العدد الحاليالعدد رقم 44ثقافات

صراع على الحمض النووي حكاية غير مكتملة

تاريخ العلم والكشوفات العلمية يتماهى في وجه من وجوهه مع المعارك الكبرى، فما يتمخض عنه من نتائج يجبُّ ما قبله من وقائع، فيغدو الأمر كما لو أنه قطيعة معرفية بين سابق ولاحق أو عتيق وجديد، ولكن ربما الأهم في كل ذلك أن العلوم والمعارك يخرج منها المنتصرون والمهزومون.

لا ريب أن من بين ما اكتشفه البشر من حقائق غيرت مجرى التاريخ الإنساني لم يك، كما هي العادة، في حقول الطبيعة المنفصلة عن الإنسان، بل كانت كشفًا واختراقًا كبيرًا لدخائل الإنسان نفسه. كما أنها لم تك تصورًا نظريًا مستقلًا عن بنية البشر، مثلما فعل سيغموند فرويد في تصميم طبوغرافيا للنفس الإنسانية، بقدر ما كانت عثورًا على جزئية مادية شاخصة تمثلت باكتشاف الحلزون المزدوج أو بنية الحمض النووي الريبي منقوص الأوكسجين أو ما بتنا نطلق عليه الـ (دي إن إي).

جيمس واطسون

هذا الكشف التاريخي المسجل في العام 1953 باسمي الأمريكي جيمس واطسون والبريطاني فرانسيس كريك كان الأساس لنشوء علم الأحياء الجزيئي الذي يبحث في الكيفية التي من خلالها تتحكم الجينات في العمليات الكيميائية في الخلية. ومنح هذا الكشف الثوري للبشرية إمكانات هائلة في تفكيك الشفرة الوراثية وتخليق البروتين والذهاب أبعد من ذلك في صياغة تقنيات تفوق مخيلة البشر في الهندسة الوراثية والتسلسل الجيني السريع والأجسام المضادة وحيدة النسيلة.

والحق أن التقدم المضطرد في حقول البصمة الوراثية والطب الشرعي الحديث، ووضع خريطة دقيقة للجينوم البشري، والعلاج الجيني، إنما ينسب الفضل فيها إلى الكشف المذهل المسجل باسم واطسون وكريك. فالجهد الذي قام به هذان العالمان البارزان تجاوزت آثاره كشف الحلزون المزدوج، فقد رج بقوة علم الأحياء برمته وأعاد تشكيله مرة أخرى، وتحول إلى ظاهرة تتجسد في الفنون والفكر والأدب والموضة والترفيه.

توج المنتصرون في معركة الحمض النووي في حفل جائزة نوبل عام 1962، إذ منحت الجائزة في ميدان الطب بالتساوي بين جيمس واطسون وفرانسيس كريك وموريس ويلكينز، ولكن المنتصر الحقيقي كان قد فارق الحياة وقتها ولم يمهله القدر كي يعتلي منصة التتويج قبل الثلاثة أياهم. ولم يكن المنتصر الفعلي الذي طواه النسيان سوى العالمة البريطانية روزاليندا فرانكلين، فقد مكثت في ظلمة هوامش التاريخ حتى دفع بها واطسون نفسه إلى أضواء المتن التاريخي بالحديث عنها في كتابه الشهير (الحلزون المزدوج) الصادر عام 1968. في الفصل الثاني من الكتاب جاء ذكرها بشكل سلبي بوصفها امرأة لم تملك زمام السيطرة على انفعالاتها ولم تكن كباقي النسوة تعير اهتمامًا لمظهرها، وأن عملها معاونة لموريس ويلكنز سبب له الضيق والغضب، فهي – والحديث لواطسون – تجنح للجدال والمشاكسة، والأكثر استغرابًا اعتقادها باكتشاف الحمض النووي.

روزاليندا فرانكلين

ومن نافل القول، إن فرانكلين التي توفيت عام 1958 بمضاعفات سرطان المبايض لم تتح لها فرصة الرد على خصومها الأحياء، وعلى رأسهم واطسون. غير أن الوثائق والرسائل والمخطوطات وسجلات المختبرات المرتبطة بالصراع المرير حول اكتشاف الحمض النووي، بما في ذلك متابعات قامت بها دوريات علمية كانت تتابع بشكل حثيث جهود العلماء في هذا الميدان، رسمت صورة واضحة للدور الكبير والمركزي الذي قامت به فرانكلين في هذا الكشف، وهو دور رآه الكثير من علماء الأحياء السبب الرئيس في اكتشاف الحمض النووي. وبعيدًا عن الوصف الذي ساقه واطسون في كتابه، تكشف السيرة الذاتية لروزاليندا فرانكلين عن عالمة نابهة متقدة الذكاء، تتحلى بقدر عالٍ من النزاهة الأخلاقية. إذ منذ نعومة أظافرها تيقن معلموها من جهدها في تحصيل العلم والتفاعل مع المعلمين، بأنهم إزاء طالبة تمتلك عقلًا علميًا منظمًا، ولربما عزز من قدراتها المائزة تلقيها التعليم في عدد من المدارس النخبوية المشهود لها بالصرامة العلمية، وانضمامها لاحقًا إلى جامعة كامبريدج العريقة، حيث حازت فيها درجة الدكتوراه في الكيمياء الفيزيائية. وهذا الإنجاز كان في زمن تستبعد منه النسوة من هذا التخصص الذي كان يعد ميدانًا حصريًا للذكور، وفي تلك الجامعة سجلت فرانكلين أول إنجاز لها حين قامت بتطوير المنهج التجريبي لتخصصها بحيث غدا أكثر دقة وصرامة، ومن ثم أصبح صراطًا تسير عليه في كل عملها.

موريس ويلكينز

بعد وقت ليس بالطويل توجهت فرانكلين إلى باريس، حيث وجدت فرصة سانحة تمكنها من تطبيق التقنيات الجديدة لحيود الأشعة السينية على بنية الفحم. ودون أدنى شك كانت إقامتها هناك مثمرة على المستوى العلمي، إذ عملت بشكل دؤوب على دراسة الفحم باستخدام الأشعة السينية في مختبر جاك ميرينغ. ولكن تلك الإقامة لم تدم طويلًا فقد عادت مرة أخرى إلى لندن، حيث ألفت نفسها في بيئة علمية يهيمن عليها الرجال وينظرون إليها بازدراء وتعالٍ. وقتذاك وطدت فرانكلين سيرتها كعالمة، ومؤلفة للعديد من المنشورات العلمية. كان عملها قبلذاك في كلية بيركبيك المرموقة في لندن مثمرًا ودون أي منغصات، فقد سجلت مع العالم آرون كلوغ كشفًا جديدًا يتعلق في بنية فيروس فسيفساء التبغ. ولكن رياح الحظ هبت على غير ما تشتهي مسيرتها العلمية، فقد انتقلت في السنتين الأساسيتين والأكثر أهمية في حياتها المهنية إلى وحدة الفيزياء الحيوية في كلية كينجز كوليدج في لندن، التي لم يطق علماؤها فرانكلين، وبدورها لم تستسغ ذكوريتهم الفائضة. منذ أن وطأت قدماها المكان شن ويلكنز القائم على دراسة الحمض النووي حربًا شعواء عليها، وكان وقتها قد بدأ النظر إليه بوصفه مشكلة يختص بها حصرًا علم الأحياء البنيوي. كان ويلكنز عالمًا رصينًا وأمضى وقتًا مديدًا يبحث في هذه المشكلة، ولكنه كان بحسب وصف مجايليه لا يتمتع بالبصيرة القوية، ولم تكن بحوزته بيانات يعتد بها. وهذان ما كانت تتحلى بهما الوافدة الجديدة إلى علم الأحياء، إذ إن فرانكلين هي من طرحت المشكلة بشكل دقيق، وتحديدًا بالقول إن الحمض النووي موجود في شكلين مختلفين. وتمكنت من أن تنتج صورة واضحة لكليهما. وجرت المفاهمة على أن تعمل فرانكلين على أحدهما فيما يبحث ويلكنز في الآخر، لكن الأخير لم يكن نزيهًا في صون هذا الاتفاق.

طلب ويلكنز من كريك وواطسون مقابلته سريعًا في كامبريدج، واغتنم عطلة نهاية الأسبوع في لقائهما وتسليمهما ما وقع بين يديه من معلومات توصلت إليها فرانكلين، وكان الاثنان قد قطعا شوطًا في تصميم نموذج الحمض النووي، ولكن ما أوضحته المعلومات الجديدة أن منهجهم العلمي الذي يتقيدون فيه كان أقل دقة من المنهج الذي تسير فرانكلين وفقًا له. غير أن كريك وواطسون كانت وتيرة عملهما أسرع بكثير من فرانكلين. ربما أسهمت تلك البيانات بتصحيح مسارهما البحثي، ولكن من المؤكد أن واطسون رجع إلى إنكلترة مرة أخرى بعد بضعة أشهر ليطلعه ويلكنز على الصور التي التقطتها فرانكلين بالأشعة السينية، وتوضح بجلاء بنية نموذج الحمض النووي الذي تعمل عليه، ونسخ واطسون النموذج على هامش جريدة كانت معه.

للتاريخ، تمكنت فرانكلين أثناء عملها في كلية كينغز في لندن من إنتاج أفضل صور حيود الأشعة السينية لألياف الحمض النووي، وكانت الأكثر وضوحًا في تاريخ العلم.  وهذه الصور، متى ما صاحبها فهم دقيق للكيفية التي تنتج فيه حيود الأشعة السينية الصور الدقيقة، بالإمكان معرفة كيمياء قواعد الحمض النووي الأربعة ومن ثم مفتاح الحلزون المزدوج. قام وويلكينز وفرانكلين بنشر نتائج اكتشافهما في الوقت نفسه الذي نشر فيه كريك وواطسون مقالتهما العلمية التي توضح بجلاء اكتشافهما الكيفية التي يخزن فيها الحمض النووي المعلومات الوراثية ونقلها إلى الأجيال المتعاقبة. ومثلما هو معلوم، تقاسم كريك وواتسون وويلكينز جائزة نوبل في عام 1962. وجرى استبعاد فرانكلين لسببين؛ أولهما أن جائزة نوبل لا تمنح لأكثر من ثلاثة، وثانيهما أن الجائزة لا تقدم لشخص غادر الحياة. وبقى دور فرانكلين مجهولًا إلى أن صدر كتاب واطسون (الحلزون المزدوج) بعد عشر سنوات من وفاة فرانكلين، فعادت سيرتها إلى الحياة مرة أخرى.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

منصور مبارك المطيري

باحث ومترجم من الكويت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى