
تأويليّة السَرْد: المتخيّل – التّاريخ – المتلقي
هل هنالك اشكالية عندما يستعين، أو يستعير، أو يستلهم، الروائي من التاريخ الأحداث والشخصيات؟ نعم اعتقد ذلك، لأنه يحاول بقدر الممكن أن يطابق هذه الاستعارة بالواقع اليومي، عن طريق الرمز، والفنتازيا، ومزامنة الحدث مع الآني، وذلك بالاشتغال على المتخيل في تداخله مع التاريخ والتلقي، ولا نقوم بتأسيس المتخيل أي «لا نعني بتأسيس المتخيل انطلاقًا من الواقع، اننا نعيد إنتاج هذا الواقع كما هو، بل نعني إننا نستفيد منه لإنتاج عوالم جديدة ترفضه وتنفصل عنه، فالمتخيل يقترح علينا القدرة على رفض الواقع» 1، وإن السبب في لجوء الروائي الى التاريخ، هو الابتعاد كليًا عن الحاضر (وذلك بدمج الماضي بالحاضر)، والابتعاد عن المباشرة في السرد، وذلك بأسطرة الواقع، لذا يذهب الروائي إلى الترميز والاستعارة والإحالة في سرد الأحداث، عندئذ تتأسس علاقة جدلية بين المتخيل والتاريخ في النصً الأدبي، مطروحة بحوارية أمام المتلقي الواعي بدوره كمساهم في العثور على أي معنى من النص – الروائي، بمعنى ان النصً أصبح محكومًا بالمثلث: المتخيل – التاريخ – المتلقي، لأن مؤلف «الميتا رواية يرفض إمكان النظر الى الماضي والكتابة عنه كما كأن حقيقة، وإنما يضطلع بدلًا من ذلك بدور فعَال، إنه ينتج الماضي، مشاركًا، ومسائلًا، ومستجوبًا» 2، لكن، هنا، يبرز لنا سؤال إشكالي عن مدى الحدود التي تفصل بين مكونات المثلث، وعن مدى تداخلها واستيعابها للآخر، وعن كيفية اشتغال كل واحد منهم، وتفاعله، مع الواقع المسرد عنه، من خلال العلاقة ما بين مكونات السرد الروائي: الخيال – التاريخ – الواقع، وذلك للكشف عن عمق التفاعل بين هذه المكونات والمتلقي، فالخيال «يعيد تشكيل تجربة القارئ بواسطة وسائل لا واقعيته وحدها، وأما التاريخ فينجزها بفضل إعادة بناء الماضي على أساس الآثار التي أبقاها» 3.
السؤال الذي تطرحه جميع روايات الكتاب، وهي محسوبة على الميتا – قص التاريخي، بالرغم أن العلاقة الما بعد حداثية بين «الرواية والتاريخ أكثر تعقيدًا من مجرد التفاعل والتضمينات المتبادلة. ويعمل ما وراء القص التاريخي من أجل أن يموضع نفسه ضمن الخطاب التاريخي دون التنازل عن استقلاليته بوصفه رواية» 4، أي لا يتعلق بما هو التاريخ الفعلي، وإنما بمعنى أصح، كيفية تقديم الحدث التاريخي أو الشخصية التاريخية؟ وكيفية الاستفادة منهما في رسم الحدث أو الشخصية بمنظور الحاضر؟ ومدى عمق التفاعل بين الحاضر والماضي؟ ومن الذي سيطلع عليه أو يؤوله؟ «إننا لا نرى الراوي – المؤلف يكتب فقط، وإنما نكون أيضًا على وعي بأن الكاتب يكتب بوعي تام لنا. أن الراوي – المؤلف يطالب القارئ بالمشاركة في خلق الصورة، وعلى القارئ أن يمتثل لهذا المطلب وأن يكن عبر فهمه للنص»5. أي إننا نبحث في الماضي من أجل أن نفهم الحاضر، وكأن الروائي على وعي من إنه يؤسس علاقة بين الماضي الذي يكتب عنه والحاضر الذي يمارس الكتابة به، أي يجب على المتلقي أن يشترك في عملية التأويل التي وضعه فيها المؤلف، وبالذات الشخصية التاريخية التي يتناولها، ولماذا هذه الشخصية بالذات؟ وكم عمق تصويرها للحاضر؟ وكم تفاعلها مع الحاضر؟ رغم أن بعض الكتّاب يطلقون أسماء على شخصياتهم والبعض الآخر لا يفعل، ولكن تبقى الشخصيتين تستمدان حضورهما من الماضي، هنا يكون حضور المتلقي واسع جدًا، وساحته التأويلية كبيرة جدًا، ومن الجائز أن تتوافق رؤية المؤلف مع المتلقي أو لا تتوافق، فالنصْ يعطي الحرية الكاملة للمؤلف وللمتلقي.
من هذا تتشكل أبعاد مديات توظيف التاريخ سرديًا في «الاشتغال عليه بوصفه مفهومًا اصطناعيًا يستدعي الذاكرتين الفردية والجمعية، لتغدو وظيفة التاريخ الجديدة إعادة تداول التاريخ بناء على المشاهدة والمعاينة التي تتطلب التسريد والتخييل والتخريف والتحريف، وليس مجرد التوثيق. وبذلك يتم تجريد الحدث التاريخي من قيود الزمان والمكان، والتعامل معه من خلال رؤية حاضرة تستشرف المستقبل»6، فالذاكرة مرتبطة بالماضي متداخلة بالحاضرٍ الذي سيصبح تاريخًا بينما المتخيَل فهو ينتمي إلى حاضرٍ متصلٍ بالمستقبل، وفيه يقول بول ريكور «أن للخيال أنموذجًا غير واقعيٍ في المتخيَل، أن طموح الصدق لدي الذاكرة يملك صفات تستحقُ أن تعترفَ بها قبل الأخذ بعين الاعتبار أي نوعٍ من القصور المَرَضيّ أو ضعف للذاكرةِ»7.
وكما يقول رولان بارت هنالك تأويلات متعددة ورؤى مختلفة للنصْ الواحد، بمعنى أن الشخصية والحدث يفسر ويحلل حسب الزمن الذي يقرأ فيه النصْ، وحسب عمق المتخيلة التي يمتلكها المتلقي، فليس كل القراء يمتلكون مخيلة واحدة، أبدًا، إنما مخيلات مختلفة، متغايرة، غير متشابهة، وفي هذا يبين إن انحراف «الكاتب (إن لذته في الكتابة لا وظيفة لها) ليضاعف مرتين أو ثلاثًا وإلى ما لانهاية انحراف الناقد وقارئه»8. بمعنى أن المتلقي كلما يعيد قراءة النص، تكون قراءة ذات رؤية تأويلية متجددة مختلفة عن السابقة، وذلك لأن نظرية القراءة تنتمي للشعرية.
ومن الكتب التراثية التي تتفجر فيها المخيلة، على شكل خرافة، أو أسطورة، ووقوعها بالأساس بعيدًا عن الوقائع التاريخية، هي حكايات (ألف ليلة وليلة) إذا تنشر كل «تجربة زمانية قصصية عالمها الخاص، وكل عالم من هذه العوالم فريد في ذاته ومفرد ولا يقارن بسواه» 9، فهي أمثلة على كيفية تحويل الصور الحقيقية إلى صور أسطورية أو صور خرافية عبر مزاوجتها في سياقات تخيلية موحدة، وهكذا، فإن الواقع المرسوم في النص المتخيل ما هو إلا عبارة عن نص يستوحي المتخيل المرسوم في الواقع (الرخ – أسماك ملونة مسحورة – حيوانات مسحورة – الجن – العفاريت – السحر الأسود – البساط الطائر)، عليه إن شخصية شهريار تمثل قارئًا يتحول النص المتخيل بالنسبة إليه، إلى واقع، «لأنه فقد الوعي بالنص بحدّ ذاته، إن حقيقة أن (النص المفقود) يحوّل الواقع نفسه إلى نص هي نتيجة ساخرة، لقوة التلقي المتّجهة خارج النص.. على الرغم من أن دراسة تاريخ التلقي تُعدُ دراسة مهمة بالنسبة للتأويل الفعلي لنص ما، وبالنسبة لموقعه بين النصوص الأخرى، فإنها لا تستطيع معالجة تعقيد المعنى الذي يؤسسه النص نفسه، وهذا هو سبب حاجتنا إلى نظرية شكلية متممة للقراءة التي تستمد معاييرها الخاصة بتلقي النصوص التخييلية من مفهوم سمة التخييل نفسه»10، وبهذا ليس من الضروري ان تتوافق القراءة الحاصلة في اي زمان ومكان، مع السياقات المهيمنة في النص ذاته، لأن اللغة تحيل على مرجع خارج ذاتها. بالإضافة إلى أن النص التخييلي «يتميّز بكونه تأليفًا لا مرجعيًا رغم احتمالية إشارته إلى الواقع»11، وليس من الممكن ابدا ان تتوافق مخيلة المؤلف مع مخيلة المتلقي، رغم ان الخيال التاريخي هو الذي يتوسط بينهما، وكذلك شهرزاد تعتبر هنا حْكّاياَ من الطراز الاول، في سرد الحكايات، وإلا قتلت، فهنالك لعبة غير مرئية ما بين شهرزاد/ السرد وشهريار/ الإصغاء، هي القدرة على الاستمرارية على الحكي، مع شد الانتباه إلى الحكايات من قبل شهرزاد، وجعل شهريار في ترقب دائم وانتظار، لما سوف يحدث غدًا، وهذا يعتمد أيضا على مزاج شهريار/المروي له، ومدى انجذابه إلى الإصغاء، لأنه حينما يتوقف الإصغاء، تموت شهرزاد ويموت السرد، ولكن هنا تركزّ وعي شهريار على الحكي وليس على النصْ، وهذه اللعبة جعلت السرد لا ينتهي، شهرزاد تحكي، وشهريار يصغي، ففي الحكي المُتخيًل في (ألف ليلة وليلة)، اختفى الموت، وغادر النص، وبقت الحكاية.
وهنالك توجد ملاحم تاريخية – انثروبولوجية أقدم من ألف ليلة وليلة بآلاف السنين، مثل (ملحمة جلجامش) التي نُسجتْ فيها المخيلة على شكل أسطورة ولكنها واقعة قريبًا من الحفريات التاريخية، وهي اليوم تعتبر من اطول الأعمال الأدبية وأغناها التي كتبت بالأكدية – المسمارية، وتتسم الملحمة بالغموض، وذلك لأنّها مكتوبة بلغة يتداخل فيها الواقعي بالخيال بحيث تجعل منها قصصًا دنيوية زاخرة بالأحداث، ومن جهة أخرى هناك الكثير من الاحداث الخيالية وفوق الواقعية فيها، حيث يجعلنا هذا، في موقف لا يمكننا فيه “التوصل لصياغة كلية للتجربة الزمانية القصصية”12، ويبقى رغم كل شيء السؤال الأبدي قائمًا: هل جلجامش شخصية تاريخية أم خيالية؟!، إذا أخذنا النظرية التاريخية بنظر الاعتبار، سنقرأ نصًا من فترة أور الثالثة، يُدعى بالوثيقة السّومرية المعروفة بوثيقة «ثبت ملوك سومر» والتي تدون العديد من أسماء ملوك السلالات الاولى التي حكمت بعد الطوفان، الذين ثبت وجودهم تاريخيًا. وهذه الوثيقة تجعل جلجامش الملك الخامس في أسرة ملوك أوروك الأولى التي حكمت بعد الطوفان، أما عن جلجامش الأسطوري والفرق والتداخل بين الشخصيّتين وحول جدلية واقعية أسطورة جلجامش أو عدم واقعيتها، نلجأ إلى إزالة الحدود الفاصلة كما فعل هايدن وايت بين القصص والتاريخ، أو كما عبر بدقة عن ذلك قائلًا: «لا نستطيع أن نعرف الفعلي إلا من خلال معارضته أو مقارنته بالمتخيّل»13. عليه سوف تبقى شخصية جلجامش شخصية حقيقة متخيلة أسطورية.
فمنذ القدم كان التخيل متواجدًا في عقل الإنسان (الثور المجنح – بروميثيوس – كعب اخيل – القنطور – السيرينيات)، لأن الإنسان كائن متخيل، بالأساس، لدرجة يقول سارتر أن الخيال هو «ظهور المتخيل أمام الوعي» 14، وعند بول ريكور يكون جوهر الخيال، له وظيفة انتاجية لغوية، والأدب الذي يكتب بهكذا مخيلة عالية وعميقة، ومهم امتدت وتوسعت جذورها التاريخية «الأوديسا – حي ابن يقظان – كليلة ودمنة – روبنسون كروزو – دون كيشوت – مائة عام من العزلة – الخيميائي – أولاد حارتنا»، يضعنا (أي الأدب) على حافة الوجود كما تقول جوليا كريستيفا، حيث يصاب المتلقي بهذه المشاهد المتخيلة، بالدهشة، والانبهار، والسفر بين عوالم افتراضية.
وإن أدق من يمثل المخيلة، هو الممثل حينما يكون على خشبة المسرح، في تجسيده لشخصية خيالية مغايرة له، هنا يمارس الممثل تحولاً متخيلاً من قبل ذاته الحقيقية إلى الذات الأخرى التي يجسدها، كأنه انفصل عن عالمه الواقعي – اليومي ليصبح في العالم الافتراضي للشخصية التي يجسدها.
أما عندما يريد الروائي أن يستلهم التاريخ، فتكون الكتابة عنه غير التي يكتبها المؤرخ، فالروائي لا يعتبر مؤرخًا، وإنما يعتبر قارئًا لمرحلة تاريخية بمنظور شخصي، لأن رؤيته التاريخية ستكون وفق اشتراطات العمل الروائي، ووفق المخيلة التي يشتغل عليها، رغم أنه يعلم بأن الرؤية التاريخية «لا يراد بها أداء وظيفة التاريخ، إنما استثمار المناخ التاريخي، وتوظيفه كخلفية للوقائع «15، اليومية التي يعيشها، في استعارة الحدث أو الشخصية، بل يتعدى ذلك إلى الاستعارة من الموروث الديني أو الموروث الأسطوري وحتى الخرافي، في تعزيز النصْ، وهنا يتقاسم المتخيل السردي والمتخيل التاريخي النصْ، في الانفتاح اللامحدود وفي عدم التقيد بأي شيء، عليه يتطلب منا إن ننظر للتاريخ كخطاب، وكشيء بالاستطاعة التلاعب به، من قبل الراوي ومن قبل المتلقي.
يجب علينا أن نستوعب ماذا يريد النص التخييلي من حيث المعنى الذي يقع وراء النص؟ وهذا لا يتحقق إلا إذا استوعبنا العلاقة القائمة بين النص والمتلقي، وإن هذه العلاقة تنشأ من التفاعل بين النص وذهنية المتلقي عبر تراكماته المعرفية وتجربته الشخصية وقراءاته الذاتية ووعيه السوسيو- ثقافي، عندئذ تتكشف المُمكنات الدلالية المتعددة للنص التي تقود المتلقي إلى التأويل، لاستخلاص المعنى من خلال اشتراك المتلقي والمُؤلف في لعبة التخيُل، ويمكن أن ندعو «نتاج هذه الفعالية الإبداعية البُعْدَ الفعلي للنَص، الذي يمنح النص واقعيته، وهذا البُعْد هو ليس النَص نفسه ولا تخيُل القارئ: إنه نتيجة النَص والتخيُل معًا»16.
يجب ان لا يفوتنا بان هنالك علاقة متبادلة قوية بين المتخيل والتأويل، وينسحب ذلك على التاريخ والمتلقي أيضًا، ولكن بنسب متفاوتة، وتظهر عند الناقد/ المتلقي دائمًا، لأنه يمثل فعالية القراءة الجادة والعميقة، وفي بناء المعنى، والاستجابة لما يقرأه، عن طريق الفهم، وفي القراءة تكتمل التأويلية الكاشفة للمعنى، وهذا ما يوكد عليه بول ريكور عندما يقول: «إن تحليل النصّ يكتمل بتحليل ذات الفاعل الذي سيفهم نفسه بشكل أفضل، أو بشكل مُختلف، أو سيبدأ بتفهّم نفسه»17، وعليه يجب أن ينُظر إلى «التأويل على أنه شيء يُجري على التخييل، بل بالأحرى على أنه شيء يُجري في التخييل، يصبح، عندئذ، موقف مناهضة التأويل موقفا يتعذر الدفاع عنه، لأنه مساوٍ لرفض شكل هامّ من أشكال التخييل (الحديث ) الذي يعني بالتأويل: أي أنه يعني بمدياته وحدوده، وضرورته وقصوره» 18، ومعنى ذلك أن التأويل مرادف للمتخيل، في اشتغاله واتصاله مع السياقات: التاريخية – السياسية – السوسيولوجية.
فالتأويل قد يتخذ من المتخيل الخاتل في ذاكرة الفرد أو الذاكرة المجتمعية مادة انطلاق في تناول نص ما أو خطاب ما، وفي اللحظة ذاتها يكون فعل التخيل فعلًا تأويليًا في جوهره، لأن المتخيل يكون هنا قابلًا لاحتواء مفاهيم جديدة، كما أنه يكون متواصلًا مع الطروحات المختلفة والمتغيرة، فهو كما تقول عنه ايفلين بتلجيون أي المتخيل «يتكون من جملة التمثلات التي تتجاوز الحدود المرسومة لشروط التجربة»19 ، مشترك مع المتلقي الذي تكون مهمته بالأساس مهمة تأويلية بالدرجة الأولى أيضًا، رغم خضوعها للمتخيل القرائي، إن اشكالية التأويل مشروطة بنية المعنى المتخيل والتي لا تتحدد إلا من خلال مسألة القراءة، فالتأويل للنص لا يمكن أن ينشأ إلا خلال عملية قرائية ملتزمة بالخطوات الثلاث: الفهم – التفسير – التطبيق، عندئذ يتحدد المعنى للنص المصاحب للمتخيل.
وعلى مجمل ما استعرضناه آنفًا، مع ملاحظة نقطةْ التصور الأساسي في تأويليَة غادامير والتي تقوم على فكرة تأثير التاريخ، بهذا «المعنى نستطيع أن نُشير إلى التمييز بين عمل سرفنتس ومستقبله وإلى الثورة الفرنسية في تأثيرها في التاريخ»20، من هنا فإن الوعي الذي تكوّن في تأويلية غادامير سيحتوي بالتالي على وعي تاريخي، رغم حضور المتخيّل في مجال الكتابة التّاريخية.
إذن فالمتخيل هو إثارة قصدية للمتلقي تستدعي منه استنهاض جميع المتراكم المخزون لديه لكي يتجانس ويتماثل مع ملامح الصورة المتخيلة، وبهذا يتم الربط بين المتراكم والصورة ليشكلا لنا في النهاية المتخيل متجاوزًا حدود الواقع. إنّ مجال المتخيّل لا متناه، فهو يوجد في كل مجالات الإبداع الإنسانيّ.
والمشترك في هذه اللعبة، لعبة المتخيَل، هما المؤلف والمتلقي، ولكن لكل منهما دوره في اللعبة، فالمؤلف يقدم نصًا غامضًا ملغزا، والمتلقي عليه كشف الغموض وحل اللغز،تحقيق أدبية النص وجماليته، عندئذ تكون القراءة مُمتعة لأنها ستكون فعّالة وإبداعية، وعليه فإن «فعل تكوين صورة مُتخيَلة عن الجبل يفترض سلفًا غياب الجبل. والشيء نفسه يحدث مع النَص الأدبي، فنحن نستطيع أن نكوّن صور أشياء غير موجودة، ولكن، في حين يُقدَم لنا الجزء المكتوب من النًص المعرفة، فان الجزء غير المكتوب هو الذي يُتيح لنا فُرصة تكوين صورة مُتخيّلة»21. إذا يتعين على المتلقي أن يستخدم خياله في النص لتركيب المعلومات المُقدمة إليه.
بل ويذهب المفكر الدكتور عبدالله إبراهيم في كتابه (التخيل التاريخي: السرد والأمبراطورية والتجربة الاستعمارية) إلى أن التخيل التاريخي ما هو إلا «المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية، واصبحت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية»22، أن التخيل التاريخي لا يحيل على حقائق الماضي، انما يستوحيها بوصفها ركائز مفسّرة لأحداثه، وهومن نتاج العلاقة المتفاعلة بين السّرد المُعزّز بالخيال والتاريخ المُدعّم بالوقائع، وقام بإحلال مصطلح «التخيل التاريخي» محل مصطلح «الرواية التاريخية» لأن هذا سوف يدفع بالكتابة السردية إلى تخطي مشكلة الأنواع الأدبية وحدودها ووظائفها، حسب رايه. ورأى أن ذلك الاحلال يفكّك ثنائية الرواية والتاريخ، ويعيد دمجهما في هوية سردية مختلفة جديدة.
وهنالك نص يجتمع فيه: المتخيّل. التاريخ. المتلقي. كما تبين لنا الناقدة الكندية ليندا هتشيون في صورة نادرة، قلما نعثر عليها، في الانسجام والتلاحم والتداخل لهذا الثلاثي، مما يمنح المتلقي مساحة لا متناهية من التساؤلات والريبة والاندهاش:
«إن ماركو بولو في (مدن غير مرئية) لايتالو كالفينو ليس ماركو بولو التاريخي. كما أنه هو في الوقت ذاته. كيف لنا أن نعرف اليوم المستكشف الايطالي؟»23.
فالرواية تقوم على الواقعي – التاريخي وعلى المتخيّل الروائي، وما من شك أن كل رواية تستعير من التاريخ فيها تاريخ وفيها متخيّل، ويجب أن يجتمع التاريخ والمتخيل معًا، لأن بدون الشخصية التاريخية، لا تصبح رواية ما وراء القص – التاريخي.
الهوامش والاحالات:
1 – ليلى احمياني – صورة المتخيل في السرد العربي، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2016، ص 43.
2 – برندا مارشال – تعليم ما بعد الحداثة/المتخيل والنظرية، ترجمة وتقديم: السيد إمام، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2010، ص 195.
3 – بول ريكور – بعد طول تأمُل، ترجمة: فؤاد مليت، مراجعة وتقديم: د. عمر مهيبل، منشورات الاختلاف، المركز الثقافي العربي، الدار العربية للعلوم – ناشرون، بيروت والدار البيضاء والجزائر العاصمة، 2006، ص 103.
4 – ليندا هتشيون – ما وراء القص التاريخي: السخرية والتناص مع التاريخ، ترجمة: أماني ابو رحمة، المجلة الثقافية الجزائرية 6/ 2011.
المقال فصل من كتاب جماليات ما وراء القص: دراسات في رواية ما بعد الحداثة، مجموعة مؤلفين. ترجمة أماني ابو رحمة، دار نينوى للنشر والتوزيع، دمشق – سوريا، 2010.
5 – تعليم ما بعد الحداثة – ص 197.
6 – نادية هناوي – رواية التاريخ وسرد المتخيل، القدس العربي، 3 يونيو 2017.
7 – بول ريكور – الذاكرة. التاريخ. النسيان، ترجمة: جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت – لبنان، ط1 2009، ص 56.
8 – رولان بارت – لذة النصْ – ترجمة: د. منذر عياشي، مركز الانماء الحضاري، حلب، ط 2، 2002، ص 43.
9 – بول ريكور – الزمان والسرد «الزمان المروي» ج3، ترجمة: سعيد الغانمي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت – لبنان، 2006، ص 189.
10 – تحرير: سوزان روبين سليمان وإنجي كروسمان – القارئ في النص: مقالات في الجمهور والتأويل، ترجمة: د. حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت – لبنان 2007، ص 110، 111.
11 – م. ن، ص 105.
12 – بول ريكور – الزمان والسرد، ج3، ص 189.
13 – م. ن. ص 230.
14 – د. شاكر عبدالحميد – الخيال: من الكهف الى الواقع الافتراضي، سلسلة عالم المعرفة العدد 360، الكويت 2009، ص 81.
15 – عبد الله إبراهيم – موسوعة السرد العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2005، ص 435.
16 – جين ب تومبكنز – نقد استجابة القارئ: من االشكلانية إلى ما بعد البنيوية، ترجمة: حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت – لبنان، ط 2، 2016، ص 113.
17 -جان غروندان – التأويلية، ترجمة: د. جورج كتوره، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت – لبنان، 2017، ص 91.
18 – القارئ في النص – 198، 199.
19 – أسماء سعدي – المتخيل السردي في رواية (همس الجنون) لمحمد مفلاح، أطروحة مقدمة لنيل شهادة الماجستير، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي – جامعة بسكرة/الجزائر، كلية الآداب واللغات، 2015، ص8.
20 – جان غروندان – التأويلية، ص63.
21 – نقد استجابة القارئ: من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية. ص 117.
22 – د. عبد الله ابراهيم – التخيل التاريخي: السرد والإمبراطورية والتجربة الاستعمارية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت – لبنان، 2011، ص 5.
23 – ليند هتشيون – ما وراء القص التاريخي.
عدد التحميلات: 1