«الأُش».. سردية تحول الخبز اليابس إلى أسطورة
المحرر الثقافي:
الكتاب: "الأُش"
المؤلف: مصطفى الأنصاري
الناشر: ذات السلاسل
يختزل "الأُش" في سرديته العابرة للقارات تحول الخبز اليابس إلى أسطورة خطّتها الأقدار في حياة البشرية، ويرتهن لها أثر جوهري في تحولات حياة قادة وشخصيات ودول.
يقارب مصطفى الأنصاري في كتابه "الأُش" الصادر من "ذات السلاسل" الكويتية بين خلفيته الصحافية وقراءاته الواسعة، موظفاً شواغله المتعددة في خلط عجين الخبز اليابس كنظرية شاملة للحياة تسندها أساطير خالدة وحكايا مؤثرة.
يرى الأنصاري أن قلة يرون "الخبز اليابس" جديراً بالاهتمام لكونه طعاماً أو شيئاً ذا بال في الوجود، غير أنه وجد مساحة في استعارات الأمثال وهوامش الأساطير وعناوين الكتب وأطباق الأطعمة، متناولاً في الفصل الأول أمثلة أسطورية تحاكي الواقع وتطل على كثبان الصحراء الكبرى حيث يتزاوج الإنس بالجن، وتتحول حرب النجوم إلى حقيقة.
يستعيد "الأُش" من الإرث الشعبي للطوارق أسطورة "تين تجلا" أو صاحبة الخبز وقصة "هنكالي" اللتين تحولهما الأمهات في الصحراء إلى نذير للنقمة والتحريض على التصدّق والترهيب من كفران النعمة.
ويتجه المؤلف عبر 13 فصلاً مرقمة بلا مسميات، إلى توظيف السرد في حياكة نظرية "الخبز اليابس" وتجدد أسطورته وتمثّلاتها، وأسئلتها المرتهنة لوقائع تحققها في مختلف الأماكن والبلدان.
يسوق الأنصاري أثر قوم الخبز اليابس في الإسلام، وارتهان نصرته إليهم كضعفاء، متوقفاً عند رهبة قريش منهم، ليستحضر انحياز التاريخ إلى أثر الرجل العادي وقدراته التي يستهين بها الكثيرون.
ولإبراز تمظهرات أسطورة "الأُش" يجسّر الأنصاري المسافة بين الصحراء الكبرى والجزيرة العربية عبر أسطورتَي "انفاهي" و"الهزاني"، كما يعبر إلى أفغانستان ومعارك المجاهدين الأفغان والعرب فيها ليسرد أثر الخباز الأفغاني بين رفاقه، إذ كان ينظر إليه باعتباره الأقل شأناً بين المجموعة، قبل أن يقتل فيظهر النقيض تماماً.
يعبر المؤلف إلى شوارع تونس حيث أتت النار على عجل من زاوية "الخبز اليابس" حيث لم يكن الخطر متوقعاً، لينتشر حريقها في الجسد العربي، ويتلوّن خبزها بالدم، محاكماً نظرة النخب في المجتمعات العربية إلى الخبز وتعاليهم عليه، عاقداً مقارنة مع نظرة البلدان المتقدمة إلى الخبز الذي يحظى فيها بالاحترام.
تستوقف الأنصاري تجربة أرخص بلدان العالم خبزاً حيث يرى السعوديون أن الخبز لا يمسّ حتى عند الاستغناء عنه، فتنتشر الحاويات التي تجمع الجاف منه عند المساجد وعلى الطرقات، منوهاً بتجربة بعض العائلات التي "على قد حالها" في جمعه وتحويله إلى وجبة شعبية يطلق عليها "قرقوش"، وذلك عبر طحن الخبز اليابس وإضافة التمر إليه وخلطه بالسمن البري أو الزيت، ليغدو ضمن أكل المناسبات المصاحبة للقهوة أو الحليب.
يحضر الخبز اليابس أو الأُش في عالم الحروب والفروسية والقتال، فقد نشبت حروب وأحداث لأسباب يُعتقد أنها خبز يابس لا يستحق الاهتمام، فلا يستبين الرأي حتى تخرج عن نطاق السيطرة كما يوثّق الأنصاري، معيداً سيرة حرب دامت 100 عام في الصحراء الكبرى بين قبيلتين.
ويعالج في فصوله الأخيرة دور الخبز اليابس في تحول شخصيات معاصرة بين الوظائف والأعمال حتى تحولهم إلى رجال ملء السمع والبصر في بلدانهم، كما حدث مع وزير النفط السعودي الأسبق علي النعيمي ووزير الإعلام الراحل محمد عبده يماني، وسامية العامودي وثريا عبيد وغيرهم من "بني الصفر"، كما يسميهم المبدع السعودي مفيد النويصر.
ويسجل الأنصاري أثر رجال "الأُش" في صحراء تنبكتو، وذلك حين أصر الشيخ عمر عبدالقادر على إنشاء مدرسة نظامية، ومضى مع قلة آمنوا بمشروعه كالشيخ محمد يحي على تخصيص كوخ لها، ما أثمر بعد حين انتماء خريجيها اليوم إلى معظم الجامعات المرموقة عربياً وإسلامياً وعالمياً.
ويرى الأنصاري أن قوام قبيلة "الخبز اليابس" يتمثل في العصاميين، سارداً جانباً من سيرة مغني فرقة "تيناريوين" الطارقية إبراهيم الحبيب أو "بريبون" كما يطلق عليه محبوه، مع استطراد في مواقف الملك عبدالعزيز في احتوائه لأعدائه وتعامله مع رجاله.
يختم الأُش فصوله بإبراز مقومات شخصية أفراد قبيلة "الخبز اليابس" عبر أسطورة "تين إسبر" صاحبة الزربية (السجادة) التي سبقت أثرياء للحج بثمن زربيتها، وقصة الوجيه الذي سعى قديماً إلى بيع رقيق تنبكتو في المدينة، وصولاً إلى قصة السوداني عبد الله الذي وقع ابنه ضحية قاتل سلبه أمواله في السعودية، وأخيراً الباكستاني علي أكبر أشهر بائع جرائد في باريس.
يحكي "الأُش" سيرة الإنسان العادي الذي يقود التحولات الكبرى من دون أن يقيم له الآخرون وزناً، فيما تتعالى صرخات أساطيره للمناداة بحق الإنسان في وجوده وامتلاك حريته وتأدية دوره حيثما أوجدته الأقدار.
تغريد
اكتب تعليقك