«مشيناها... حكاية ذات» سيرة ذاتية سعودية
المحرر الثقافي:
الكتاب: "مشيناها... حكاية ذات"
المؤلف: د. عبدالرّحمن الصّالح الشّبيلي
عدد الصفحات: 447 صفحة
صدرت حديثًا سيرة ذاتية سعودية، لها نكهة خاصّة، عنوانها: "مشيناها... حكاية ذات"، تأليف: د. عبدالرّحمن الصّالح الشّبيلي، ويتكون الكتاب من مقدّمة، ثمّ ثمانية أقسام، وبعدها كشّاف عام فملحق صور، وتعريف مختصر بالمؤلف.
حاول الشبيلي خلال فقراتها تصوير مرابع النشأة، كما عاشها، وبضعة شواهد واقعية عاصرها في الصغر، ومؤثرات تركت بصمتها في تكوين جيله، وعلامات من بيئة الحياة المعاصرة في وسط الجزيرة العربية تزامنت مع اكتشاف النفط وتصديره، مما أدرك كهول الجيل بعضه، كما أنه خص الجانبين الإعلامي والثقافي في مسيرته بالحجم الذي يناسب مقرؤيتهما المأمولة.
التّوثيق عمل ماتع ينقل المرء من صخب الوظيفة إلى حياة ذهنيّة منتجة كما قال الكاتب في المقدّمة، وأشار إلى أنّه قضى سنة ونصف وهو يدّون هذه الذّكريات ابتداء من رمضان عام 1438 هـ، وحرص على ألّا يقلّد أحدًا في سرديته، فالتّفرد سمة جميلة تستحق العناء، فجاء كتابه من طراز مختلف بين الرّواية والسّيرة حسب "أحمد بن عبد المحسن العسَّاف".
وحرص على السّلاسة والبعد عن الجفاف والهوامش، وذكر فيها أسماء أناس كثر ممن عاصر وزامل، وهو صنيع حسن مع أنّ نسيان البعض محرج، وباح الشّبيلي بالممكن من مكنون الصّدر، وطوى غيره في صندوق الكتمان، واسترسل مع خواطره محاولًا التّعبير عن ذاته، ولديّ أمل بأن يتجاسر على إخراج كثير من المكنون ففيه جواهر، وأخبار، وآراء.
ونلمح من خلال حكاية ذات مشاها الشّبيلي أنّه جعل من التّقاعد مرحلة تنافس ما قبلها، وهذا المعنى قد يغيب عن المتقاعدين؛ فلكلّ مرحلة أهدافها وما يناسبها. وفي كتابه تركيز على الجانب الإعلامي والثّقافي مع إعطاء حقبتي التّعليم والشّورى حقهما، مع الإشارة إلى الأعمال التّطوعيّة، وعضويّات المجالس، وكم هو مبارك ذلكم الإنسان الذي ينفع حيثما حل.
وبطبيعة الحال أسهب في وصف مراحل النّشأة والتّكوين، وجعلنا نستنشق عبق المكان في عنيزة الآسرة، ونعيش معه ذكريات الوالدين والإخوة، وليته استطاع الحصول على شهادة نفيسة من والدته الكريمة فاطمة كما فعل الأمير د. سيف الإسلام بن سعود مع أمه بطلة روايته الماتعة "قلب من بنقلان"، وذلك لتشابه أحوال الوالدتين في القدوم إلى المملكة، وإن جاءت واحدة من الشّاطئ الشّرقي للخليج، والأخرى من أقاصي تركيا.
ومع أنّ والدته قدمت لعنيزة من بيئة اسطنبوليّة مختلفة، إلّا أنّها استطاعت الاندماج مع عنيزة في لهجتها وعاداتها، ومطبخها وأنواع تمورها، بل وفي أنساب الأسرة ومصاهراتها، حتى حفظت رثاء زوجها لقرينته الأولى التي توفيت سنة الرّحمة عام 1337هـ بقصيدة تقع في نحو مئة بيت، ومع أنّ زواجها بوالد المؤلف كان في عام 1345هـ، إلّا أنّ القصيدة تثير غيرتها، فيتمازح الأبوان بشأنها، ويعد الوالد زوجته بمرثية مثلها إن سبقته! والتّمازج بين فاطمة وعنيزة فضيلة تحسب لهما.
وفي الكتاب موافقات لطيفة وحزينة، وحكايات طريفة، منها إثبات يوم ولادة د. عبدالرّحمن بالضّبط من إكمال والدته صيام أيام السّت من شوال، وتحديد سنة ميلاده بدقة من تجديد جامع عنيزة عام 1363هـ، ويتوافق يوم مولده مع اليوم الوطني للمملكة في الثّالث والعشرين من سبتمبر عام 1944م. ومن حزينها تشارك نجل المؤلف مع نجل د. ناصر السّلوم في كثير من شؤون المحيا والممات، إضافة إلى فواجع أخرى رواها المؤلف.
من الموافقات بناء مطار القصيم في منطقة المليدا التي شهدت معركة تاريخيّة لا تنسى عام 1308هـ، وادعاء تحية كاريوكا أنّ أصول عائلتها ترجع إلى عنيزة، ومنها أنّ أبرز مذيع في الحقبة النّاصريّة خفت صوته في الخامس من يونيو سنة ١٩٦٧م بعد انكشاف كذب جهازه الإعلامي الفج، ومات في ذات التّاريخ عام 2018م! ولست أغفل عن معاناة صاحبنا من التّهم المعلّبة، فالصّيغة المكارثية جاهزة للإقصاء، وهو ما حدث مع أبي طلال حين وصم بالشّيوعية في أوج حربها محليًا، ووشى ببرامجه نافذون في وزارته فنُقل من الإعلام إلى التّعليم!
يبرز الكتاب اكتفاء عنيزة بالحرفيين من أهل البلد، ونشاط سوق المسوكف، وتطوع أهله لقراءة البريد وإيصاله، وخلع الضّروس وتجبير الكسور، وكتابة الوثائق والصّكوك، وإطراب العابرين بالقصيد والملح، فأصبح السّوق ملتقى اجتماعيًا، وناديًا للأخبار خاصّة من القادمين بالطّائرة من الرّياض وجدّة إلى مطار عنيزة المحلي القديم، الذي يعمل به موظف واحد؛ فيحجز التّذاكر، ويوجه الطّائرات للهبوط والإقلاع.
ونقل المؤلف شيئًا من مكانة الشّيخ السّعدي، وحفاوة الجميع به حتى الأطفال، وتباسط الشّيخ معهم، وهذا أمر غير معهود من بعض المشايخ، وللسّعدي مواقف جميلة منها المدّون والمروي، ومثله إمام يقتدى به، ومن جميل المشاهد أن يأتي قاضي البلدة للسّوق؛ فيقضي بين المتخاصمين وهو جالس على كيس قمح دون أن يستهلك أعمارهم بذهاب وإياب، وفي سياق ذكريات الطّفولة، يأسف الشّبيلي على هدم التّراث العمراني القديم أو إهماله، ولو أدركته العناية الّلائقة لغدا مزارًا وتذكارًا.
ولم يهمل د. عبدالرّحمن العمل التّطوعي في عنيزة، وأشار إلى لجنة الأهالي، وهي عمل تطوعي مبكر، ومن إنجازاته إصلاح بعض الطّرق، ومتابعة تبرع الوزير عبدالله السّليمان الحمدان بمشروع سقيا الماء، وغير ذلك، وهذا الاهتمام المبكر يفسّر لنا بروز أهل عنيزة في مجال الأعمال المجتمعيّة والخيريّة والتّطوعيّة.
وللمرأة مكان في ممشى الشّبيلي، حيث ذكر أسماء نساء من عنيزة تزوجهن الملك عبدالعزيز، والملك سعود، وهنّ من كبار عوائل البلدة، كما أشاد بخمس عشرة معلّمة من نساء عنيزة صيرن بيوتهنّ كتاتيب لتعليم الفتيات قبل بداية التّعليم النّظامي، ومن الطّبيعي أن يكثر الحديث عن المرأة في سيرة رجل عاش قسمًا من عمره في عالم الإعلام والثّقافة.
ويعترف أبو طلال أنّ الشّروع في تدوين سيرته فتق ذاكرته حتى نفضت الغبار عن مخزونها، فاستحثاث الذّهن ينتج إبداعًا لا يتصوّر قبل رؤيته، وأبدى ندمه على تأخر اهتمامه بالتّوثيق؛ حتى ضاعت عليه مرويات كثيرة؛ خاصّة رحلة والده للهند، وغيرها، وكأنّ المؤلف ينادي غيره أن أدركوا كباركم، وخذوا منهم الأخبار شفاهة واحفظوها.
يتميز المؤلف بجديّة وانضباط وقيم راسخة تحاشى التّصريح بها تواضعًا، حيث درس في أكثر من نظام تعليمي، والتحق بجامعتين في زمن واحد، وتعلّم الّلغة الإنجليزية والطّباعة، ولم يكن له حظ من الرّياضة أو السّياسة أو لعبة البلوت، ومن فضل الله عليه أنّه لم يتورط بالتّدخين، ولم ينغمس في دهاليز اشتهر بها بعض الإعلاميين، بل واستنقذ نفسه من هذا المحيط سعيًا لتطوير ذاته، وتثقيف نفسه، غير آبه بالنّجومية، أو متشبث بفتنة الظّهور، والحقيقة التي أبانتها حكمته العمليّة هذه هي أنّ أعظم مكسب يحوزه المرء هو أن يرضى عن نفسه ويرضيها، ويسعى في تزكيتها وتبصيرها، فما أثقل أن يشار لإنسان بالبنان وهو من الدّاخل خواء.
وكان تخرجه في كلية الّلغة العربيّة سلّمًا إلى عالم الإذاعة ثمّ الإعلام المرئي والمكتوب، وإليه يعود فضل إضافة الدّعاء المأثور عقب نقل الآذان، وتولى مهمّة تسجيل خطاب العرش بعد العصر في قصر الملك فيصل بالمعذر في 27 من شهر جمادى الآخرة سنة 1384هـ بحضور الأمير سلطان، والشّيخ محمّد النّويصر، ود. رشاد فرعون، ود. كنعان الخطيب، ثمّ طار إلى جدّة لإذاعته ليلًا مع نشرة الأخبار.
أسهب أبو طلال في ذكرياته الإعلاميّة وطرائفها ومواقفها الحرجة، ومن الّلافت أنّ الوزيرين الشّيخ جميل الحجيلان وخلفه الشّيخ إبراهيم العنقري هما أكثر شخصين ذكرا بالاسم في الكتاب مع الملك فيصل، وللشّيخ جميل سيرة ذاتية منتظرة. وأورد المؤلف شهادته على بداية البث التّلفزيوني وما صاحبه من تحديات، وأنصف الأمير خالد بن مساعد، وبرأه من تهمة مهاجمة مبنى التّلفزيون أو قيادة مظاهرة باتجاهه كما يشاع، وأبان عن تعاون السّفارة الأمريكية في تشغيل التّلفزيون من خلال إبرام عقود لشركات أمريكية.
ولم يغب عن راوي الذكريات ما كان يتوقعه القارئ أن يبوح به من أحداث وتفاصيل مهمة، حيث يوضح بأن "من حق القارئ أن يتوقع من راوي هذه الذكريات، التي عاش طرفاً منها، كظرف انتقال الحكم من الملك سعود إلى الملك فيصل عام 1964، وتجاذبات الإعلام مع مصر إثر مشكلة اليمن عام 1962، وتداعيات الحرب العربية - الإسرائيلية عام 1967، واستشهاد الملك فيصل عام 1975، وتأثير دخول الإذاعة والتلفزيون في مجتمع متنوع الأطياف بين المحافظة والانفتاح، وتشخيص ظاهرة ضعف الاحتراف الإعلامي، ونمو مؤسسات الإعلام الأهلية، وبروز الإعلام الجديد، واقتران الثقافة مع الإعلام في وزارة واحدة، ثم انفصالهما"، مؤملاً أن تكون هذه الموضوعات التحليلية وغيرها في مجالي التعليم العالي والشورى موضوع إصدار آخر.
وأخيرًا، أعرب الشبيلي عن أمله في أن تؤدي هذه الذكريات غرضها، دون مغالاة أو ترميم، وأن يجد النشء في مضمونها فائدة مضافة، معتذرًا لكل ذي علاقة للصراحة التي ظهرت عليها بعض حكاياته، فقد تكون جارحة أو خاطئة.
تغريد
اكتب تعليقك