العدد الحاليالعدد رقم 44ثقافات

قيمة الوقت في التراث الإسلامي

«الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك» يوحي هذا القول بأهمية وقيمة الوقت في حياة الإنسان، فهو أثمن ما يملك الإنسان، وأعدل شيء بين الناس. وقد عني الإسلام أشد العناية بالوقت، وبين قيمته في أكثر من موضع وسياق. فقد أقسم الله عز وجل في سور عديدة بأجزاء من الوقت، كالليل، والنهار، والفجر، والضحى، والعصر.

ومن المعلوم أن الله ما أقسم بشيء من خلقه، إلا ليبين ويلفت أنظار الإنسان لقيمته وأهميته. ولهذا فالإنسان مسؤول يوم القيامة عن وقته وفيما أفناه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تزولا قدما عبد حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا فعل به).

إن تعاقب الليل والنهار، وسرعة تواتر الأيام والشهور والسنين بيننا، لآية لقوم يتدبرون. والواقع أن تصوراتنا للوقت، تختلف من شخص لآخر، ومن مجتمع لآخر، تبعًا لتفاوت الاهتمامات والانشغالات والوعي بين الأفراد والمجتمعات. ففي الوقت الذي نجد فيه أناس يتوافرون على «فائض» من الوقت، ولا يجدون منفذًا لإفراغه، ومنزعجون من ثقل وبطء دوران عجلة الوقت، فتكون المقاهي مأواهم، نجد في المقابل، طائفة أخرى تشتكي عدم كفاية الوقت، وتدخل في صراع وتسابق معه، لاستيفاء كافة أعمالها وانشغالاتها ومشاريعها.

ولعل المشكلة لا تكمن في الوقت في حد ذاته، بما هو أعدل قسمة بين الناس في الشرق كما في الغرب، بقدر ما تنبع من نظرتنا وكيفية إدارتنا وتنظيمنا للوقت. ولهذا، فإن الشخص الأكثر تنظيمًا للوقت، هو الأكثر إفادةً وانتفاعًا من هذا الرأسمال الرمزي. فالموارد- كما هو معروف- لا تقاس بكميتها وحجمها، وإنما بكيفية إدارتها وحكامتها، لتحويلها إلى عامل ورافعة للتنمية والتطور.

على ضوء هذه المعطيات، سنروم في هذه الإطلالة التاريخية الخفيفة، الوقوف على قيمة الوقت عند بعض أعلام التراث الإسلامي، وكيف كانوا يديرون أوقاتهم؟ في محاولة لاستخلاص سر نجاحهم العلمي والفكري والأدبي.

شخصيات دبرت وقتها فصنعت مجدها

يقول ابن الوردي:

لا تقل قد ذهـبت أربـابـه

                               كل من سار على الدرب وصل

إن هذا المقول الشعري، يصح لوصف مسار الترقي الذي سلكته شخصيات الفكر والثقافة العربية والإسلامية، والذي اتسم بالثبات والصبر والمواظبة. فهذا زهير بن أبي سلمى، كان ينظم القصيدة الواحدة في أربعة أشهر، وينقحها أربعة أشهر، ويعرضها على الشعراء أربعة أشهر، قبل أن يشهرها، فسميت قصائده بـ (حوليات زهير). والأخطل استغرق عامًا كاملاً، يهذب قصيدته التي يقول فيها: «خفّ القطينُ فراحوا منكَ أو بَكَرُوا».

وقد ألف ابن الجوزي كتبًا أكثر من أن تعد، حتى قال فيه ابن خلكان، لو جمعت الكراريس التي كتبها ابن الجوزي، وقسمت على مدة عمره، لكان يكتب في كل يوم تسع كراريس. وتميز جلال الدين السيوطي كذلك، بقلم سيّال أهله ليكتب في كل مسألة مصنفًا بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية، وبلغت مصنفاته زهاء أربعمائة مصنف. وقد جمع عبداللطيف البغدادي بين التدريس بالجامع الأزهر في النهار، والتأليف في الليل، وبلغت مصنفاته حوالي المائة والستين. وهو ما يعني أن الرجل كان أكثر تنظيمًا وحوكمةً لوقته. وأما أبو الفرج الأصبهاني، فقد تتطلب منه كتاب (الأغاني) خمسين عامًا. وألف إلى جانبه كتبًا أخرى كـ(كتاب الإماء الشواعر)، وكتاب الديارات، وكتاب الحانات وآداب الغرباء، وكتاب أيام العرب، وكتاب التعديل والانتصاف في مآثر العرب ومثالبها. ومما يحكى عن ابن الأثير المؤرخ الراسخ في التأريخ الإسلامي، أنه حفظ من الأشعار القديمة والمحدثة ما لا يحصى، لا سيما أبي تمام الطائي، والبحتري، والمتنبي…إلخ.

وكان الفيلسوف الفارابي الذي ألّف ما يقارب ثمانين كتابًا، يزاوج بين الاشتغال في بستان بدمشق، والاشتغال بالفلسفة والنظر فيها، ومطالعة آراء وأطروحات المتقدمين وشرح معانيها. ولم يمنعه ضيق الحال، من المطالعة والتأليف على ضوء قنديل للحارس. واستمر على هذا الحال لمدة، حتى عظم شأنه، وبزغ علمه، واشتهرت كتبه، وكثرت تلاميذه. واستدعاه الأمير سيف الدولة، وأكرمه إكرامًا، وعلت منزلته عنده. وعلى الرغم من هذا الشأو الذي ترقى إليه الفارابي، لم يورثه جشعًا ولا طمعًا، فقد كان قانعًا متعففًا، بحيث كان يقبض من سيف الدولة، أربعة دراهم فضة في اليوم، يستعين بها لقضاء ضروريات عيشه. ومما يذكره الفارابي عن نفسه: قرأت السماع لأرسطو أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودته. ويعترف ابن سينا، أنه مدين للفارابي في تفتح ذهنه وفهمه لكتاب ما وراء الطبيعة، الذي استشكل عليه رغم قراءته أربعين مرة. يقول ابن سينا: «إني قرأت كتاب ما بعد الطبيعة، فما كنت أفهم ما فيه والتبس عليَّ غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظًا، وأنا مع ذلك لا أفهمه، وأيست من نفسي، وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، وإذا إنه يومًا حضرت وقت العصر في سوق الوراقين وبيد دلاَّلٍ مجلد ينادي عليه، فعرضه عليَّ فرددته ردَّ متبرم، معتقد أن لا فائدة في هذا العلم، فقال لي اشترِ مني هذا فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه، فاشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة، فرجعت إلى بيتي وأسرعت إلى قراءته، فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب».

ويروي لنا ابن سينا الكيفية التي كان يسلكها في الدرس والتأليف قائلاً: «كنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السّراج بين يدي وأشتغل بالقراءة والكتابة، حتى إذا غلبني النوم أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب، ريثما تعود إليَّ قوتي، ومتى أخذني النوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيرًا منها انفتح عليَّ وجوهها في المنام».

ومن بين الذين عرفوا وقدروا قيمة الوقت، الفيلسوف ابن رشد الذي قال فيه ابن الأبَّار: «إنه سوَّد في التأليف عشرة آلاف طبق ورقا، وإنه لم يصرف ليلة من عمره بلا درس أو تصنيف إلا ليلة عرسه وليلة وفاة أبيه».

ويحكى أن ابن الصابوني عندما صار خازنًا للكتب المستنصرية ببغداد، لم يرض عن نفسه أن يكون خازنًا لكتب ينتفع بها غيره ولا ينتفع بها هو، ولذلك فقد انكبَّ على الدرس والقراءة والتأليف، فألف مجمع الآداب في خمسين مجلدًا، ودر الأصداف في عشرين مجلدًا كذلك. وهذا ابن القسيس البغدادي، الذي كان مثابرًا وحريصًا على إتقان عمله، فقد نسخ قانون ابن سينا (يقع في عشرين مجلدًا) كله بيده، ولما خرجت النسخة منه، وأصبحت في ملك المدرسة المستنصرية، طلبها وقابلها وصححها ونقّحها، ثم أعادها إلى خزانة المدرسة. وقد رماه مبغضوه وحساده – لقاء هذا السلوك- بالفضول والرياء والتملق…ألخ. فرد عن ذلك: كلا الفريقين مخطئ، وإنما فعلت ذلك لئلا يُزرَى عليَّ بعد موتي.

وقبل أن يشرع الجغرافيون المسلمين في تأليف دررهم النفيسة، التي جمعت الشائع والنادر عن البلدان والآفاق، كان هؤلاء يطوفون ويسيحون ويشاهدون ويسجلون. فالمسعودي طاف البلدان الإسلامية، وزار الهند، وجاب سواحل افريقيا الشرقية، ومنها عبر تجاه الجزيرة العربية. والتاجر ابن حوقل، فقد ظل يتجول بين البلدان مدة ثمانية وعشرين عامًا، ثم ألف مؤلفه الشهير (المسالك والممالك)، الذي ضمنه أخبار رحلاته، ووصف الأقطار التي زارها، واستعرض مدنها وأنهارها وقفارها وثرواتها… إلخ. وفي كاتبه (الإشارات إلى معرفة الزيارات)، يطلعنا الهروي، على معطيات ومعلومات ثرية ومتنوعة المظان، من خلال زياراته إلى بلاد الشام ومصر والمغرب والجزر وبلاد الروم والجزيرة والحرمين واليمن وبلاد العجم والهند. ويعد كتاب (معجم البلدان) للجغرافي ياقوت الحموي، والذي قضى سنين عديدة في الرحلة بين البلدان، من أجلِّ وأنفس الكتب، حيث أحاط فيه بكل البلدان، بأسمائها وجبالها وسهولها وأنهارها وقراها وبحارها وأمزجة سكانها وهواءها… إلخ. ولا يستقيم الحديث عن الجغرافيا والرحلة والأسفار، دون أن نستدعي الرحالة المغربي الطنجي الشهير (ابن بطوطة)، الذي خرج من طنجة عام 725هجرية، وهو بعد لم يتجاوز اثنتان وعشرون عامًا، وتجول في العديد من الربوع في افريقيا وآسيا وأوروبا (الأندلس). وقادته رحلته إلى الهند التي نصب فيها قاضيًا، ودامت غربته 24 عامًا، جمع أخبارها ونوادرها وغرائبها في كتابه الشهير (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار).

وأما العلامة والمؤرخ ابن خلدون، الذي فرضت عليه إقامة جبرية في البادية أربع سنوات، فقد اقتنص هذه الفرصة وحولها من نقمة إلى نعمة، وألف خلالها كتاب (المقدمة)، واستقصى أخبار العرب والبربر وزناتة. كما انتهز مناسبة تواجده بالقاهرة، ليتمم تاريخه اعتمادًا على الكتب المتواجدة بمكتباتها.

من خلال ما سبق، يتضح أن الوقت يُعد أعظم ثروة في حياة الأفراد والشعوب، إذا تم الوعي بقيمته، واستثمر بفعالية وبراغماتية. فالمسارات التي ذكرناها، كافية لتأكيد أن سر النجاح والتقدم، لا يرتبط بالحظ والنحس والسعد الذي كثيرًا ما يلومه الناس، ويعلقون عليه أسباب فشلهم واخفاقهم وتخلفهم، بقدر ما هو رهين بالثبات والمواظبة والصبر والاجتهاد والإصرار والعزيمة والطموح ثم تنظيم وإدارة الوقت. ولعل خير مخلوق حباه الله تعالى بهذه الصفات، هو النمل والنحل. فمن يتأمل حياة هذان المخلوقان، سيقف مشدوهًا ومعجبًا، أيما إعجاب، بهذه الحياة الفريدة، بما هي نظام وتنظيم وتقسيم للعمل ومثابرة واجتهاد وصبر واستثمار للوقت. لهذا فإن عالم النمل والنحل، يعتبر نموذجًا ومدرسة، حري ببني البشر أن يستفيد ويستلهم منها الكثير من الدروس والعبر النفيسة. فقد خاطب الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو أحد أصحابه بقول بليغ «إنك تقرأ هذا الكتاب في ساعات قلائل، ولكني أؤكد لك أنني قد تعبت في تأليفه تعبًا شيَّب رأسي».

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

د. محمد جباري

أستاذ باحث في التاريخ والفكر- المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى