم نجد بعد ذلك الأعمال الاجتماعية التي ناقشت أوضاع المجتمع المصري قبل الثورة المصرية عام 1952 والتي بدأها برواية "القاهرة الجديدة" التي صدرت عام 1945 وحللت أنماط مختلفة من المجتمع المصري في حقبة مطلع ثلاثينيات القرن العشرين.
تُعد رواية "الثلاثية" التي تتألف كما يوحي عنوانها من ثلاثة أجزاء هي "بين القصرين" ، "قصر الشوق" ، "السكرية" بمثابة دراسة روائية لأحوال المجتمع المصري منذ الثورة المصرية عام 1919 فهي قراءة لأحوال مصر بين حربين عالميتين ورصد لتطور المجتمع والمدينة المصرية من خلال الأسرة انطلاقًا لأوضاع المجتمع المصري وآثار الاحتلال البريطاني، في تتابع شبه وثائقي يربط بين الواقعة ويعطف عليها وقائع لاحقة، مما جعلها تتحول إلى عمل تاريخي، فقد قام نجيب محفوظ بعرض الحدث والآثار المترتبة عليه، فضلاً عن قيامه بالربط بين الأوضاع الشعبية والرسمية والسياسية والثقافية للمجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين.
الأدب ومجتمع الريف:
وعلى صعيد آخر نجد إن كانت أعمال نجيب محفوظ قامت بتحليل أوضاع المدينة المصرية من كافة جوانبها، فإننا نجد أن هناك أعمالاً أدبية أخرى قامت برصد وتحليل أوضاع الريف المصري في تلك الحقبة من بينها رواية توفيق الحكيم "يوميات نائب في الأرياف"، التي كانت تعبر عن واقع الريف المصري بين عامي 1929 و 1931 إبان الأزمة الاقتصادية التي سادت العالم آنذاك و آثار سياسات الحكومات المصرية على المجتمع المصري عامة والريف بصفة خاصة، ومن خلال الرواية يمكننا التعرف على صورة الجريمة في الريف فهي تطلعنا على المهمة الرئيسية لمعاون النيابة الذي من خلال التقارير التي يقوم بكتابتها حول الجرائم نتعرف على وصف الملابس للضحايا والمجرمين والمستوى الاجتماعي لكليهما، فضلاً عن دوافع الجرائم، وفي المقابل من خلال يوميات النائب نتعرف على أنواع القضاة، الذين يحكمون في القضايا سواء القاضي المقيم في القرية مع الوصف لأحوال حياته أو القاضي المقيم في المدينة ويستعرض رحلته من المدينة إلى القرية.
وعلى الرغم من بعض النقاد اعتبروا أن توفيق الحكيم في الرواية ينظر إلى القرية المصرية بعين السائح الذي يشعر بالإشفاق لما يصادف، ويرى إلا أن البعض رأى أنها كانت من الأمور التي لفتت نظر المسئولين في مصر لإنشاء وزارة الشئون الاجتماعية في مطلع الأربعينيات من القرن العشرين.
وأما رواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي فتأتي قيمتها الأهم إنها خرجت من إطار الموضوعات التاريخية القديمة، وارتبطت بهموم الطبقات الأدنى، فصورت صراع الفلاحين ضد طبقة كبار الملاك والاقطاعيين في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، فرواية "الأرض" تتحدث عن أثر الأزمة السياسية عام 1930 التي حدثت نتيجة قيام حكومة إسماعيل صدقي بإسقاط دستور 1923 الذي جاء كأحد ثمار الثورة المصرية عام 1919 وإقرار دستور جديد عام 1930 يعطي الملك سلطات وصلاحيات كبرى ونتائج ذلك على الريف المصري في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وتطلعنا الرواية على أنه كان يهدد الأرض خطران: الأول تقسيط مياه الري، وهو ما كان يعني جفاف الأرض، فموتها، والخطر الثاني شق السكة الزراعية، وهو ما يعني القضاء على الكثير من الزراعات، فالأرض هي البطل الرئيسي في رواية عبدالرحمن الشرقاوي، هي المحور الذي تدور حوله مشكلات الشخصيات وتصرفاتهم وطموحاتهم، والركيزة الأساسية في الرواية هي الصراع بين طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية، وطبقة صغار الملاك، فالحكومة تنصر طبقة كبار الملاك في مواعيد ري الأرض، وفي مد السكة الزراعية بينما يعاني صغار الملاك من فقد كل شيء، مما جعل الرواية صورة عن حياة الريف المصري وأثار الأوضاع الاقتصادية والسياسية علي أوضاعه في تلك الحقبة.
والجدير بالذكر أن رواية "يوميات نائب في الأرياف" ورواية "الأرض" قد تم تحويلهما إلى أفلام سينمائية.
السينما والمجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين:
التاريخ في أبسط معانيه، دراسة ماضي البشرية فالمؤرخون يدرسون وثائق أحداث الماضي، ويعدون سجلات جديدة لهذه الأحداث قائمة على جهودهم في البحث، ويطلق عليها وثائق وسجلات، وباعتبار السينما صورة للمجتمع، فهي تحاول في الكثير من أحوالها، استجلاب المجتمعات الإنسانية القديمة، من خلال قصص جذابة، ليس الهدف منها فقط، التعرف على كيفية أساليب الحياة في الماضي، بل أيضًا للتأكيد على ما كان يحدث في أي زمن، إنما هو يتكرر الآن، فالسمات البشرية ملتصقة بالإنسان منذ بدء الخليقة، ومن هنا تأتي أهمية فن السينما فهي فن قصصي مصور.
تعد السينما أهم عناصر الحركة الفنية التي تناقش قضايا المجتمع وتساهم في وضع حلول من خلال قصص واقعية يضاف لها عنصر الجذب للفت أنظار المشاهدين وصناع القرارات للمشكلات الموجودة في المجتمع، ومن أهم الأفلام التي أعطت صورة عن المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين فيلم "اليوم السادس" وفيلم "السقا مات".
فقد ناقشت السينما في بعض أفلامها أحوال المجتمع في أثناء انتشار الأوبئة والأمراض ومن هذه الأفلام فيلم "اليوم السادس" المأخوذ عن رواية مكتوبة باللغة الفرنسية للكاتبة المصرية "أندريه شديد" وإخراج يوسف شاهين وبطولة "داليدا"، وتم عرضه في دور العرض عام 1986، ويعد الفيلم تأريخ لفترة انتشار الكوليرا عام 1947م وتبدو فيه البلاد كمدينة مغلفة بالمرض والضباب في الحارات الشعبية.
ويدور الفيلم حول سيدة كبيرة في السن تعيش مع زوجها القعيد وحفيدها الصغير في بدروم صغير، وعندما ضرب الوباء البلاد رصدت البلاد سبعة جنيهات لكل من يبلغ عن مريض لكي تسحبه بعيدًا في الصحراء إن أمكن وتحرق جثته في حال الوفاة لذا فعلى أهل المريض أن ينتظروا ستة أيام وفي اليوم السادس يفقدون الأمل ويتأكدون من وفاته، وفي تلك الظروف تعيش بطلة الفيلم إلى أن يصاب مدرس حفيدها بالمرض ويتم القبض عليه فتحدث أزمة نفسية للطفل ثم يصاب بالمرض، فلم تجد الجدة في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها فضلاً عن ما هو موروث من عدم الثقة في الطب الحكومي إلا أن تهرب مع حفيدها فوق مركب صغير إلى الدلتا لاعتقادها أن وصول الصغير إلى البحر وتعرضه للهواء النقي سيسهم في شفائه.
ويعد فيلم "السقا مات " المأخوذ عن رواية للأديب يوسف السباعي وإخراج صلاح أبو سيف وبطولة فريد شوقي وعزت العلايلي وتم عرضه في دور السينما عام 1977 تجسيدًا لأحوال الحارة المصرية في أعقاب الثورة المصرية عام 1919 وبالتحديد عام 1921 وتدور أحداث الفيلم في قاع المجتمع، من خلال شخصيات صغيرة هامشية وعلى الرغم من أن الفيلم يناقش سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الحارة المصرية في أثناء تلك الحقبة إلا أنه يعطينا صورة عن أثر الأوضاع السياسية في تلك المدة والكفاح ضد الاحتلال البريطاني بأبسط الوسائل ومنها كتابة عبارات معادية للاحتلال البريطاني على جدران الحارة مثل "الانجليز أعداء الأمة " "يعيش سعد زغلول زعيم الأمة"، وذلك من خلال فكرة فلسفية إلى حد ما وهي أثر الموت في حياة الإنسان من خلال العلاقة بين ساقي الحارة الذي فقد زوجته وفقد معها الأمل في الحياة وعامل الجنازات ومنها نرى صورة كاملة للحارة المصرية في تلك الحقبة.
ومما سبق يتضح أن العلاقة بين الأدب والمجتمع والتاريخ علاقة تكاملية وثيقة فالأدب يعكس أوضاع المجتمع والتاريخ بصفته سجل حياة الإنسان اليومية فإن المؤرخين يستعينوا بالأدب لتحليل أوضاع المجتمع من خلاله بصفته إحدى السجلات التاريخية التي تعطي صورة كاملة عن المجتمع.
تغريد
اكتب تعليقك