تغير العقل: كيف تترك التكنولوجيا الرقمية تأثيراتها على عقولنا؟
المحرر الثقافي:
الكتاب: "تغير العقل: كيف تترك التكنولوجيا الرقمية تأثيراتها على عقولنا؟"
المؤلف: سوزان جرينفيلد
الناشر: Random House
تاريخ النشر: 2014
عدد الصفحات: 368 صفحة
إذا كانت الثورة الصناعية الأولى وفرت للإنسان وسائط نقل جديدة مثل القطار والسيارة، وأدت إلى إضعاف القدرات البشرية الجسدية والحركية؛ فإن ما يحدث اليوم نتيجة لثورة تكنولوجيا المعلومات ربما أشد خطورة، لأنه قد يحرم البشر من القدرة على التركيز والتفكير، فمن المعروف أن العقل البشري يتآلف ويتلاءم مع البيئة المحيطة به، وبما أن البيئة التي نعيشها اليوم في تغير غير مسبوق، فإن العقل البشري يتعرض يومياً لتغيرات غير مسبوقة.
من هذا المنطلق أُجريت خلال السنوات الأخيرة دراسات عدة حول تأثير التكنولوجيا الحديثة، خاصة شبكة الإنترنت، على العقل البشري، حيث يُعد هذا التأثير مسألة مهمة في ظل تعاظم قدرة البحث عن المعلومات وتلقي كم هائل منها ومعالجتها عن طريق محركات البحث في الإنترنت. كما أصبح متاحًا القيام بعدة مهام في آن واحد باستخدام الكمبيوتر والأجهزة الذكية، مثل (كتابة وصياغة نصوص، وإجراء حوارات عبر الشات في فيسبوك، وتبادل الرسائل عبر الإيميل، وقراءة آخر الأخبار في تويتر)، لكن في الوقت نفسه تُفقد هذه التكنولوجيا معظم قدراتنا على الانتباه والتحليل المعمق، وربما لن يكون بوسع مستخدميها الرغبة في قراءة الكتب الجادة وتأمل محتواها.
في هذا الإطار نشرت الأستاذة في جامعة أوكسفورد، سوزان جرينفيلد Susan Greenfield كتابها الجديد المعنون: “تغير العقل: كيف تترك التكنولوجيا الرقمية تأثيراتها على عقولنا؟”، حيث تدخل “جرينفيلد” بهذا الكتاب مجالاً جديدًا هو تأثير التكنولوجيا على التفكير.
وتتطرق الكاتبة، التي لديها خبرة متميزة في مجال التكنولوجيا وآثارها الاجتماعية، إلى جميع أنواع التكنولوجيا التي تحيط بنا حاليًا، والتي نحصل منها على المعلومات مباشرة، ونخسر بسببها خصوصيتنا بشكل سريع، حيث سبق أن حذرت “جرينفيلد” منذ سنوات من خطورة الكمبيوتر والإنترنت بعدما انتقلت من المكاتب إلى غرف المعيشة وجيوب الأفراد، بل وتجاوزت حياة الناس الشخصية.
من وجهة نظر الكاتبة، تعمل هذه التكنولوجيا على خلق بيئة جديدة لها تداعيات كثيرة ومهمة على كل ما يحيط بها، لأن عقولنا تتأقلم بشكل حسي ويعاد ترتيب “خلاياه” بشكل جديد أو ضمور بعضها، ومن ثم تتساءل “جرينفيلد” كيف نستطيع أن نسخر هذا الوسط التكنولوجي الجديد لخلق بدائل أفضل لمستقبلنا وحياة ذات معنى، قبل أن نتحول إلى عبيد تسخرنا التكنولوجيا لخدمتها؟
ويتضمن الكتاب 20 فصلاً رئيسيًا تدور أبرزها حول النقاط التالية: (تأثير الشبكات الاجتماعية على الهوية والعلاقات الاجتماعية، وتأثير ألعاب الفيديو على التركيز والإدمان والعنف، وتأثير محركات البحث على التعلم والذاكرة).
تأثير شبكات التواصل الاجتماعي على الهوية
يشير الكتاب إلى أن شبكات التواصل الاجتماعي، وإن كان لديها القدرة على تعزيز صداقات حقيقية، بيد أنها يمكن أن تكون أيضًا ساحة تعج بالإساءة. بالإضافة إلى أن كل ساعة يقضيها مستخدمو هذه الشبكات في كتابة أو قراءة أشياء غير مهمة تكون على حساب وقت ضائع لديهم لممارسة رياضة أو قراءة كتاب، ومن ثم تعتقد الكاتبة أن جيل “يوتيوب” مهتم أكثر بالتعبير عن نفسه أكثر من الاهتمام بمعرفة العالم.
وتبرز “جرينفيلد” في كتابها الجزء الذي يربط بين الإنترنت والهوية، معتبرةً أنه بسبب الشبكات الاجتماعية صارت الهوية غير التي يعرفها الناس مباشرة، فلم يعد البشر يعرفون شخصًا ما كالجار مثلاً معرفة وثيقة، وصارت المعرفة إلكترونية، فحسب تقسيمات فيسبوك: ما هوايتك؟ وما الأفلام التي تفضلها؟ وما الموسيقى التي تحبها؟ لكن لن تجد شيئًا عن “الذات الحقيقية” مثل “الضحكة” و”حركات العينين” وغير ذلك من الصفات الشخصية.
في ظل شبكات التواصل الاجتماعي، أضحت الهوية “مثالية مبالغاً فيها”، حيث يتصرف شباب “الثقافة الرقمية” بشكل مختلف على فيسبوك وتويتر وغيرهما من الشبكات الاجتماعية، ويحرصون على الظهور بصيغة أفضل تبدو مثالية وكأنهم أشخاص في الفضاء الرقمي مختلفين عن الحياة الواقعية تمامًا؛ وهو ما دفع الكاتبة إلى التساؤل: “لماذا لا يسألنا موقع فيسبوك عن سلبياتنا”؟
وهكذا تحذر “جرينفيلد” من أن الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي، امتصت مستخدميها فيما أسمته “فاكس رقمي مقلق”، لتحرق ذكرياتهم، وتضعف مهارات التواصل الاجتماعي، وتزيد من الوحدة، وظواهر الغيرة لديهم، وتتلف بشكل عام عقولهم.
ولطالما أبدت “جرينفليد” مثل هذه التحذيرات من الآثار السلبية للتكنولوجيا، حيث سبق أن ألقت خطابًا منذ سنوات أمام مجلس اللوردات البريطاني، قالت فيه نصًا: “أعتقد أنه سيكون لشبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك بالغ الأثر على الأنظمة الدماغية، فهي ستؤدي بعقل الإنسان بحلول منتصف القرن الحالي إلى أن يصبح طفوليًا تمامًا، وعُرضة إلى الوقوع في متاهات السهو وعدم القدرة على التركيز والحس المهزوز بالهوية”.
تأثير ألعاب الفيديو على التركيز والعنف
ترى “جرينفيلد” أن ألعاب الفيديو يمكن أن تقوي مهارات لها صلة بالانتباه وسرعة الحركة والتركيز على الهدف، لكن قضاء وقت مستمر وطويل في ممارسة هذه الألعاب يقلل من القدرة على الانتباه المستمر. بمعنى آخر كلما زاد التواصل مع “الثقافة الرقمية”، ومنها ألعاب الفيديو، كلما زاد الإحساس بالعزلة مع زيادة الإدمان على هذه الثقافة، ومع هذه التغيرات تبدأ التغيرات العقلية، فيقل التركيز العقلي وتنخفض درجة وفترة الانتباه.
وبشأن الصلة المباشرة بين العنف الذي يُشاهَد وممارسة العنف، تؤكد الكاتبة أن ألعاب الفيديو تُخفض الميول الاجتماعية، وتُزيد من العنف والتطرف لدى مستخدميها، وتؤدي لاضطرابات نفسية، وتقلل قدرات التحمل والصبر، كما تقلل من الميول العكسية مثل قراءة كتاب بدلاً عنها.
وقد بينت الدراسات الأمريكية لعام 2012 أن طلاب المدارس في عمر 10-13 سنة يلعبون ألعاب الفيديو بمتوسط 43 ساعة في الأسبوع، وأن ساعات قراءاتهم قلت بنسبة 30%، وانخفضت نسبة ساعات قيامهم بواجباتهم المدرسية 34%.
تأثير محركات البحث على التعلم والذاكرة
وفقًا لرؤية “جرينفيلد”، يعد قراءة الكتب “أفضل طريقة للتعلم”، لكن ربما يرفض آخرون خصوصًا من فئة الشباب هذا الرأي. كما ركزت الكاتبة على موضوع آخر هو دور الإنترنت في انخفاض قدرة الذاكرة، قائلة: “لماذا يتذكر تلميذ حاصل ضرب تسعة في تسعة طالما يعلم أن الحل في هاتفه الذكي أو حاسبه الآلي؟ حتى الأسماء يستطيع أي شخص كتابة الاسم الأول لصديقه في محركات البحث ليتذكر اسمه بالكامل”.
وترى الكاتبة أن آليات البحث الإلكترونية تغرق جيل مستخدميها في محيطات من الأجوبة السطحية لأسئلة تافهة، لتبعد قدرات العقل البشري عن التفكير الجدي والعميق.
وتبدو خلاصة ما تذهب إليه “جرينفيلد” في كتابها الجديد، أنه على الرغم من كل التقدير لما قدّمته وتقدّمه التكنولوجيا، فإنها تتوقع أن تؤدي “الثقافة الرقمية” إلى تغيرات عقلية وجسمية رهيبة، محذرةً من أن كثافة استخدام الإنترنت والشبكات الاجتماعية وألعاب الفيديو سيكون لها تأثيرات عميقة وسلبية على المجتمع.
وتخلص إلى ما مفاده أنه “ما دام العقل البشري يتفاعل تلقائيًا مع البيئة التي تحيط بصاحبه، فلا بد أن التجربة اليومية عن طريق التكنولوجيا الرقمية التي تنتشر بشكل متزايد سوف تؤثر بشكل ما على العقل، وبالتالي على طريقة التفكير”.
وعلى الرغم من أن الإحصاءات والمعلومات المتضمنة في الكتاب المشار إليه تعكس مخاوف وقلق بالغ لدى “جرينفيلد” إزاء آثار التكنولوجيا الرقمية على النفس البشرية، فإن الكتاب لم يشر إلى أي محاولات لمواجهة هذه المخاطر والتهديدات حتى الآن.
تغريد
اكتب تعليقك