«البحث عن القوة».. من هزيمة نابليون إلى الحرب العالمية الأولى

نشر بتاريخ: 2019-02-17

المحرر الثقافي:

الكتاب: "البحث عن القوة (السلطة - النفوذ): أوروبا 1815 – 1914"

المؤلف: ريتشارد ج. إيفانز

الناشر: مؤسسة بنغوين

عدد الصفحات: 928 صفحة، القطع المتوسط

عاش رديارد كبلنغ بين عامي 1865 و1936، ودخل قاموس التاريخ تحت مسمّى فادح السلبية وهو «شاعر الاستعمار»، وقد نشأ وعاش ردحاً طويلاً من العمر في أصقاع الهند، يوم كانت الهند خاضعة لبريطانيا.

حيث كانوا على مر عقود يطلقون على الهند وصف «الهند درّة التاج البريطاني»، ومن هنا ذاعت مقولة رديارد كبلنغ التي طالما رددها، ونفذها سدنة الاستعمار البريطاني وهي «ألا فاحكمي يا بريطانيا.. وسودي على سائر الأمم»، والسبب أن كانت بريطانيا سبّاقة، بشهادة التاريخ الحديث، إلى استعمار أراضي الشعوب واستغلال مواردها والسيطرة على سكانها.

والحق أنه لم تكن بريطانيا وحدها متفرّدة في هذا المسلك، وكانت قد بدأته مع إنشائها أول كيان مؤسسي ومنظم كمقدمة لتلك السيطرة الاستعمارية.

وكان ذلك تحديداً في 1600، الذي يؤرخون به ولادة «شركة الهند الشرقية» التي كانت بمثابة إرهاص للمد الاستعماري الأوروبي، الذي شمل مساحات شاسعة من المعمورة وخاصة من أقطار جنوب شرقي آسيا وحتى الأقطار الواقعة في شرقي شبه الجزيرة العربية.

هذه الظاهرة التي جسّدت حركة المد الاستعماري الأوروبي التي ظلت تستأثر باهتمامات المؤرخين والمحللين السياسيين، على مدى سنين طويلة، ومن هؤلاء الإنجليزي البروفيسور ريتشارد إيفانز، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة كامبردج البريطانية، الذي أصدر، أخيراً، كتابه «البحث عن القوة (السلطة - النفوذ): أوروبا 1815 ـ 1914».

ويلاحظ القارئ من الإطلالة الأولى على هذا العنوان، الذي يحمل في طياته معاني القوة والسلطة والنفوذ، أن المؤلف يعتمد أولاً عام 1815، بوصفه عام هزيمة نابليون بونابرت، وختام العصر البونابرتي، فيما يعتمد ثانياً عام 1914 الذي شهد، كما هو معروف اندلاع نيران الحرب العالمية الأولى.

وعلى مدار القرن الزمني الذي اعتمده المؤلف بين عامي 1815 و1914، فهو يسجل أولى ملاحظاته العلمية التي تفيد باتجاه القوى الأوروبية التي فرغت، ابتداء من حروب القائد الفرنسي نابليون بونابرت وهزيمته، إلى إنهاء مرحلة حالات الحرب داخل أوروبا.

ومن ثم توجيه الأفكار والسياسات والإمكانات، والأطماع أيضاً إلى خارج الحدود الأوروبية، نحو ساحات الشرق القريب والبعيد، تطلعاً إلى التوسع نحو مناطق النفوذ، وطمعاً في ثروات الأقطار والشعوب الشرقية.

الملاحظة الثانية، يرصد فيها المؤلف، تطور ظاهرة البحث عن النفوذ والثروة، لا من جانب جهود متناثرة كان يبذلها في الماضي أفراد مغامرون أو حتى جماعات تحركها التطلعات والأطماع، بل يتحدث عن تحول حالات مد النفوذ إلى عمليات منظمة وجهود مؤسسية، تقوم بها الحكومات الرسمية في أكثر من بلد أوروبي.

وقد كانت تصدر عن أهداف، مؤسسية بدورها، وصولاً إلى جني المكاسب وتضخيم الثروات وزيادة النفوذ السياسي والدبلوماسي لتلك الدول، ومنها ما كان يصدر عن شعارات الوطنية والقومية على نحو ما كان يتغنّى به شاعر الإمبراطورية رديارد كبلنغ، الذي كان يلقب بشاعر الاستعمار، كما ألمحنا إلى ذلك في البداية.

في السياق نفسه، يعترف المؤلف، كيف أن النزعة الإمبريالية الأوروبية، وجدت تعزيزاً لها بفضل ما استطاعت أوروبا أن تنجزه من أوجه التقدم العلمي.

وخاصة في مجالات الابتكار والاختراع سواء بتطوير وتحديث سبل النقل البحري، أو بتثوير وسائل الاتصال البرقي عند منتصف القرن التاسع عشر أو التواصل الهاتفي، ناهيك عن التوصل إلى طاقة الكهرباء، وصولاً إلى السيارة التي دخلت حياة الناس، وخاصة في أوروبا مع مطلع القرن العشرين.

وتتوقف طروحات المؤلف مليّاً عند إنجلترا بالذات، بقدر ما كانت رائدة في التصدي لأطماع نابليون بونابرت، ثم بقدر ريادتها أيضاً في كونها مصدراً لإبداعات تحققت في ميدان العلم أو في مجال السياسة، فضلاً عن كونها البلد الذي شهد إبداعات لا تزال حية في وجدان المثقفين، بقدر مسارعتها لكي تتصدر صفوف أوروبا التي تدفعها أطماعها،.

وقد تراوحت بين التماس النفوذ السياسي، وبين الطمع في موارد شعوب آسيا وأفريقيا، وهي الموارد التي كانت تتراوح بدورها بين التوابل والبهارات في الهند، إلى الذهب والماس في غرب أفريقيا، إلى النحاس ومحاصيل الأرض العالية في شرق القارة السمراء.

وعلى هذا النهج، يقدم الكتاب مادة متنوعة في أصولها ومتكاملة في صيغتها النهائية، تبرز اهتمام المؤلف بتقصّي بدايات ومآلات البحث الأوروبي عن السلطة، القوة، النفوذ والمكاسب أيضاً.

وهذه الأنسجة تتلاقى فيها مختلف الخيوط السياسية والدبلوماسية والاجتماعية والثقافية بل والهندسية والاقتصادية والعلمية، والتي ظلت بمثابة مشعل يضيء أمام رجل السياسة، وصانع القرار، جنبات الطريق، لترسخ فهم أكثر عمقاً وأوسع، لما يتجلى مع بدايات هذا القرن الواحد والعشرين من مخططات وتحركات سياسية واقتصادية، تصدر عن دول أوروبا وأميركا وروسيا.

وفي صورة إجمالية، نتبين أن الكتاب يسافر بنا إلى محطات تاريخية متنوعة، يبحث معها في الكثير من الخفايا والتفاصيل، ويركز على استنتاج الكثير من الخفايا التي توضح طموحات استعمارية كامنة، منذ البواكير، لدى دول كثيرة.. وهو في هذا التوجه يمثل دليلا معاصرا نفهم في ضوئه قضايا حاضرنا ونستشرف المستقبل.


عدد القراء: 4079

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-