الخطاب الشعري بين الإمتاع والإقناعالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-10-01 01:09:24

د. نجلاء الحداد

أستاذة باحثة في مجال البلاغة وتحليل الخطاب-المغرب

ملخص البحث:

يزعم بعض الباحثين والنقاد أن الشعر يخالف الحجاج ويباينه انطلاقًا من مبدأ أن أساس الشعر فطرة وأنه ينطلق غالبًا من صور الخيال البديع، بخلاف أساس الحجاج الذي يقوم على القصد والقدوم ويتسم بكونه أكثر صرامة وجدة لكونه يحتاج إلى الترتيب والرياضة وتمام الأدلة. من هنا يمكن التساؤل عن مدى طغيان العنصر الجمالي-الإمتاعي على الشعر وعن درجة حضور العنصر الحجاجي- الإقناعي فيه. وهذا ما نسعى إلى تحقيقه من خلال هذه الدراسة التي ترمي إلى بيان أوجه الإمتاع والإقناع في الخطاب الشعري.

تقديم:

كثيرًا ما يتم التمييز بين الجانبين الخطابي والشعري انطلاقًا من كون الإمتاع يمثل أساس  الشعر بخلاف الإقناع الذي يشكل قوام الخطابة "التخييل قوام المعاني الشعرية والإقناع قوام المعاني الخطابية"1، مما يجعل المتلقي يميز بين المفهومين باعتبارهما متماهيين رغم أنهما قد يحضران معًا سواء في الشعر أوفي الخطابة، فكم من خطيب يزخرف خطبته بصور تخييلية وكم من شاعر يحاجج محاولاً استمالة المتلقي.

أساس التخييل في الخطاب الشعري:

يرتبط التخييل بالانفعال الذي يحس به المتلقي نتيجة لتأثره بالشعر "مقاصد التخييل الشعري العمل على تحريك النفس بالبسط والقبض"2، من هنا يمكن القول إنه يرتبط بالجانب النفسي للإنسان؛ فعملية التأثير تتم بطريقة لا واعية ولا دخل للفكر فيها، أي أن عنصر التمويه يكون حاضرًا بقوة ومسيطرًا على ذهن القارئ سيطرة السحر على المسحور.

تتجلى قوة الشعر إذن في قدرته على التأثير على الجانب العاطفي للإنسان، ذلك أن "الذي يدركه الإنسان بالحس هو الذي تتخيله نفسه؛ لأن التخييل تابع للحس"3.

من هنا فالشعر ينطلق بالأساس من التخييل الذي يمثل الحجر الأساس لبناء القصيدة؛ إذ يحاول الشاعر قدر الإمكان إثارة مشاعر المتلقي ودغدغة عواطفه انطلاقًا من منظور جمالي-تخييلي متمثل في جملة من العناصر الشعرية كالوزن والصور الفنية والأسلوب وغيره من المعالم التي تخفي في طياتها هدفه الأساس والمتمثل في استمالة المخاطب. 

• انصهار التخييل والحجاج في الخطاب الشعري العربي:

الشعر تأثير عاطفي:

يختلف الشعر اليوناني عن الشعر العربي إذ أن لكل منهما خصوصيته التي تميزه عن غيره، ذلك أن الأول ينقسم إلى شعر موضوعي وغنائي، وقد منحت مكانة كبرى للأول والذي وصف بـ"الشعر الحق" بخلاف الثاني الذي اعتبر إرهاصًا مهد لظهور المأساة والملهاة "والملهاة هي محاكاة الأراذل من الناس، لا في كل نقيصة ولكن في الجانب الهزلي الذي هو قسم من القبيح (...) والمأساة  هي محاكاة فعل نبيل تام"4، بينما يتصف الشعر العربي بكونه شعرًا غنائيًا، "فجل الشعر العربي أو كله هو من النوع الغنائي ولم يعرف الفلاسفة شيئًا ذا قيمة عن المأساة والملهاة بمعناها الفني الدقيق"5.

يعبر الشاعر في قصائده عن أفكاره وعواطفه تعبيرًا مباشرًا منطلقًا من منطلق التخييل والذي يعرفه القارطاجني قائلاً: "التخييل أن تتمثل للسامع من لفظ الشاعر المخيل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه وتقوم في خياله صورة ينفعل لتخيلها وتصورها أو تصور شيء آخر بها انفعالاً من غير رويّة إلى جهة الانبساط أو الانقباض"6 وكل ذلك  بهدف تثبيت أو تغيير مواقف المتلقي وسلوكه وأفعاله.

جمالية اللغة الشعرية ووظائفها:

تلعب اللغة دورًا مهمًا في إقناع المتلقي وهذا ما يجعل الشاعر ينتقي ألفاظ وعبارات دون غيرها لما لها من أهمية في التأثير في المخاطب ونخص بالذكر الشعر العربي الذي يتصف بكثرة استدلالاته وتفنن مبدعه في توظيف العبارة المختارة بعناية حسب الموضع المناسب لها، يقول القرطاجني "ولو وجد هذا الحكيم أرسطو في شعر اليونانين ما يوجد في شعر العرب من كثرة الحكم والأمثال والاستدلالات واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام لفظًا ومعنى وتبحرهم وحسن تصرفهم في وضع الألفاظ بإزائها وفي إحكام مبانيها واقتراناتها ولطف التفاتاتهم وتميناتهم واستطراداتهم وحسن مآخذهم (...) لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية"، كما أن الشاعر يربط بين الملفوظات الحجاجية لإقناع المخاطب بوجهة نظره؛ وقد فصل القرطاجني القول في مسألة جواز استعمال الشاعر للأقاويل الإقناعية مشترطًا ضرورة ارتباطها بغرض القصيدة وتبعيتها للأقاويل المخيلة "ينبغي أن تكون الأقاويل المقنعة الواردة في الشعر تابعة لأقاويل مخيلة مؤكدة لمعانيها، مناسبة لها في ما قصد من الأغراض"7  علاوة على السياق والذي يحيلنا على ظروف القصيدة وملابساتها، و يربط بين الشاعر والمتلقي وقد أشار ديكرو في نظريته الحجاجية إلى العلاقة التي تجمع بينهما وسماها بعلاقة "التوجيه" إذ اعتبر أن غاية الخطاب الحجاجي تتمثل في أن تفرض على المخاطب نمطًا من النتائج باعتبارها الوجهة الوحيدة التي يمكن للمخاطب أن يسير فيها وتحرص على توجيه المخاطب إلى وجهة واحدة دون سواها"8.

القيم المشتركة وسيلة لاستمالة المتلقي:    

تعتبر القيم منطلقا من المنطلقات التي ينطلق الشاعر للدفاع عن آرائه ومواقفه، وقد فصل بيرلمان الحديث عن القيم حيث ميز بين كل من القيم الملموسة والمجردة "القيم المجردة كالجمال أو العدل، والقيم الملموسة كفرنسا أو الكنيسة. القيمة الملموسة هي التي ترتبط بكائن أو شيء أو جماعة أو مؤسسة منظور إليها"9.

اعتبر الشاعر العربي منذ القدم لسان حال قبيلته، حيث عمل على الدفاع عنها من منظور أخلاقي ليبرز تفوقها عن غيرها من القبائل منطلقًا من قيم مجردة "إذا قلبنا دواوينا الشعرية أدركنا أن الشاعر متى احتج لحبه وبرر تعلقه بالحبيب وعجزه عن السلو والفراق استند إلى جمال المرأة الساحر الأخاذ، ثم إن الشاعر العربي متى دافع عن قضية جعلها حقًّا خالصًا وإن دعا إلى أمر ألبسه لباس الحقيقة ونفى أن يكون مجرد احتمال"10 . ولعل خير مثال على ذلك عنترة بن شداد الذي يتغنى بجمال محبوبته في أشد أوقات الحسرة والألم إذ نجده يقول:

 "ولقد ذكرتك والرماح نواهل

                      مني وبيض الهند تقطر في دمي

 فوددت تقبيل السيوف لأنها

                      لمعت كبارق ثغرك المتبــــــسم" 11

يعبر الشاعر عن مدى تعلقه بمحبوبته منطلقًا من الرابط الحجاجي "لقد" لكي يؤكد الخبر الذي سيعلن عنه بعد ذلك، والمتمثل في تعلقه بعبلة وشغفه بها لدرجة الجنون.

وصف عنترة مدى قدرته على الصبر والتجلد وذلك بفضل لشجاعته وعدم تخوفه من المخاطر المحيطة به محاولاً إقناعنا بإخلاصه لمحبوبته التي يستحضرها في أصعب لحظات حياته، وحينما وصف حالته ربط بين جملتي صدر وعجز البيت الأول بالرابط "واو الحال" ليعزز مسألة حبه لعبلة الذي جعله يقوى بمجرد استحضار صورتها، فبدل أن يسقط ممدّدًا على الأرض جراء إصابته قبّل السيوف التي أصابته. ولم يقف عند هذا الحد بل تجاوزه إلى تشبيه لمعان السيوف ببريق فم محبوبته الجميلة. ويتضمن البيتان قيما أخلاقية مجردة تتجلى في الوفاء المعبر عنه بذكر الحبيبة في أصعب اللحظات، والشجاعة المتضمنة في عدم اكتراثه لإصابته الخطيرة وعدم خوفه من الموت المحيط به، وكذا الجمال الذي استضمره حينما وصف مدى جمال ثغر المحبوبة.

من هنا فلا يمكننا إنكار انصهار كل من التخييل والإقناع في بيتي عنترة.

نخلص إلى أن الشعر العربي- الجاهلي هو شعر غنائي بالأساس يعطي أهمية كبيرة للذات ونوازعها، إلا أن هذا لم يمنع الشاعر من الاهتمام بمحيطه ومحاكاته معبرًا عن قيم مجتمعه وعن أفكاره وانفعالاته، وكذا نقلها إلى المتلقي للتأثير فيه وتثبيت سلوكه ومواقفه أو تغييرها، إنه لا يهتم فقط بخلق صور جمالية ممتعة، فهذا الجمال الظاهر يخفي في طياته حجاجًا موجهًا بالأساس لإقناع المتلقي. وبالتالي فلا يمكن فصل الإمتاع عن الإقناع في الشعر.

 

الهوامش:

1 - محمد طلحة" الحجاج في القول الشعري أبو الطيب نموذجا مجلة اللغة والآداب كلية اللغات الجزائر العدد نونبر 2009.19 ص353.

2 - سعد مصلوح حازم القرطاجني ونظرية المحاكاة والتخييل في الشعر ط 2 القاهرة عالم الكتب 2015 ص 167

3 - نفسه ص198

4 - أرسطو "فن الشعر" تحقيق عبدالرحمن بدوي مكتبة النهضة المصرية 1953  ص 69-70

5 - سعد مصلوح "مرجع سابق" ص 99

6 - حازم القارطاجني منهاج البلغاء وسراج الأدباء تقديم وتحقيق محمد الحبيب بن خوجة تونس 1966م ص 89.

7 - حازم القرطاجني "المنهاج" مرجع سابق ص 361-363.

8 - سامية الدريدي "الحجاج في الشعر بنيته وأساليبه" عالم الكتب تونس ط 2011. ص 23

9 - الحسين بنو هاشم "نظرية الحجاج عند شايم بيرلمان" دار الكتاب الجديد المتحدة الطبعة الأولى 2014.ص46.

10 - سامية الدريدي "المرجع نفسه" ص 272-273

11 - ديوان عنترة بن شداد تحقيق ودراسة محمد سعيد مولوي المكتب الإسلامي دمشق ط 2 1983م.

المصادر والمراجع المعتمدة:

1 - ديوان عنترة بن شداد تحقيق ودراسة محمد سعيد مولوي المكتب الإسلامي دمشق ط 2 1983م.

2 - أرسطو "فن الشعر" تحقيق عبد الرحمان بدوي مكتبة النهضة المصرية 1953 ص 69-70.

3 - حازم القارطاجني منهاج البلغاء وسراج الأدباء تقديم وتحقيق محمد الحبيب بن خوجة تونس 1966م ص 89.

4 - سامية الدريدي "الحجاج في الشعر بنيته وأساليبه" عالم الكتب تونس ط 2011. ص 23.

5 - الحسين بنو هاشم "نظرية الحجاج عند شايم بيرلمان" دار الكتاب الجديد المتحدة الطبعة الأولى 2014.ص46.

6 - محمد طلحة"الحجاج في القول الشعري أبو الطيب نموذجا مجلة اللغة والآداب كلية اللغات الجزائر العدد نونبر 2009.19 ص353.

7 - سعد مصلوح حازم القرطاجني ونظرية المحاكاة والتخييل في الشعر ط 2،القاهرة عالم الكتب 2015 ص 167.


عدد القراء: 2775

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-