
امرؤ القيس صورة الفنان في شبابه
تترى آراء مقتنعة بأن امرؤ القيس مفرك يكرهنه النساء. فأم جندب تخبره بأنه “ثقيل الصدارة، خفيف العجزة، سريع الهراقة، بطيء الإفاقة” ثم يسكت عنها، بل وينافس علقمة الفحل الذي فاز عليها فخلفه عليها بعد أن طلّقها؛ فمشهور عنه أنه شديد الغيرة. وامرأة أخرى صدقته بأنه “إذا عرقت فحت بريح كلب” فيرد: أنت صدقتني، إن أهلي أرضعوني بلبن كلبة” .بل وقيل أنه مئناث (لا يولد له سوى الإناث)، وكان يأدهن؛ فليس له أن يكون أبًا؟ ولكن كل ذلك ينساب أكثر مما ينبغي مع شعره، ففي شعره لا يستقيم ما شاع عنه من فحش وما يبتدأ به من إباحية لا يصلها. فلم يولج يومًا ولم يضاجع أبدًا ولم يُحبل إحداهن بل ولم يتمم ليلته المفصلة في قصائده البتة. وصار شعره كما هو مشهور؛ مشرذم مبتور يقفز من موضوع لآخر بلا انسياب ولا ترابط. (ويا لشدة وقاحتي بعد 15 قرنًا حين أريد أن أقول بل العكس، متناسب ومتناسق تمامًا، مترابط زمنيًا وموضوعيًا لا ينفصم بيت عن الذي يليه. فقط لنستعين بالمارد النفساني فرويد ولننزل امرؤ القيس -أو نعليه- إلى الفنان البارع الذي كانه.)
تبتدأ قصائد امرؤ القيس الطوال، على غرار معلقته بمربعات معزلات عن بعضهم ومنفصلات ولكأنها (كما يُصرّح بذلك) صنعت على فترات متباعدة. وأخالف هذا الرأي تمامًا؛ بل هن قطع أدبية كاملة متكاملة ليس فيها خلل ولا انفصام في نظمه):
- الأطلال وبكاء رسومها
- المحبوبة الأصل القديمة
- وداع الرحل ونقف الحنظل/الحصى
- ملاعبته لمحبوبته وإغواءه لها
- الليل ونجومه وهمومها
- فرسه وصيده وطعانه
وكل هذا يملئ شعره تشتتًا وفقدانًا للوحدة. ولم يعد هناك عمل أدبي حقًا. ويتكرر كل هذا مرارًا ففي قصيدته التي مطلعها “ألا أنعم صباحًا أيها الربع وانطق” والأخرى “ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي”، تكرارًا ومرارًا لاعبًا بذات الألعاب.
بل الأسوأ أنه يمارس مع النساء ما لا يفهمه إنسان، رجلًا كان أم امرأة، فيودع حبيباتٍ قديمات ثم يعهر ويشبب مباشرة بحوامل ومتزوجات ومرضعات، ليقفز إلى حصانه الذي يشبه كل المخلوقات الأسطورية وكل شتى الفحول (العير والظليم والثور…) ثم يستمر في رحلة اصطيادٍ مليئةٍ بالطعان والدماء بدل إكمال رومانسيته وإباحيته وفحشاءه التي شوهها وخالطها بذكر نساءٍ أخريات لدى حبيباته اللاتي يتمردس بأجسادهن… وهكذا من الترهات المقدسة التي لم نستطع فكًا لأسرارها.
على كل لنحاول قراءته بعيني محلل نفسي
يخبرنا فرويد قبل قرن من الزمان (فرويد الذي تم تجاوزه) بأن النمو الجنساني والحبي عند الإنسان ينمو لديه منذ الولادة يتمخض عبر تولدات وتشكلات وتحولات واندماجات…الخ، حتى تصير في الأخير شكلًا واحدًا وتيارًا واحدًا يصيب من اللذة والحب والجنس شكلًا واحدًا. وقد وُجّه كله قطعة واحدة نحو موضوع للحب واحد، محبوب أوحد؛ وجميع من يلحقه من أحباب هم صور لذلك الرسم الدارس الأوحد وطلله البالي. إنما تحدث المصيبة، الخلل، الشذوذ، العصاب حين لا تلتقي كل هذه المسارات بالشكل المطلوب سابقًا. فتنفصل اللذة عن الجنس (فتشية القدم مثلًا) أو الجنس عن الحب (المحبوبة العذراء المقدسة التي لا يمسسها أحد ولا يدنسها العهر)، وما إلى ذلك من شتى أشكال الشذوذ التي تكاد تبلغ حد اللانهائية.
حينما يولد الطفل تبدأ لديه اللذة عبر الفم (المص والشبع) ثم تنتقل عبر السنين إلى اللذة الشرجية (التغوط) ثم إلى مراكز التبول (حب الرؤية وإظهار الأعضاء التناسلية) عند عمر الخامسة ليحدث في مرحلة كهذه مرحلة العقدة الملعونة والموقف الأبدي، عقدة أوديب: فتتجه كل المحبة وحب التملك ومشاركة اللذة والتعري نحو الأم، ولكن تدخل الأب وتواجده كمنافس ومعاقب ورادع مفاقمًا الوضع بإدخاله عقدة الخصاء في قلب الطفل ليدخل الهلع من ذلك في روعه وخاصة حين يوقن بأن الأم مخصية أصلًا لينتج عن كل هذه الحرب النفسية مرحلة خمول جنسي لذّوي تام وولوج الكبت ليقسم حياته لمرحلتين لا عودة معها ليستعيد مع مرور الزمن كل ذلك بشكل منظم في تيار وشكل واحد (حب/لذة/جنس) عند المراهقة مثبتةً حول موضوع واحد جديد ومختلف. وإن حصل أدنى خلل في هذا المسار (مربية تداعب بكثرة، أب ضعيف جدًا أو مرعب أكثر مما يُحتمل، صدمات طفولية..الخ) ليحصل نكوص إلى مراحل سابق وزيادات كبت وتثبيتات ناكصة على مراحل أقدم (كاستمرار لذة التغوط)..الخ وأول شخصية أنموذجية تبرز أمامنا هي تلك التي يرسمها فرويد في مقاله الصادر 1907م: (طراز خاص من الاختيار الموضوعاني لدى الرجل).
فهي شخصية تتميز بأربعة شروط لها تبريراتها وسيروراتها، يجب أن تتحقق في المرأة لكي يقع عليها تياره الحبّي، فلا يستطيع أن يحب واحدة إلا هكذا:
- الثالث المغبون (أي أن تكون متزوجة وأن يكون له حق امتلاكها): فهذا يشبع الميولات العدوانية.
- أن تحيط بها وبحياتها سمعة سيئة (حب المومس): فحين يغارون يدركون هواهم، وهي غيرة من الآخرين لا من زوجها.
- سلسلة طويلة متكررة من الوفاء المطلق القهري لكل محبوبة بشكل مطلق. ويعاملهن كمواضيع حبية رفيعة القيمة، ولكأنه لن يحب بعدها ثم ينتقل لأخرى.
- أنها بحاجة للإنقاذ الدائم وهي بدونه ستفقد كل سيطرة أخلاقية على ذاتها وتسقط في الرذيلة.
وكل هذه الصفات مصدرها تثبيت محبة الطفل على الأم التي لم ينفصل عنها أثناء الموقف الأوديبي واستمر متعلقًا بها حتى البلوغ والمراهقة بحيث بقيت جميع المواضيع الحبية مجرد صور ورسوم بديلة عن الأم ولا تستطيع أبدًا أن تكون بديل حق عنها. والثالث المغبون هو الأب الذي يملك الحق الأصلي عليها. ولكن بدل الأم الأصل التي تُرفع إلى المرأة المقدسة والتي لا يمسها دنس وتبقى خارج الجنسانية؛ يكتشف مبكرًا حقيقة العلاقات الجنسية بين الراشدين وبين والديه تحديدًا جارًّا خلفه كل ذلك الازدراء والعهر على صورة الأم واصمًا إياها للأبد، حد لم يعد هناك فرق بين المومس ووالديه، ولا يغفر خيانتها مع والده؛ وكل ذلك يتثبت في هذه الصورة دائمًا وأبدًا: الخائنة التي ستخون في كل لحظة والتي يملكها زوج خاص بها وخاصة به. وكل هذه الصورة هي الكتلة الواحدة التي بكل تعقيداتها ستبقى صورة للمحبوب؛ صورة لازمة لا يقع اختيار حبّي على من لا تستكمل شروطها.
وأخيرًا هناك إضافات أخرى للذة، كاللذة الجلدية من الملمس ومن البصر كالنظر والتلصص ومن الهزهزة والارتجاج كالعربات وعلى السكك الحديدية وغيرها التي ما إن يُشد عليها الكبت حتى تصير بدلًا عن لذة طفولية مثارًا للغثيان ومزعجة لدى البلوغ إثر هذا الكبت؛ كل هذا متداخلًا مع النكوص الزمني لما قبل البلوغ الجنسي، فإن عاد للمرحلة الشرجية أصبح هناك الشكلين الأساسيين: الإيجاب والسلب، بدلًا عن الذكر والأنثى والسادية والمازوخية. والغائط يصير عملة اللذة والمحبة؛ منتجًا البخل والعناد في شكلها السلبي والعطاء والإهداء كأعلى صيغ للإيجاب والمحبة.
أما بعد؛ بعد كل هذا الدرس الفرويدي الممل سنطرق الأعمال الفنية المذهلة والعبقرية التامة لأشعر العرب عن حق وأخلدها؛ من هو أول فنانٍ أدخل الفن إلى الشعر العربي = امرؤ القيس.
فعندما يبتدع سيد الفن قصيدته فإنه يغنيها كمذياع للاوعيه الذي يرسم موضوع حبه وموضوع لذته وموضوع جنسانيته في تتاليها الزماني كما ينبغي لها أن تكون.
فيستهل مطولاته بذكرى وأطلال تلك المحبوبة التي ليس لها من الواقع ومن القصيدة ومن الوجود سوى أن تكون ذكرى، صورة، رسم مندثر، لم يبق منه شيء. ليست محبوبةً بل أطلالًا، ليست لذة ولا حبًا ولم يلتحفها يومًا في أي قصيدة بل ولم يصفها منها لا عضوًا ولا خصلةً ولا لونًا وهو الذي أرهق الشعر بتواصيفه للمرأة وللأشياء، فهو من جسّد الجبل بشرًا (كأن ثبيرًا في عرانين وبله، كبير أناس في بجاد مزمّل). هي فقط أم. أم سلمى وأم جندب وأم الحويرث وأم الرباب وكلهن كبعضهن (كدأبك من أم الحويرث قبلها، وجارتها أم الرباب بمأسل). هي فقط من سكنت دارًا صارت طللًا وليست شيئًا أكثر من ذلك، أطلال وديارٌ مرسومة ومتخيلةٌ فردوسًا مفقودًا؛ الفردوس الطفولي المحرم والمفقود الذي لا عودة إليه كما يثبت لنا ذلك التحليل النفسي مرارًا.
وليكمل زمنية هذه المحبوبة ويضعها في تاريخيها التي تناسب تلك المحبوبة التي ابتدأ بها الحياة، ابتدأت عصر ما قبل الموقف الأوديبي، العتبة ما بين الفردوس المفقود والطلل البالي وخيانة الأم والانفصال الأبدي ما بين التيارات النفسية الأخرى؛ ليكمل كل هذا يصف لحظة الفراق بنقفه الحنظل، أو مسبلًا دمعه، أو يعد الحصى، أو في دمن الديان نشوان. ولكنه لم يودّعهم مرةً، بل لم يلق نظرة أخيرة ولم يستصرخهم، إنما يُصوَّرُ كفاقد للأمل طفلًا يلعب بالأرض ليس له حيلة. ثم يتمم كل هذا بعتبة أخيرة، عتبة تُلمس بالعين، عتبة عبور رحالهم، فليس منها عودة. عتبة الموقف الأوديبي الذي يفصل التاريخ؛ يحولها بفنيته وفنيّة الشعر الذي يُسمح له ما لا يسمح للنثر، إلى عتبة مكانية. ففي كل مرة يعود ليزور ذكرى الطفولة وينكص بالزمان، لم يبق له منها سوى الطلل المدروس والعتبة التي لا عودة فيها؛ ليصير انتقال مكاني في عمود القصيدة. فتلك العتبة تكون مرةً نقبًا بين حزمي شعبعب، ومرة لدى جانب الأفلاج، ومرة في الشطر، ومرة دونهم غوارب رمل ذي آلاء وشبرق.. وما إلى ذلك بشكل متكرر لافتًا انتباه القارئ المبيّت النية. فليس ينبع في القصيدة بل هو جزء مما تنبع منه القصيدة.
وهكذا تطوى صفحة الفردوس المفقود، وتنتهي الأم التي ليس منها بقية سوى ذكرى السقوط من الجنة وسقوط ليي له سوى الاستسلام والانهزام والإيقان بتجاوزهم عتبة ليس لهم أن يعيدوا بعدها إلى الوجود، فهناك حارس خازن شديد بينهما: الأب/الكبت. وهذا يفسّر لماذا لا نعرف شيئًا عن أمه ولم يُحكى عنها شيء.
ليقفز بلا استئذان وبلا تجهيز ولا ارتباط، سوى الزمن الدي يحكي تاريخه أو يحكي تاريخ تشكلات محبوباته (وهن محبوبات بالجمع ليس بالتكرار بل بالنماذج الأصل: فهناك محبوبة الفردوس المفقود، وهناك محبوبة التلصص، وهناك محبوبة اللذة، وهناك محبوبة الإيلاج…؛ وليس لواحدة منهن أن تسرق حق أخرى أو أن تشابه أخرى)، حينها إلى “ملاعبة” النساء في أماكن عامة ومشتركة. فهن لسن أمهات لأحد (سلمى وعنيزة وهر) وإنما هن متزوجات، فمثيلة عنيزة الحبلى والمرضعة (فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعًا وإما كسلمى وبعلها ومثيلتها بيضاء العوارض. والمثل هو نفس الشيء، فلغة اللاشعور تساوي بينهما مهما خاتلنا بمراوغته الرقابة في اختلاف المسميات.
يلاعبهن دومًا وبلا تفاوت في حضرة آخرين، ملاعبًا إياهن غدرةً وفضيحة والسمار حول سلمى وزوجها معها، والعذارى مع عنيزة فيباغتهن وهن متمنعاتٍ، وإنما لسن شريفات يحفظن حق الزوج أو الشرف، بل متهتكات كالمومسات. فيصفهن لحمة لحمة (شرط أن تبقى ما دون الإباحية)!، ابتسامة ومشية وشعرًا وملمسًا ولونًا وملمس لونهن، ويصف نزعه ثيابهن قطعة تلو الأخرى؛ وبلا شك لم ينزع يومًا الثوب الأخير في أي قصيدة، وإنما يتوسدهن (ملحقًا إياهن التهمة بالتهمة والشبهة بالشبهة”: فقالت سباك الله إنك فاضحي”) ويدخل خدر عنيزة ليلعب ويميل الغبيط بهما من حركتهما عاقرًا البعير (ولكأن البعير هو الزوج الحاضر دائمًا) مؤكدًا أنها مثل (بل هي ذاتها في لا شعوره) الحبلى والمرضع التي تنحرف بشق له وشق لرضيعها ويلهو في قصيدة أخرى بآنسةٍ كأنها خط تمثال وبيضاء العوارض طفلة لعوب تنسيه سرباله. ثم بعد كل هذا التلذذ بالتلصص والتلمس وبوصف مشيتها وخصرها (تلك التي خاطر بها وبحياته من أجلها إذ يمكن أن يقطعوا رأسه وأوصاله عليها = خصيه عقابًا على اللذة المحرمة) يرمي في الأسطر بتهديدات الرقابة والكبت التي ستستعيد تهيمّات الموقف الأوديبي الغير محلول لدى امرئ القيس. فالزوج/الأب سيغضب وسيقتله خاصيًا إياه قاطعًا أوصاله ولذلك عليه الآن أن يهدأ من روعه حقيقةً، ليتبدأ أيمانه وحلفه ومحاولات إقناع المحبوبة (ذاته) مهدئًا روعها:
فقلت يمين الله أبرح قاعدًا،
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
يغط فطيط البكر شد خناقه
ليقـتلـني والمــرء ليس بقتالـي
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونــة زرق كأنياي أغـوال
فها هنا رغب الخصاء وقطع الذكر يتجلى حين ممارسة اللذة المحرمة مع الزوجة؛ استعادة كاملة تامة للموقف الأوديبي. فالزوج نائم لا يُعارض والزوجة/الأم تُخبره بأنه سيغضب ويقتله/يخصيه ليعود مطمئنًا ذاته بتصويره الكارتوني للزوج كحيلة من حيل اللاشعور المشهورة للتقليل من هول ورعب الوحش، فيصفه بأنه يغط غطيط البكر كمن يضع على رأس الوحش قبعة مهرج، ثم يطمئن نفسه مرة أخرى بأنه نائم، ثم يعود مطمئنًا نفسه مرة أخرى بأنه ليس يستطيع ذلك، بل انظري وتأكدي، فسيفي معي لم يُقطع ولم يخصى وهاهو يعيد ويكرر بشكل غير معقول ولا مقبول فنيًا، قائلًا: أفيقتلني وقد شغفت فؤادها؟؛ فليس خوفه من غضبه على انتهاك شرفه بل غضبه على محاولة تملكها وانتزاعها منه ثم يكمل مطمئنًا نفسه مرة أخرى – ولكأنه هلع مرضيّ- بأنه يهذي وليس بفعال ثم يستغرب بأنه (وماذا عليه أن ذكرت أوانسًا). فمن المستغرب أن يعطي كل هذا الكم من الأبيات الشعرية لهذه الجزئية الصغيرة في سياق الحادثة لولا أن كانت ذات كم هائل من الهلع والحصر ليس يلقاه من ليس مصابًا بذات العصاب وبذات الرعب اللاواعي نفسه. ولا يبعد عن بيضة الخدر التي معشرها حراص على مقتله. وهذا هو تجسيد كامل للموقف الأوديبي كما لو أن امرؤ القيس قرأ فرويد بكل ترهاته.
وحين تكتمل الليلة ويستلذ القارئ بالزوجات الخائنات كما تلذذ بهن امرؤ القيس؛ يبتر شاعرنا كل هذا باغتدائه على حصانه وصيده. اقتطاع تام لكل تلك الفضائحية والفحش، وكل ذلك التلذذ (تلذذ بكل الأعضاء عدا التناسلية!) ليقفز فجأة كلقطة سينمائية ممنوع من العرض إلى موقف مختلف كل الاختلاف؛ إلى فروسية وصيد وطرد وأسلحة سيوف ورماح وطعان ودماء. في الحقيقة ليس اقتطاع وحذف بل إعادة خلق لتمام تلك الليلة الفاحشة، المستمرة الفحش، التي تمنع الرقابة اكتمالها الجنسي بواحًا واكتمال التلذذ الجنسي التناسلي. منع يتجاوز العرض الشعري، جنبًا إلى جنب مع القواعد الأدبية والشعرية، إلى منع حقيقي وواقعي على امرئ القيس نفسه، فمحرم عليه اللذة الجنسية، فلن تسمح الرقابة بذلك لأنها تعلم ما حقيقتها في اللاشعور، وأيضًا لشدة رغبة الرقابة من الخصاء الذي أكدته مرارًا وتكرارًا أعلاه، فكل هؤلاء النساء مجرد صور وتكرارات للمحبوبة الأصل الخائنة = أم امرؤ القيس. وكل تلذذ سينتهي إلى الخصاء والقتل والتقطيع والشر. فأمرؤ القيس لا يستطيع أبدًا أن يمارس الجنس مع من اختارها محبوبة له. ولهذا اشتهر عنه كثرة ممارسة الجنس (إن استطاع لذلك سبيلًا) في بيوت الدعارة ومع الإيماء.
وها هنا كتسوية من الرقابة لضغوطات الرغبات وتنفيسها وشدة المحرمات وشدة الهلع والحصر من العقاب؛ يستبدل دائمًا اللذة الجنسية بلذة الفروسية والصيد وإيلاج الرماح في فرائسه كبديل عن إيلاجٍ في محبوبته (مضيفًا صبغة سادية على الجنسانية لديه سنتحدث عنها لاحقًا). وكل ذلك يأتي بعد أن يغطيه كآبة الليل ونجومه الثابتة كأنه موج البحر، سوداوية اللاشعور الهالعة من عقوبة اللذة أو محاولة الوصول إليها لتغمره كاملًا في تعذيبٍ أبدي ليس له منه مهرب، ويبت يكابد الليل التمام والقلب من خشية مقشعر ليصبح كالمفرج سراحه من هذا الليل الذي يكون رعبًا وهمًا.
وهاهو الفرس الأسطوري. فرس ليس فرسًا، بل كل شيء آخر. ساترٌ لدبره. وأسطرة هذا الفرس محاولة لخداع اللاشعور وزيادة للتمويه والمواربة عليه وعلى رقابته التي لا تكل ولا تمل ولا تضعف (كذلك امرؤ القيس كما يبدو لنا). فهو هيكل شديد، وذئ الغضى، كالصخر يكر ويفر ويقبل ويدبر معًا ويحط من عل = كأنها رهز ما يفعله المرء مع زوجته، رهز المضاجعة؛ بل يزيد أنه لا يستطيعها الغلام فهي للكبار:
“يطير الغلام الخف عن صهواته
ويلوي بأثواب العنيف المثقل”
وليس جزافًا هذا التأويل إن نظرنا لما يقول:
نواعم يتبعن الهوى سبل الردى
يقلن لأهل الحلم ضلًا بتضلال
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى
ولست بمقلي الخلال ولا خــال
كأنــي لمــا أركــب جــوادًا للــذة
ولم أتبـطـن كاعبًا ذات خلخال
فهاهو يعيد ما نقول أو ما نقوّله إياه أو ما قوّلنا هو: فالنواعم يقدن للهلاك وهو ينصرف عنهن خائفًا من الموت؛ لن يموت ولكنه يخشاه، شيء يعرفه من أعماق قلبه كما يُقال. وإنما يؤكد هذه المرة صراحةً بلسانه هو (وليس مستبدلًا لصورة المسرود رمزيًا بأن ركوبه للجواد لذة كما أوضح ذلك التحليل النفسي في هزهزة العربات والقطارات وما تبعثه من لذة. بل يصف امرؤ القيس ركوبه للفرس كهذا أفعال من رهز وهز وتقدم ورجوع، رتم تعرفه كل الثديات؛ لذة كانت أم جنس بواح. بل وصفه لجواده وناقته بذات التواصيف والتفاصيل التي يصف بها نساءه.
ليكمل ليلته الجنسية ويكمل لذتها، لكن خارج ما تحرمه الرقابة. فها هو في وضح النهار مع فرسه يطارد بالرمح ما يؤكد مرارًا بأنهن إناث من حمار الوحش أو البقر الملتفات حول فحلهن أو ثورهن كأنهن ذات الصورة للمحبوبة وزوجها معها، بل ذات الصور لكل تلك المحبوبات حول أزواجهن وفي حماهن؛ ثم ها هو يطاعنهن بالرماح، بل يصرح أكثر من ذلك بأنهن عذارى. وأن لهن أطفال يرعونهم ويعاطفونهم وكأنهن محبوباته المرضعات المتقيات بالزواج في حماه موضحًا تلك الرمزية لكي لا تخفى عن محقق يحل ألغاز لا وعيه هو:
ويا رب يومًـا قد أروح مرجــلًا
حبيبًا إلى البيض الكواعب أملسا
يرعن إلى صوتي إذا ما سمعنه
كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا
***
هما نعجتان من نعاج تبالة
لدى جؤذرين أو كبعض دمى هكر
(هما= فرتنى وهر، جاريتان)
فها هو سيطاعن هؤلاء العذارى التي هن ذاتهن صورة للكواعب العيط يرعوون إلى صوته هو امرؤ القيس وهو الأعيس (عيط: إبل، أعيس: البعير الأبيض). فهو الفحل هنا ثورًا كان أم بعيرًا. وها هو يطاعنهن وهن ملتفات في حمى فحلهن (الثالث المغبون) بكل عنفوانية الجنس، في مخيلته، وبكل لذة ركوب الفرس الأسطوري التكوين حد أنه لم يعد فرسًا بل شيئًا آخر، فرس يكر ويفر ويقبل ويدبر معا ويحط من عل…الخ.
فـعـنّ لنا ســرب كأن نعاجه
عذارى دوار في الملاء المذيل
***
فجال الصوار واتقين بقرهب
طويل القرا والروق أخنس ذيال
***
أولسن البقر أيضًا عذروات كما وصفهن؟ يتقبن بفحولهن؟ عذروات ذوات أطفالٍ كمحبوباته. وهذا لا يصعب جمعه في اللاشعور. ثم ها هن بعد الطعان يلطّخن فرسه بدماء الهاديات وتنزف نزفًا جارحًا مغرقًا؛ وكل هذا يدل على تضخيم لنزف العذارى حين الدخول بهن، تضخيم دال على أن امرئ القيس لم يحظ بزوجة حقة كما هو متعارف عليه في مجتمعه، بل ليس يعلم ماهي العلاقة الجنسية الحقة (سواء ما رسخ في تخيلاته منذ الطفولة من عنفوانية العملية الجنسية، من رهز وكر وفر وطعان وألم وتوجع وتسلط ووحشية).
ولكن هل من الممكن العودة لموضوع شواء اللحم وتوزيعه الدائم؟ له تفسير مرتبط لعصابه أهو هو جزء من القصة في سطحها ليس إلا؟ صورة فنية لكرمه ومكانته أم تكملة لممارسات اللاشعور ورمزياته المحرمة وتثبيتاته ونكوصاته القديمة الغائرة في القدم والعمق؟ فحين تكتمل لذته بالطعان وبالفريسة وإتمام النزف والكر والفر الحاط من عل والطراد؛ يبقى ويظل اكتمال شخصه وذاته مرتبطًا بتقديم الشكر والعرفان لأمه كمحبوبة أبدية وطروسًا أبديًا في لا شعوره، أي أن يكون زوجها = أن يكون أباه، إي أن يقدم لها الهدية التي تكمله وتكمل جنسانيته، القطعة الأخيرة التي يحتاج أن يكمل بها حاله، أن يمنحها الابن، ابنه. وكشكل آخر من أشكال النكوص للمرحلة الشرجية والتثبيت عليها في شكلها الإيجابي، أي الهدايا والعطايا، وفي شكلها السلبي أي البخل والعناد. لتجتمع كل مساراتها وتياراتها في شكل طقوسي احتفالي: فها هو في كل مرة يوزع للعذارى اللحم حين عقر لهن ناقته. وها هو أيضًا يعود به مستعجلًا حينما كان يصيد مع رفاقه الذكور دون أن يوزع أو يعطي لهم منها شيئًا سوى ما اشتووه جبرًا وأكلوه على عجلٍ:
نمش بأعراف الجياد أكفنا، إذا نحن قمنا عن شواء مهضب
ورحــنا كأنا جــؤاثى عـشيـة
نعالي النعاج بين عدل ومحقب
***
يظل العذارى يرتمين بلحمها
فيا عجبًا من رحلها المتحمل
وكل هذا يدل على اكتمال مطولات امرؤ القيس وبطلان ما سيق عنها بأنها مقطعات وكل بيت لا يلزم بيتًا آخر. إنما يظل هناك تساؤلات عدة:
أ) هل مارس امرؤ القيس الجنس الحقيقي؟
إن كان هناك أمل لذلك أمام هول ورعب رقابته وكبته وعدم انحلال وانتهاء الموقف الأوديبي، فهو أمل يوجد في بعض أبياته عبر ممارسته إياه في بيوت الدعارة ومع الجاريات. فهن منحطات تمامًا حد أن الرقابة تتغاضى وتتنازل عنهن بأن يكن موضعًا للجنس. فهن لسن محبوبات (صورًا للأم) ولسن ذات قيمة وتقدير (صورًا للمحبوبات الحوامل والمرضعات وذات الأزواج)، وفوق ملذاتهن للهو ولسن للذة!! فاللذة محرمة.
وبيت عذارى يوم دجن ولجته.. الخ
***
ديار لهند والرباب وفرتني
ليالينا بالنعف من بدلان
***
أغادي الصبوح عند هر وفرتنى
وليدًا وهل أفنى شبابي غير هر
ب) كيف هو موقفه الأوديبي؟ أو كما يسميه فرويد “الرواية العائلية”؟
أو لأنه يُستشف الكثير من صمته. إنما ليس هنالك ما يُستطاع استنطاقه، خاصة عن أمه سوى أن اسمها فاطمة وقصة ارضاعه من كلبة (وصور المحبوبات المزمعات الصرم اللاتي يرجو تجملهن). وأن أبيه قُتِلَ وهو يلهو فحرم على نفسه كل شيء حتى اغتاله قيصر الروم ولم يروِ عطشه عنه شيئًا أو بالأصح، كما يُخبرنا فرويد عن ديميتري كارامازوف الذي ما زال يطارده هوامه وهوسه برغبته في قتل أبيه تباعًا للاشعور وعملياته، فهاهو يُطارد ذاته التي لا يستطيع أن يغفر لها تحقيق أمنيتها (فمهما انتقم وقتل وحارب لم يصل للمجرم الحقيقي الذي يلاحقه لاشعوره ورقابته وكبته وأناه الأعلى؛ ذاته). بل كأنه ديميتري كارامازوف الذي أيقن أنه هو القاتل وطارده الهوس حد الجنون، بل كدوستويفسكي نفسه الروسي ابن القرن التاسع عشر الذي ظل يصرع نفسه كعقاب على طباق أمنية موقفه الأوديبي الغير منحل ولا منتهٍ بقتل أبيه واستبداله، مطابقًا إياه لا شعوريًا مع ما حدث لأبيه عندما اُغتيل حقًا على يد خدمه.
ولكأن ذات القصة تُعاد واتكرر. ولربما يجعلنا نُعيد النظر في قصة الحلة من قيصر والقروح الدامية، ليُعاد سردها مستوضحًا أشياءً خارج القصة والسيرة المستنبطة من الأبيات لا العكس لترسيخها ومسخها من عمل فني وأدبي إلى مجرد شواهد:
“قُتِل والده ثم تحمّل الذنب وشدت عليه الرقابة بالعقوبات حد تحريم الملذات واللهو والخمر، فهاهو يعترف بأنه حمل دمه كبيرًا، وها هو يسيح في الأرض محاولًا الثأر لأبيه، ومهما قتل لم يشبهه ذلك (لم يثأر من القاتل الأصلي في محكمة اللاشعور ورقابته)، وحينما يقرر أخذ المُلك واستعادته واستبدال نفسه بأبيه (أن يكون أبًا وأن يُحقق الأمنية الأوديبية القصوى)، يعاقبه الحاكم الأعلى والأقصى: قيصر/الأنا الأعلى بالموت، وبإلباسه الحلة (أي تحقيق أمنيته، إنما أمنية فيها سمها وفيها هلاك صاحبها)، ليحل به الرعب القديم (الخصاء الأوديبي)، فها هو لا يموت وإنما يتساقط وتتساقط أطرافه، من دائمٍ قديم يخشاه ويغيب عنه ويعاوده وليس من حلة قيصر حقيقةً (كأنه صرع دوستويفسكي) فليست الحلة التي أصابته بالمرض، بل داء قديم من غياهب التاريخ محاذرًا أن ينكسه مرتدًا فيما أحل به من عقاب وعذاب:
تأوّبني دائي القديم فغلسا
أحاذر أن يرتد ردائي فأنكسا
***
فلو أنها نفس تموت جميعةً
ولكنها نفس تساقط أنفسا
وبدلت قرحًا داميًا بعد صحةً
فيا لك من نعمى تحولن أبؤسا
فهاهي العقوبة المستبدلة. وإن كانت حقًا قرحًا داميًا طفت على جسده فلا يصعب توظيفها الذهني والشعري أن يعيدها إلى غير حقيقتها وواقعها، أي إلى حقيقتها الذهنية واللاوعية، كتصور وعقوبة من الله على سوء الأفعال والذنوب كما نؤمن نحن بذلك.
وها هو يصرح بأنه المُلك أو الموت هو ما نحاوله وما نبتغيه؛ وبكى الصاحب من قيصر لا من الموت. متنبئًا بما سيحدث ولكأن الصاحب هو امرؤ القيس ذاته، عارفًا بدخيلته ومتنبئًا بما ستحدثه هذه الدواخل ورعبه من هول وصرامة قيصر.
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فـقـلـت له لا تبك عـيـنـك إنما
نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا
وإني زعـيـم إن رجـعـت مملكًا
بسير ترى منه الفرانق أزورا
فأمرؤ القيس يماثل “الهو Id” وعمرو الذي تبكيه أمه ويبكيها ويبكي من قيصر يماثل “الأنا Ego” ويماثل قيصر “الأنا الأعلى/SuperEgo”. ولا يصعب على الفن/اللاشعور أن يقسّم الذات إلى شخوص عدة (ولا ننسى أن اختيار امرؤ القيس لعمرو كما تخبرنا القصة كان بناءً على شعره، مماثلًا ذاته، ثم بعد ذلك يقدح بعد كل ما ضحّى به وكابد من أجله:
إذا قلت هذا صاحب قد رضيته
وقرت به العينان بدلت آخرًا
كذلك جدي ما أصاحب صاحبًا
من الناس إلا خانني وتغيرا
ولمخيلة امرؤ القيس أن تخلق أو تخزن قصة قيلت عنه عندما ملّ والده من لهوه وفسوقه (تحديدًا: شعره في فاطمة التي تحمل ذات اسمه)، بأن أمر أحدهم بقتل امرؤ القيس وأن يأتيه بعينيه. ذات القصة القديمة تتكرر. وإنما لا يخفى هول تصوره لوالده ورعبه منه ومن شخصيته المهيمنة التي تتكرر كثيرًا بشكل مفاجئ وبوصف شديد الدقة في أوصافه وحديثه عن فحل النعام أو حمير الوحش أو البقر.
فيصف فحل حمار الوحش:
عنيف بتجميع الضرائر فاحش
شايم كذلق الزج ذي ذمرات
ويصف ذكر النعام الذي ترتعد أنثاه حين عودته أو حمار يطارد إناثه العديدات الكثيرات الحمل:
إذا راح للأدحي أوبًا يفنّها
تحاذر من إدراكه وتحيص
أذلك أم جون يطارد أتنًا
حملت فأرى حملهن دروص
وهو حمار مضرب عليه آثار العض في أعقابه والسهام والنطح في وجهه؛ شديد البأس. ما أبدعه من وصف يفوق ريشة أي رسام للفحل ولما يرمز إليه من صورة طفولية للأب المعظّم المهول.
أما أمه المغيّبة تمامًا لربما يُمكن إعادة رسمها بوقت آخر عبر تجميع الصور المشتركة لشتى النساء المنثورات رسومهن وصورهن في شعره، كما فادتنا صور الفحول في إعادة النظر إلى تصوّره أبيه.
ومن ها هنا نحاول بجد يمزجه استخفاف، أن نضيء عبقرية وفن من طرق الشعر فنًا ومارسه كذلك. شخصًا لا يطابق شعره شخصه ولا حياته، واختلقت قصص كثيرة لجمعهما أكثر مما اُختلق ونحل عليه من شعر. وطفولة تخفى تمامًا عن مرآنا، وأم لا يوجد لها ذكر البتة، ولكن هذا سيتغير يومًا وبلا شك ستعيننا عينا فاوست النفس البشرية: التخليل النفسي.
المراجع:
– ديوان امرؤ القيس؛ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف
– ثلاث مقالات في نظرية الجنسية؛ سيغموند فرويد – ترجمة سامي محمود، دار المعارف
– الشعر والشعراء، ابن قتيبة تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف
– الحياة الجنسية؛ سيغموند فرويد – ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة
– التحليل النفسي والفن؛ سيفموند فرويد – ترجمة سمير كرم، دار الطليعة
عدد التحميلات: 0