العدد الحاليالعدد رقم 44ثقافات

أندرو فينبرج وقصة الميكنة

دائمًا ما يُلقى الواقع الاجتماعي بظلاله على المشهد الإنساني، فتتحرك فصوله، وشخوصه، تبعًا لمجريات هذا الواقع، كما تنضبط قواعده وترتيباته وفقًا لزواياه. تبدأ فلسفة ما بعد الحداثة بمراجعة مشاهد الحياة اليومية، بأعراضها ومظاهرها، بإشاراتها وعلاماتها، وهدفها من ذلك هو الكشف عن علاقة الفرد بالواقع المُعاش، والتعرف على الشروط والقيود التي قد تؤدي إلى تآكل هذه العلاقة، أو التي تحول دون تبلورها، بغض النظر عن قدرة هذا الفرد على التعبير عنها، وبغض النظر عن الفرص التي قد تتاح لهذا التعبير أن يكتمل.

ويرى أندرو فينبرج* Andrew Feenberg أن فلسفة ما بعد الحداثة، هي مجرد موقف من المجتمع المعاصر، وبصرف النظر عن اتجاه هذا الموقف، من حيث تشاؤمه أو تفاؤله، فالمؤكد أنه يستند على حقيقتين أكدتهما الأطر الاقتصادية والتنظيمية في هذا المجتمع، كما أكدتهما أيضًا الخبرات والممارسات التي جرت منذ الربع الثاني من القرن العشرين، الحقيقة الأولى تتعلق بخصائص المجتمع المعاصر، والتي تصب في جهة التحكم في الحياة الاجتماعية، بغرض رفع مستوى تنظيمها، وتطوير قدرتها على الإنتاج، وتحسين أشكال الاتصال بين أطرافها، وهذه الخصائص تُعبر، بشكل ما، عن ميكنة المجتمع، حيث يتحول أفراد المجتمع وتفاعلاتهم ووعيهم، إلى مواد أولية، أوخام، تتطلبها عمليات الإنتاج، إنتاج المادة والتنظيم والاتصال.

أما الحقيقة الثانية فهي أن المجتمع المعاصر يقوم على استبدال التقاليد والقيم والمعايير الثقافية، بأبنيته المادية وتنظيماته العقلانية، التي تتعامل مع الفرد بوصفه كائنًا عقلانيًا لديه القدرة على القيام بأدواره الاجتماعية ومهامه التنظيمية، ولديه المقدرة على حساب عوائد هذه الأدوار ومردوداتها، فضلًا عن مهارة المفاضلة بين البدائل المتاحة. ويرى فينبرج أن الحقيقة الأولى قد انعكست على الواقع الاجتماعي للأفراد، في صورتين، أولاهما أن ميكنة المجتمع تتم، في غالب الأمر، تحت ظروف سيطرة القوى الرأسمالية والبيروقراطية، وعلى ذلك فالتبلور النهائي لفكرة ميكنة المجتمع، لا تتم سوى من خلال الهيراركية التكنولوجية، التي تتوزع عبر مستوياتها كافة القوى الاقتصادية والإدارية والتكنولوجية، وفي الصورة الثانية، تتمكن هذه الهيراركية من مد سيطرتها على الحياة الاجتماعية، وتبدأ في إعادة بناء الهيراركية السياسية والاجتماعية، بما يتناسب مع مصالحها، وبما يتوافق مع توازن تنظيماتها.

وقد انعكست الحقيقة الثانية، أو احلال التنظيم محل الثقافة، كذلك على الحياة الاجتماعية، في شكلين، أولهما هو تواصل الصراع بين كل من القوى العقلانية والتقليدية داخل المجتمع، وتناقض وضعية الفرد في هذا الصراع، فهو من ناحية قدرته على المفاضلة، وبعقلانيته، وبدوره في عملية الإنتاج، يقف في صف التنظيم، وفي نفس الوقت، ومن ناحية علاقاته الاجتماعية، ووعيه، وقدرته على الوفاء باحتياجاته الأساسية، يقف في صف الثقافة. أما الشكل الثاني فيتعلق بعلاقة الفرد بالتنظيمات البيروقراطية، التي تحدد دوره الإنتاجي، وشكل اتصالاته، ومستويات إشباعه، والتي يبدو فيها هذا الفرد محاصرًا بين انحسار دور القوى التقليدية في المجتمع، وبين القدرة الذاتية للتنظيم العقلاني على النمو والتطور، والتوازن، بغير الحاجة لأفراد المجتمع، سواء باعتبارهم مجرد مواد خام لعملية الإنتاج، أو حتى باعتبارهم القائمين على تنظيمها.

ويؤكد بذلك فينبرج على وجود علاقة بين كل من تطور التكنولوجيا وتوزيع القوة الاجتماعية، فمن زاوية تلعب العقلانية التنظيمية دورها في تغيير شكل التحكم المركزي، بطبيعته السلطوية، واستبداله بأنظمة ربما تبدو أكثر ديموقراطية، ومن زاوية أخرى، فالمجتمع الذي لا يعتمد في بناء هيراركيته السياسية والاجتماعية على التكنولوجيا، يحاول البحث عن بدائل عقلانية لتغيير شكل التحكم المركزي، وربما كانت التكنولوجيا واحدة من هذه البدائل، ويعني هذا أن المطالبة بتغيير شكل العلاقة بين تطوير التكنولوجيا وتوزيع القوة الاجتماعية، سوف تتخذ مظهرين، أولهما هو تغيير الأشكال البيروقراطية التقليدية التي تهدف إلى فرض التحكم، أكثر مما تهدف إلى تطوير التكنولوجيا أو زيادة الإنتاج، والمظهر الثاني هو الحركات الاجتماعية التي تطالب بتقليل الآثار الاجتماعية والثقافية السلبية لهذه التكنولوجيا.

وتستند ميكنة المجتمع على مبدأين أساسيين، المبدأ الأول منهما، هو المحافظة على الهيراركية الاجتماعية، وينص على أن التكنولوجيا لا تنتج هذه الهيراركية أو تؤثر عليها فحسب، بل إنها تقوم بحمايتها والحفاظ عليها وإعادة إنتاجها أيضًا، ويرى فينبرج أن هذا المبدأ يفسر استمرار وجود وإطراد نمو القوى الرأسمالية في المجتمعات المعاصرة عبر العقود الأخيرة. المبدأ الثاني، هو الإصلاح العقلاني، ويقصد به فينبرج أن التكنولوجيا الجديدة، بطبيعتها، قد تمثل تهديدًا للهيراركية الاجتماعية القائمة، ولتوازن تنظيمها، في بعض الحالات، وفي حالات أخرى ربما تقوم التكنولوجيا الجديدة بالضغط على هذه الهيراركية لتحقيق مجموعة من المصالح والأهداف، التى لم تكن لتتحقق في ظل الوضع القديم، ويفسر هذا المبدأ، وفقًا لفينبرج، دور التكنولوجيا في إعادة بناء طريقة التحكم في الحياة الاجتماعية، وإصلاح الأبنية التي أنشأت من أجل هذا الغرض.

ويؤكد فينبرج أن المبدأ الثاني لميكنة المجتمع، والذي يخص الإصلاح العقلاني، هو مركز مدخله النظري الذي يطلق عليه ديموقراطية التكنولوجيا، هذا المدخل الذي يحاول استغلال الجوانب الإنسانية والإيجابية في تطور التكنولوجيا لفائدة إصلاح المجتمع، فالتكنولوجيا في نهاية الأمر، أحد منتجات الإنسان، وأحد صور إبداعه، كما أنها تنتمي، بشكل ما، إلى الشق المادي من ثقافته، وهذه هي الجوانب الإنسانية، وإذا انتقلنا إلى الجوانب الإيجابية لتطوير التكنولوجيا، فسوف نجدها تتجاوز تأمين الوفاء بالاحتياجات الأساسية، وتحسين ظروف العمل، ورفع معدلات الإنتاج، لتصل إلى قدرتها على التأثير في توازن الوضع الراهن، وتهديد كل من مصالح الهيراركية الاجتماعية القائمة، وكذلك أهدافها، وتشترك الجوانب الإنسانية والإيجابية معا في توضيح البعد الاجتماعي للتكنولوجيا.

وفي معظم الأحوال، تأتى معارضة ديموقراطية التكنولوجيا، من جهة القوى الرأسمالية التي تسيطر على عملية إنتاج هذه التكنولوجيا وتطويرها، ومن جهة فئة التكنوقراط التي تقوم بهذه العمليات، وفي الحالتين تحاول القوى الرأسمالية والتكنوقراطية تأكيد استقلال التكنولوجيا عن المجتمع، وبمعنى أدق تحاول تخليص التكنولوجيا من بعدها الاجتماعي الذي تتصف به، لكي تبقى مجرد جهد إنساني من مجهودات ميكنة المجتمع، ويقصد فينبرج بذلك أن ديموقراطية التكنولوجيا تبدأ بوعي أفراد المجتمع، بتبعية هذه التكنولوجيا لهم، وبعدم استقلاليتها عنهم، وربما تتمثل العقلانية الجديدة هنا في اكتمال هذا الوعي، وهو ما يصب في مصلحة تفسير السبب الحقيقي وغير المعلن في معارضة القوى الرأسمالية لديموقراطية التكنولوجيا، ذلك لأن عدم استقلالها، أوتبعيتها لوعي أفراد المجتمع، من شأنه أن تَفقد هذه القوى سيطرتها على الهيراركية السياسية والاجتماعية.

ويعنى ذلك أن التكنولوجيا، في بعدها الاجتماعي، ليست مستقلة تمامًا عن أفراد المجتمع، كما يعنى أيضًا أن مقاومة هذا الاستقلال سوف يرفع من احتمالات حدوث الصراع بين القوى الرأسمالية وأفراد المجتمع، فالقوى الرأسمالية سوف تحاول الهيمنة على مجالات العمل وعلى فرص تطوير التكنولوجيا، وسوف يحاول هؤلاء الأفراد من ناحيتهم التأكيد على تبعية التكنولوجيا لهم، ولا شك في أن اكتمال الوعي، بمفرده، قد لا يتمكن من حسم هذا الصراع. وقد تكون العقلانية الجديدة، في جوهرها، هي محاولة جمعية من جانب أفراد المجتمع لمواجهة هذا الصراع، من خلال إعادة صياغة الموقف المشترك نحو تبعية التكنولوجيا لأفراد المجتمع ومن خلال إعادة توجيه هؤلاء الأفراد إلى البعد الاجتماعي لهذه التكنولوجيا، ولأصولها الثقافية، وإلى حاجتهم لإيجاد أشكال تنظيمية تتولى مهمة هذا التوجيه.

ومفاد ذلك، أن العقلانية الجديدة هي المجال الاجتماعي لإصلاح العلاقة بين كل من تطور التكنولوجيا وتوزيع القوة الاجتماعية. ويشير فينبرج إلى دور التدخل السياسي في حسم نتيجة الصراع بين القوى الرأسمالية وأفراد المجتمع، حول استقلال التكنولوجيا، سعيًا وراء الحفاظ على محورية دور هذه القوى في المجتمع، وتثبيتا للهيراركية الاجتماعية القائمة على محوريته، وبمعنى آخر فالعقلانية الجديدة، هي محاولة جمعية لتصحيح مسار التدخل السياسي في عملية تنظيم المجتمع. ويبرز، حينئذ، دور الحركات الاجتماعية التي تطالب بتقليل الآثار الاجتماعية والثقافية السلبية للتكنولوجيا، وباعتباره وجها آخر للمطالبة بتغيير الأشكال البيروقراطية التقليدية التي تهدف إلى مركزية التحكم، أكثر مما تهدف إلى تطوير دور أفراد المجتمع في إنتاج التكنولوجيا، بجانبها الاجتماعي الثقافي الذي يعكس عدم استقلالها عنهم.

وهكذا يكشف فينبرج عن الصيغة الديالكتيكية للعلاقة التي تربط بينهما، فالتكنولوجيا تنتج الهيراركية الاجتماعية وتعمل على حمايتها، وفي نفس الوقت، يؤدي تطوير التكنولوجيا إلى تهديد الهيراركية القائمة، ويفقدها توازنها، وقد يُعيد بناءها على أرضية المصالح والأهداف الجديدة، التي أوجدتها نفس الظروف التي تم فيها تطوير هذه التكنولوجيا. ويرى فينبرج أن الوعي الجمعي بطبيعة هذه العلاقة الديالكتيكية بين كل من المحافظة على الوضع الراهن والإصلاح، هو الدور الأساسي لمجهودات وتنظيمات العقلانية الجديدة، وربما يكون أيضًا هو الدليل القاطع على استقلال التكنولوجيا عن أفراد المجتمع، أو تبعيتها لهم.

*أندرو فينبرج فيلسوف أمريكي معاصر بارز في مجال فلسفة التكنولوجيا والنظرية الاجتماعية النقدية. يُعرف بشكل خاص بتطويره لنظرية نقدية للتكنولوجيا تتجاوز الحتمية التكنولوجية والآراء المحايدة للتكنولوجيا، مؤكدًا على أن التكنولوجيا تتشكل اجتماعيًا وسياسيًا وتحمل في تصميمها قيمًا ومصالح معينة. يعتبر كتابه (النظرية النقدية للتكنولوجيا) دار نشر جامعة أكسفورد، 1991 عملًا تأسيسيًا في هذا المجال، حيث يقترح مفهوم «الترشيد الديمقراطي» للتكنولوجيا. استكشف فينبرج في أعماله اللاحقة خاصة كتاب: (الحداثة البديلة)، دار نشر جامعة كاليفورنيا، 1995، والتشكيك في التكنولوجيا، دار روتليدج، 1999. العلاقة بين التكنولوجيا والحداثة، وإمكانية وجود «حداثات بديلة»، وأهمية البعد الاجتماعي للتكنولوجيا في تحقيق ديمقراطية تكنولوجية. يُعد فينبرج مساهمًا هامًا في فهم التأثيرات المعقدة للتكنولوجيا على المجتمع والثقافة والسياسة.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

د. أمير نصر

أستاذ مشارك علم االجتماع – مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى