
رومان جاكبسون.. بنيات الخطاب
كارين فليب Karine Philippe
ترجمة: د. أسماء كريم
فَتح علمٌ جديد؛ علم الأصوات، في براغ، بين الحَربَيْن العالميَّتين، الطَّريق أمام التَّحليل البنيوي للّغات والنصوص، حتَّى الشعريَّة منها.
يُعدُّ رومان جاكوبسون Roman Jakobson (1982-1996) أحد أهم الشَّخصيات في اللسانيات البنيويَّة، وهو قريب من الطَّلائع الفنّية في عصره. فمن موسكو، حيث وُلِدَ، إلى براغ ثم نيويورك، خلَّف وراءَه عملًا مؤثِّرًا ومتنوِّعًا.
في عام 1963، ظهر المجلَّد الأوّل من دروس في اللسانيات العامَّة / Essais de linguistique générale باللغة الفرنسيَّة. وكانت فرنسا آنذاك على أعتاب موجة البنيويَّة، ولم يكن جاكبسون غريبًا عليها. لكنَّه هو نفسه كان مُلْهَمًا من سلفه فرديناند دي سوسير Ferdinand de Saussure. ففي بداية القرن العشرين، أحدث هذا الأخير ثورة في اللسانيات عندما أوضح أنَّ اللغة ليست نتيجة لحوادث تاريخيَّة: بل هي نظام، كُلٌّ منسجمٌ ومستقلٌّ. لذلك سوف ندرسها على هذا النَّحو: في لحظة معيَّنة، بوصفها مجموعة من القواعد، وخارج تحقُّقاتها الخاصَّة. في عام 1915، شارك جاكوبسون في تأسيس حلقة موسكو اللسانيَّة، وأصبح مُشبَعًا بالشَّكلانيّين الرُّوس، حيث سيطر تحليل أشكال الخطاب، بغض النَّظر عن تاريخها ومؤلِّفها.
في عام 1962، شارك في إنشاء حلقة براغ اللسانيَّة، إلى جانب مواطنه بيكولاي تروبتزوكوي Nicolaï Troubetzkoï. سيقومان بعد ذلك، بإلهام من سوسير، بإنشاء تخصّص جديد، هو علم الأصوات، الذي سيهتمّ بأصوات اللغات المنطوقة حيث إنَّ لها وظيفة. فالصَّوت لا يكون فونيمًا إلا إذا كان يلعب دورًا مُميَّزًا. فــ /b/و /p/هي فونيمات فرنسيَّة لأنَّ: “Pas” ليست هي “Bas”. ومن ناحية أخرى، /r/ الملنقة و /r/ ليستا فونيمان مُميِّزان لآذان الفرانكفوني، على الرّغم من اختلافهما صوتيًّا. وغالبًا ما يعتبر الفونيم أصغر وحدة في نظام اللغة؛ الذَّرَّة غير القابلة للاختزال. لكن جاكوبسون سيذهب أبعد من ذلك من خلال تفكيك الفونيم إلى سلسلة من «السّمات المميِّزَة»، التي تشكّل المكوّنات النهائيَّة للّغة. فالصَّوتان /p/ و/b/، على سبيل المثال، لهما مواقع النّطق ذاتها (صوامت شفهيَّة، حيث تتلامس الشفتان)، لكنهما يختلفان بسِمَة مُميِّزة: /p/ أصمٌّ (لا تهتز فيه الحبال الصَّوتيَّة)، بينما /b/ رنَّان (فيه اهتزاز). إنَّ كفاءة هذه الأدوات ودقَّتها هي أصل النَّجاح الكبير لمفهوم «البِنْيَة» الذي يسمح، عند تطبيقه على اللغات، بتمثيلها كأنظمة مغلقة ومستقلَّة، ولكنها قابلة للمقارنة، لأنها تشكَّلت وفقًا لمبدأ المعارَضَة الـمُميِّزَة نفسِه.
التَّواصل أو التلغراف أو الأوركسترا؟
بعد غزو النَّازيِّين لتشكوسلوفاكيا، لجأ جاكوبسون أوَّلًا إلى الدّول الاسكندنافيَّة، ثم استقرَّ بشكلٍ دائمٍ في الولايات المتَّحدة. عقد، في عام 1942، في نيويورك، اجتماعًا حاسمًا: لقاء عالِم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلودليفي ستراوس Claude Lévi-Strauss، الذي عرَّفه على اللسانيات البنيويَّة. وقد كانت مصدر إلهاام لهذا الأخير لتوسيع البنيويَّة لتشمل أنظمة القرابة والحكايات الأسطوريَّة والفنون البدائيَّة، ومجال الأنثروبولوجيا بأكمله.
لكن جاكوبسون، الذي قام بعد عام 1949 بالتَّدريس في جامعة هارفارد Harvard ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، كان أيضًا على اتصال بعَملِ عالِمَيْ الرّياضيات كلود شانون Clause Shanon ووارن ويفر Warren Weaver حول نظريَّة المعلومات. وقَد ألهمه ذلك لمحاولة وصف جميع وظائف اللغة، وأنتج حوالي عام 1960 رسمًا تخطيطيًّا ظلَّ أساسيًّا منذ ذلك الحين. وهو يحتوي على ستَّة أقطاب: مُرسِلٌ ينقل الرّسالة إلى مُرسَل إليه عبر قناةٍ (بصريَّة، أو سمعيَّة…) باستخدام رمزٍ (تصويري، أو لغوي…)، وكُلّ ذلك داخل سياق معيَّن. وترتبط بهذه الأقطاب السّتة، على التوالي، وظائف ست: تظهر الوظيفة التعبيريَّة في وجود الـمُرسِل، وتتعلَّق الوظيفة الشعريَّة بجماليَّة الرّسالة، وتهدف الوظيفة الإفهاميَّة إلى إشراك المرسَل إليه (“لأنّك تستحقّ ذلك تأكيدًا”)، وتضمن الوظيفة الانتباهيَّة الاتصال بين المرسِل والمرسَل إليه (كلمة «ألو» على الهاتف)، وترتبط الوظيفة الميتالغويَّة بالسَّنن (تلحق بكلمة “cadeaux” “x” في صيغة الجمع)، وأخيرًا تعود الوظيفة المرجعيَّة إلى المحتوى الإخباري للرّسالة. تظهر هذه الخطاطة في مقال بعنوان “اللسانيات والشعريّة”: في الواقع، يُعَدُّ الشّعر، بالنسبة إلى جاكوبسون، شغفًا يرافق جميع أعماله. وماتزال هذه الخطاطة مرجعًا، على الرّغم من الانتقادات: فقد تمَّ انتقادها بسبب تصميمها الميكانيكي جدًّا، وأنَّها لا تأخذ بعين الاعتبار تعقيد التبادلات، ولا دقَّة عمليّات التفسير. وانتقد باحثو بالو ألتو Palo Alto، المشهورين بعملهم في التواصل بين الأشخاص، خَطّيَّة الخطاطة، والتي تربط النقطة A بالنقطة B، مثل التلغراف. واقترحوا نموذج الأوركسترا، حيث تسهم العناصر الفاعِلَة معًا في تطوير التبادل. وعلى أيِّ حالٍ، تُعدُّ خطاطة جاكوبسون علامة فارقة في تاريخ نظريات التواصل.
المصدر:
(مجلة العلوم الإنسانية الفرنسية/ عدد خاص، Sciences Humaines/ les essentiels, Hors-série، العدد 15، أكتوبر-نونبر2023، ص: 89-90-91)
عدد التحميلات: 2